تحلُّل النسيج الاجتماعي في الموصل التي كانت مثالاً للتسامُح

تحلُّل النسيج الاجتماعي في الموصل التي كانت مثالاً للتسامُح

قبل أكثر من عامين، هرب مزارع مسيحي في السبعينات من عمره، اسمه موسى زخريا، من قريته بالقرب من الموصل، ولم يصطحب معه سوى بنطاله الذي عليه، كما قال. وترك وراءه منزله “أطناناً من القمح” وسيارة من طراز “بي أم دبليو”.
أما الآن وقد حُررت بلدته من قوات “داعش”، وكانت هدفاً مبكراً لقوات الأمن العراقية بينما تغذ السير نحو مدينة الموصل، فلا يشعر زخريا بالابتهاج، وإنما بالخوف مما ينتظره إذا حاول العودة إلى بلدته. وقد تحدث باكتئاب وحسرة عن التنوع الذي طالما كان في مدينته، وكأنه شيء غير قابل للتحقيق راهناً. وقال: “في ذلك الوقت كان المسلمون والمسيحيون يعيشون مثل الإخوة”.
وهناك مصعب جمعة، وهو شيعي كان يعيش في منطقة الموصل، والذي قال إنه هو أيضاً لن يعود إلى قريته. وقد انتقل إلى مدينة النجف في جنوبي العراق؛ حيث يمتلك سوق غذاء مركزياً وحيث زين منزله بصور وتحف قديمة من بلدته الأصلية. وكان الأيزيديون والأكراد والشباك، وأقليات أخرى يشكلون ذات مرة قطعاً حيوية من النسيج الإنساني في الموصل، قد غادروا هم الآخرون أيضاً. ويقول العديدون من العرب السنة الذين يشكلون معظم سكان الموصل إنهم لن يعودوا إلى موطنهم مرة أخرى أبداً، على الرغم من وجود قبور آبائهم وأجدادهم هناك.
قبل أن يبدأ احتلال “داعش” للموصل قبل أكثر من عامين، كانت الموصل المدينة العراقية الأكثر تنوعاً. وجعلت منها ثقافتها الغنية التي تمتد وراء إلى الأشوريين القدماء واشتهارها بالتسامح رمزاً حيوياً لعراق استطاع أن يحرص على الأقل على أن يكون أمة موحدة واحدة.
والآن، وبينما يراقب المدنيون المنفيون من الموصل المعركة من أجل مدينتهم وهي تتكشف، فإن الشيء الوحيد الذي يبدو أنهم يشتركون فيه هو الاعتقاد بأنهم اشتركوا ذات مرة في تاريخ خاص لا تمكن استعادته أبداً.
بعض ذلك المعتقد، وليس كله، كان قد تمزق بعد غزو العراق تحت القيادة الأميركية في العام 2003، عندما شعر العديد من المسيحيين بأنهم مهددون فهربوا، بينما خاض العرب والأكراد قتالاً بسبب عداوات قديمة. فجأة، خرجت الموصل، موطن العديد من ضباط الجيش البعثيين السابقين، من تحت السلطة بعد الغزو وأصبحت مركزاً للتمرد السني، وحصنا لتنظيم القاعدة في العراق، سلف “داعش”.
يقول جعفر خليل، 46 عاماً، الذي غادر الموصل في العام 2014 بعد استيلاء “داعش” عليها: “حتى العام 2003، كان مجتمع الموصل ينعم بتعايش سلمي، لكن الأمور تغيرت بعد ذلك. السنة لا يثقون في الشيعة ولا الأميركيون الذين يقفون خلفهم”.
وراء في ذلك الحين، كان هناك ترابط اجتماعي بين الأقليات في العراق، والذي وفر الأمن على الأقل في مقابل التسامح مع الاستبداد والافتقار للحريات الشخصية في ظل حكومة صدام حسين التي كانت بقيادة طبقة نخبوية من مواطني الأقلية السنية العراقية. واليوم، ثمة حنين واسع النطاق إلى ذلك الزمن، على الرغم من أنه لا يشارك في هذا الحنين معظم الأغلبية الشيعية العراقية التي توجد في السلطة الآن.
وقال صباح سليم داود، 62 عاماً، المسيحي من الموصل: “لأجيال كانت الحياة طبيعية هناك. في المصانع وفي المزارع وفي المكاتب لم يكن أحد يسألك -من أنت؟”.
والآن، ثمة إحساس بالحزن يبدو أنه دائم. ويقول عمر أحمد، 29 عاماً، والذي كان يعمل موظفاً في وزارة الصحة في الموصل، وأصبح الآن منفياً في المنطقة الكردية الشمالية: “لا يستطيع المرء توصيف ما يفتقده في كلمات”.
يعرض التجول في كنيسة سلبت مؤخراً في بارتيلا، البلدة المسيحية في معظمها عند حافة الموصل، مرثاة ما فقد. فقد أُحرقت بعض الجدران، وانتشرت على الأخريات رسومات “داعش”. وثمة لوح أبيض في مدخل غرفة يعدد الجدول اليومي لمجندي التنظيم -تمارين اللياقة وتعليمات الأسلحة ودروس الشريعة الإسلامية. ومنثورة على الأرض، ثمة أشياء مغبرة تذكر بأولئك الذين كانوا يصلّون في المكان ذات مرة: كتب قصص مسيحية، نسخ من “فصلية الصحيفة الاجتماعية والثقافية” التي تنشرها الكنيسة الكلدانية، وتمثال صغير لسانتا كلوز، وصور لفتيات مدارس، ووردة بلاستيكية قرنفلية.
وكان دليل سياحي عراقي من ثمانينيات القرن الماضي قد احتفى بالموصل كمدينة جعلها تاريخها الغني موضعاً للغزوات العربية الكبرى المهمة لماضي المنطقة ما قبل الإسلام، مما جعلها “مدينة ذات أهمية كبرى”.
اسمها المجازي “مدينة الربيعين” -لأن فصلي الخريف والربيع متشابهان كثيراً في الطقس -كان اختباراً لحيوية المدينة. وأشار دليل السياحة إلى أنه “منذ العام 1969 كان يعقد مهرجان ربيعي كل عام في الموصل… وكانت مواكب الزهور والرقص الفولكلوري الذي يؤديه آلاف الأشخاص من كل مشارب الحياة يضفي الكثير من الحبور على المكان”.
كان الموصليون يعرفون بلكنتهم الخاصة ونكاتهم التي يستند العديد منها إلى سمعتهم بأنهم بخلاء، فيما يعود وراء إلى مجاعة حلت بهم في العام 1917، عندما عانوا بعدما استولت الإمبراطورية العثمانية على الغذاء من المدينة لإطعام جيشها الجائع. ومع أن باقي العراق معروف بكرمه، فإن هناك نكتة شائعة عن الموصليين تقول إن الوقت الوحيد الذي يدعوك فيه الموصلي لتناول طعام الغداء يكون في رمضان، شهر الصيام.
حتى مع ذلك، تعرف الموصل أيضاً بطعامها، وخاصة كبة الموصل، أقراص البرغل المحشوة بلحم مفروم والمشهورة في عموم العراق. وثمة وفرة من التراث الثقافي وبقايا الإمبراطوريات والكنائس القديمة والصوامع والمقابر والأضرحة ومحلات التحف، وكلها مهمة ليس للموصل وحسب، وإنما لعموم الشرق الأوسط الأوسع. لكن كل شيء دمر أو شوه تقريباً على يد “داعش”.
إعادة لم شمل المدينة مجتمعياً من جديد “سوف تستغرق وقتا طويلاً جداً جداً” كما تقول رشا العقيدي، العربية السنية التي تعيش حالياً في دبي في دولة الإمارات العربية المتحدة؛ حيث تعمل زميلة بحث في مركز المسبار للدراسات والبحوث، وحيث تكتب عن مدينتها الموطن: “أعتقد أن كل طرف سيعيش وفق طريقته الخاصة. الأيزيديون سيعيشون وفق طريقتهم الخاصة. وكذلك سيعيش السنة وفق طريقتهم الخاصة”.
وتتذكر، أنه كان في فصلها الدراسي عندما كانت طفلة سبع مسيحيات وسبع أو ثماني كرديات وأيزيديتان أو ثلاث وشيعية أو اثنتين، والبقية من العرب السنة. وقالت وكانت هناك أربع أو خمس لغات يتم التحدث بها، بالإضافة إلى ثلاثة أديان وطائفتين من المسلمين.
وقالت رشا: “إنك لا تجد هذا التنوع في أي مكان آخر”. وكانت تمر في طريقها إلى المدرسة بتمثال ضخم مجنح من الأزمنة الأشورية، والذي دمره “داعش”. وتقول: “إنني أشعر فعلاً بالأسف الآن لأنني كنت قد صدقت قولهم”.
ربما يكون أكثر ما يؤلم هو مشاهدة أصدقاء سابقين وقد تحولوا إلى أعداء. ويرى محمد سيد، 26 عاماً، أن الخيار الوحيد الذي كان أمامه عندما استولى “داعش” على الموصل كان المغادرة أو التعرض للقتل. ومثل العديد من الشيعة، انتقل في نهاية المطاف إلى النجف، المدينة المقدسة لدى طائفته، حيث يخبز العجين الآن ويبعه خبزاً في الشارع.
ويقول: “لقد دمرت الدولة الإسلامية طفولتي وذكرياتي. لقد أحالوا بعضاً من أصدقائي إلى إرهابيين وقتلة، بعض أصدقائي الذين درست معهم في المدرسة الابتدائية والمدرسة الثانوية واحتفظ بأجمل الذكريات معهم. لكنهم انضموا إلى الإرهابيين وأصبحت بالنسبة إليهم كافراً”.
لا شك أن مهمة تجميع العراق ولم شمله معاً ستكون معقدة إلى حد كبير. لكن الأمور تتجمع كلها، بالنسبة للعراقيين الذي شُردوا، في عاطفة إنسانية بسيطة.
ويقول فلاح مصطفى، وزير خارجية المنطقة الكردية، في نقاش موسع في أربيل مؤخراً عن مستقبل الموصل: “المشكلة الرئيسية في العراق تكمن في التعامل مع الخوف”. وخلص إلى القول متأسياً: “إنه لأمر مؤسف جداً ومؤلم جداً أن يخونك جارك”.

تيم أرانغو

صحيفة الغد