استباحة النظام الإيراني المنطقة العربية… مرجعيات الراهن

استباحة النظام الإيراني المنطقة العربية… مرجعيات الراهن

349

يجد الناظر في الدور الإيراني الإقليمي، وخصوصاً في المنطقة العربية، أن ما يفعله نظام الملالي الإيراني في المنطقة العربية، من تفتيتٍ وتخريب، على أساسٍ مذهبي، أسهم في تخريب دولها وتغيير تركيبتها الديموغرافية، وتمزيق النسيج الاجتماعي المتراكب منذ آلاف السنين، حيث يستغل هذا النظام حالات اللا استقرار والتردّي والأزمات لإشعال حروبٍ مذهبيةٍ ما بين أبناء البلد الواحد، عبر تشكيل مليشيات مذهبية يستخدمها أذرعاً أخطبوطية، بدعاوى زائفة، بغية تحقيق مشروع هيمنة وسيطرة، فحيثما نلتفت في كل من سورية والعراق ولبنان واليمن وسواها، نجد أطراف هذا الأخطبوط المهووس بمعارك الماضي الغابر تمعن في تخريب النسيج الاجتماعي والتركيبة الديموغرافية، فضلاً عن استغلالها كل الأساليب القذرة لبسط النفوذ والهيمنة، مهما كان الثمن، ويظهر ذلك جلياً في التحالف المذهبي مع نظام الاستبداد الأسدي، والسيطرة الإيرانية القوية على معظم القوى السياسية في كل من لبنان والعراق واليمن، والتي أنتجت طائفيةً سياسية، تجد مرجعيتها الدينية والسياسية لدى ملالي إيران، وهي قوى شكلتها، أو أسهمت في تقويتها ورعايتها، وخصوصاً في لبنان والعراق.
ويشكل كل من لبنان والعراق نموذجاً للقوى السياسية المذهبية والمليشياوية التي شكلها نظام الملالي، أو على الأقل، رعاها وما تزال تتلقى رعايته ودعمه وتوجيهه، وهي مليشيات لا تدين بالولاء للوطن أو الدولة التي توجد فيها، ولا تكترث بمكوناتها الاجتماعية، الشيعية أو السنيّة وغيرها، وما تقوم به من عمليات إرهاب وجرائم، يصيب الجميع، ولا تمثل من تدّعي الانتماء المذهبي إليهم، بل أوامر نظام الملالي ومخططاته.
وليس ذلك وحسب، بل إن نظام الملالي رعى مصالحاتٍ بين القوى والأحزاب المذهبية الشيعية في العراق. كان أهمها، المصالحة ما بين مقتدى الصدر، مع قادة مليشيات “الحشد الشعبي” الذي يستخدمه نظام الملالي لتنفيذ مخططه في استكمال حزامهم المذهبي الشيعي، الواصل بين إيران وسورية مروراً بالعراق، عبر تلعفر والموصل، بالتعاون مع حليفهم حزب العمال الكردستاني الموجود في بعض مناطق وجبال سنجار، حيث يريد نظام الملالي من هذا الحزام أن يسهم في تزويد نظام الأسد في سورية بالمليشيات المذهبية العراقية والإيرانية، وفي دعمه ومده بالمعدات العسكرية واللوجستية. كما قام نظام الملالي برعاية لقاء ما بين الصدر وخصمه اللدود نوري المالكي، صاحب الدور الأكبر في تسليم الموصل لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والمسؤول عن “فرق الموت” التي قامت بتصفيات واغتيالات لكوادر علمية وعسكرية عراقية، انتقاماً لدورهم في الحرب العراقية الإيرانية، فضلاً عن تصفية الأصوات المناهضة للطائفية السياسية، ولدور نظام الملالي في العراق.
ولعل دور نظام الملالي الحاضر بقوة في الصراع على سورية يكشف طبيعة وتركيبة العقل

السياسي الإيراني السائد، المتحكم في ساسته، حيث يشير النهج الذي اتبعه هذا النظام منذ البداية في معاداة الثورة السورية، والدعم الهائل لنظام الاستبداد الأسدي، قرين نظامهم في النهج والممارسة والتوجهات، يشير إلى حجم التورط والتورّم الذي أصابه، إذ لم يتوان نظام الملالي من زجّ مختلف أنواع الميليشيات المذهبية، بدءاً من حزب الله اللبناني، ومروراً بالمليشيات العراقية، “أبو الفضل العباس” و”النجباء” و”عصائب الحق”، وصولاً إلى المليشيات الأفغانية، “فاطميون” و”زينبيون” وسواهم، فضلاً عن زجّ وحدات عديدة من الجيش الإيراني والمستشارين وضباط الحرس الثوري في الحرب ضد غالبية السوريين، يتقدمه قائد فيلق بدر في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، الذي كان نظام الملالي يحرص، على الدوام، تسريب صور له مع قادة المليشيات في مناطق عديدة في كل من سورية والعراق.
ويمكن القول إن ما يقوم به نظام الملالي الإيراني في الدول العربية المشرقية مبني على دعاوى مذهبية خادعة، لا تمتّ للمذهب الشيعي بصلةٍ، ولا للدين الإسلامي، إنما تجسّدها سردية فارسية ثأرية، تضرب جذورها في الوعي السياسي الإيراني السائد، الذي أنتج، منذ زمن بعيد، مشاعر وسرديات معادية للعرب، وللسنّة. لم تستوردها تشكيلات الوعي الإيراني من الوعي الغربي، لأنها نتاج سيرورة التفكير القومي الفارسي والسياسي الإيراني في القرن التاسع عشر، على الرغم من أنها كانت متأثرةً بالنظريات العرقية والفاشية في الغرب الأوروبي، وتفاقمت مع وصول الملالي إلى حكم إيران، وسعيهم إلى تحقيق مشروع هيمنة وتسلط على المنطقة.
وتستلزم قضية البحث في جذور ما يقوم به نظام الملالي العودة إلى ما شهدته إيران في القرن العشرين، من سياساتٍ قام بها نظام رضا بهلوي، وتركّزت على إخضاع الجماعات غير الفارسية، حيث عمل الجيش على تنفيد سياسات تغييرٍ ديموغرافي، كان هدفها بعثرة الجماعات الأهلية، لكي يشكلوا أقليةً في كل موقع، وفُرض على الرجال والنساء ارتداء الثياب والقبعات الأوروبية، بدل الملابس التقليدية المميزة لكل إثنية، وحرّم رضا خان الذي صار فيما بعد رضا شاه بهلوي استخدام التقويم القمري الإسلامي، واستعاض عنه بالتقويم الشمسي الفارسي، وجرى تمجيد إيران ما قبل الإسلام على أيدي النظام البهلوي، واخترعت سرديات وروايات ثقافية تلعن العرب والمسلمين لتسببهم في انحدار إيران من العظمة التي كانت عليها في مرحلة ما قبل الإسلام. وسعى النظام البهلوي إلى تغيير الهوية الإثنية للشعوب غير الفارسية في إيران، بهدف جعلها جزءاً من الأمة الإيرانية الحديثة، واتبع سياسة تفريس إيران، من خلال إصلاح اللغة و”تنقيتها” من المفردات والعبارات ذات الأصول العربية.
غير أن الأمور لم تتغير كثيراً في سبعينيات القرن العشرين المنصرم وثمانينياته، إذ ومع قيام نظام الملالي الذي سمى نفسه “جمهورية إيران الإسلامية”، جرى إدراج الإسلام الشيعي بوصفه جزءاً من الهوية الثقافية الإيرانية الفارسية، ووضع الآخر السني، العربي، في حالة خصام وصراع دائمين مع الأنا الشيعي، الفارسي.
وتبنى المتشدّدون في نظام الملالي مشروعاً إيديولوجياً دينياً، يتخذ تلاوين مختلفة في المنطقة، ويقف وراءه عقلٌ سياسي، يخلط ما بين الديني والقومي، أي ما بين العقيدة المؤولة مذهبياً، وفق فهم رجال دين متزمتين، وبين الطموح القومي الضارب في عمق الإيديولوجيا، والتاريخ الغابر، ما جعل منه مشروعاً جامعاً ما بين السعي إلى الهيمنة وإلى التغيير، وهادفاً إلى تحقيقهما بمختلف الوسائل، المشروعة وغير المشروعة.

في الأدب الفارسي
ويضرب هذا النمط من التفكير الإيراني السائد عميقاً في مختلف الميادين، حيث تكشف صورة

العرب في الأدب الفارسي الحديث عن بعض آليات اشتغال الخطاب القومي الإيراني في عملية تمثله الآخر العربي، من خلال تتبع نصوصٍ أدبيةٍ ترسم صورة العرب، وتبيان دلالاتها في السياقين الأدبي والتاريخي، والعمل على إبراز الأبعاد المتخيلة في هذا التمثيل، من جهة كونها صوراً نمطية وأحكام ومواقف، بقدر ما تنهل من خزانٍ رمزيٍّ يكثّف الوجداني والعقدي والقدسي، فإنها تتبلور في شكل تدخلاتٍ وصداماتٍ ومعارك جرت في غابر الأزمان.
ويقتضي ذلك الوقوف عند ما أنتجه الخطاب الفارسي من طرقٍ لإدراك الآخر وتمثله، والتساؤل عما يعبّر عنه من إرادة للمعرفة بالآخر، في مختلف التمثيلات، الأمر الذي يطرح أسئلةً محرجة أمام الفكر الإيراني السائد، المنتج له، ولنمطه المهيمن، خصوصاً في هذه المرحلة التي تختلط فيها الرؤى والتصورات بالمصالح والرغبات، وتعيث فيها مختلف النزعات والعصبويات ما قبل المدنية.
وفي الأدب الفارسي الحديث، تظهر صورة العربي، بوصفها جزءاً من الإجابة عن سؤال الذات الإيرانية، حيث شكل مفهوم “الإيراَنيَة” هاجساً أدبياً، بل ومشكلةً سياسيةً واجتماعية انعكست في مختلف أنواع الأدب، بوصفها مشكلة البحث عن الهوية التاريخية والثقافية والقومية، حيث لجأ أغلب كتاب الأدب الفارسي الحديث إلى تصوير إيران أمة واحدة، من خلال تعريفهم للعربي، بوصفه الآخر. وهو تعريفٌ مقلوبٌ للإيراني، بوصفه الذات، بمصطلحات العرق واللغة أحياناً، وبمنظور الآخر، بمصطلحات الدين والتاريخ والثقافة أحياناً أخرى، وهو مسعى شكّل جانباً من إيجاد القومية الإيرانية وتشكيلها في القرن العشرين المنصرم.
وفي سياق الحفر في الذاكرة الفارسية، ترى الأكاديمية الأميركية، جويا بلندل سعد، أن النزعة القومية الإيرانية ثيمة ملحة في الأدب الفارسي الحديث، يعثر عليها في وصف التاريخ الاجتماعي واللون المحلي والعادات واللهجات وسوى ذلك. وتعني النزعة القومية الولاء والإخلاص للأمة. أما الكاتب الإيراني، شاه رخ مسكوب، فيعتبر أنه، منذ مجيء الإسلام إلى إيران، تأسّس الوعي القومي الإيراني على اللغة الفارسية، وعلى تاريخ ما قبل الإسلام، بالنظر إلى عاملي التاريخ واللغة. وعليه، تمّ تعريف إيران أمة من خلال اللغة والتاريخ المشتركين.

مفهوم “الإيرانية”
في المقابل، يوضح واقع إيران التاريخي أنها بلد ذو تنوع إثني كبير، فهناك الفرس، وهناك جماعات قومية أخرى من الأتراك الأذريين، والتركمان، والغاشاي الأتراك، وقبائل بدوية ناطقة بالتركية، والأكراد، واللور، والبلوش، والعرب، والأرمن، والآشوريين. وهم مميزون على الصعيد الثقافي، ولكل جماعةٍ منهم لغة وثقافة مشتركة، تميزها كثيراً أو قليلاً عن الجماعات الأخرى في إيران. وكانت مقاطعات خوزستان وجيلان وخراسان، إضافة إلى قبائل بدوية عديدة، تتمتع عملياً بالحكم الذاتي قبل عام 1919.
غير أن مفكرين إيرانيين سعوا، مع بداية الوعي القومي الحديث، إلى تأسيس تعريف جديد

لمفهوم الإيرانية، بُني على الماضي ما قبل الإسلامي، فصوّر بعضهم إيران ساسانية، وأخمينية، دمّر حضارتها المزدهرة “البداة المتوحشون”، فرأى عدد منهم في الإسلام ديناً غريباً فرضته أمة “سامية” على “الأمة الآرية النبيلة”، وراحوا يصوّرون العرب المسلمين “حفنة من آكلي السحالي، الحفاة العراة، بدو يقطنون الصحراء، إنهم العرب المتوحشون”.
وبالاستناد إلى التمثيل الذي تقدمه، وتغذّيه عناصر عديدة، ثقافية ودينية، مذهبية، وتاريخية وجغرافية، صيغت النزعة القومية المذهبية الإيرانية، في التفكير السياسي، وفي الأدب وسواه، استناداً إلى نوعٍ من النزعات التمركزية التي تغري الذات المتوهمة بأوهام التفوق والنقاء والصفاء، وتجعلها قطباً يسم الآخر بالدنس والدونية والاختلاط. وعليه، تغدو هذه النزعة المغالية نوعاً من التعلق بتصورٍ مضاعف عن الذات والآخر. وهو تصوّر لا يصدقه غالبية الشعب الإيراني، كونه مخادعٌ وفارغ، ينهض على الثنائيات التي تقوم على الفصل والإحالة والتمايز والتراتب والتعالي، وتأتي القصص والمرويات، عبر الزمن، لتراكم الصور النمطية المتخيلة الناتجة عنها.
غير أن المشكلة أن نظام الملالي ثيوقراطي، يحتكر المقدّس، ويلغي الآخر المختلف معه، ويبيح تصفيته، متّخذاً مختلف الذراع والحجج، بالاستناد إلى هلوساتٍ وسردياتٍ مختلقة، ويعمل على زرعها في عقول ثلةٍ من المتطرفين، لكي يصبحوا مشحونين بدواعي الانتقام التاريخي المذهبي، ويسوّق ذلك لجموعٍ من الناس البسطاء الجاهلين حقيقية مشروعهم، الهادف إلى الهيمنة والتسلط على الدول العربية، بينما لا يكترث نظام الملالي الإيراني، في حقيقة الأمر، لا بالعرب الشيعة ولا بسواهم، إنما يستخدمهم وقوداً في حروبه الثأرية، يساعده في ذلك مهووسون بالمشروع الفارسي، أمثال حسن نصر الله وقيس الخزعلي وهادي العامري ونوري المالكي وسواهم، ممن باعوا ولاءهم لملالي إيران، وراحوا يعملون وفق أجندة ملاليها الجاثمين على صدور الشعب الإيراني منذ ما يقارب العقود الأربعة.

عمر كوش

صحيفة العربي الجديد