قراءة في كتاب: فوكو، الجنوسة، والثورة الإيرانية

قراءة في كتاب: فوكو، الجنوسة، والثورة الإيرانية

في شباط من عام 2004 حلّت الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لانتصار الثورة الإيرانية، إذ تمكن الإيرانيون فيما بين أيلول (سبتمبر) 1978 وشباط (فبراير) 1979، وفي خضم ثورة مدنية شارك فيها الملايين؛ تمكنوا من إسقاط نظام محمد رضا شاه بهلوي (1941 – 1979) الذي قاد برنامجاً فاشستياً نحو التحديث الثقافي والاقتصادي. مع نهاية عام 1978 سيطر التيار الذي يقوده آية الله الخميني على الانتفاضة المعلنة ضد النظام، والتي شارك فيها قوميون علمانيون، وديمقراطيون، ويساريون. لقد سيطر الإسلاميون على الشعارات وعلى تنظيم الاحتجاجات، مما سبب ضغطاً على العديد من النساء العلمانيات لارتداء الحجاب (الشادور)، من باب التضامن مع المسلمين التقليديين في إيران. ومع حلول شباط (فبراير) 1979، غادر الشاه البلاد وعاد الخميني ليتسلم السلطة. في الشهر التالي، قام برعاية استفتاء عام أعلن بموجبه إيران جمهورية إسلامية، وبالأغلبية المطلقة. وسرعان ما بدأ الخميني يحوز على السيطرة المطلقة، ويبدأ عهداً من الإرهاب (a reign of terror).

واشتد الانقسام بين المثقفين اليساريين والتقدميين حول العالم في تقييمهم للثورة الإيرانية. فبينما دعموا الإطاحة بالشاه، فإنهم كانوا أقل تحمساً تجاه فكرة الجمهورية الإسلامية. لقد زار فوكو إيران وكتب عنها خلال هذه الفترة. إنها فترة كان يتربع خلالها على قمة سلطته الثقافية. فكتاب (المراقبة والمعاقبة) صدر قبل أربع سنوات فقط من ذلك الوقت، والملجد الأول من (تاريخ الجنسانية) صدر في 1976، وكان فوكو لا يزال يحضّر المجلدين الثاني والثالث منه. ومذ نشرت، تنامت سمعة هذه الكتب بقوة، وساعدتنا على استيعاب مفاهيم متعلقة بالجنس، الجنسانية، المعرفة، السلطة، والثقافة، لكن بطرق جديدة وهامة. وعلى العكس من ذلك، فقد لاقت كتاباته الشاملة ومقابلاته حول إيران مصيراً مخالفاً تماماً، فقد تم تجاهلها، واستبعادها حتى من قبل مفكرين يعرفون بقربهم من وجهات نظر فوكو.

تذكرنا المحاولات التي جرت بهدف تحييد كتابات فوكو حول إيران من خلال وصفها بأنها كانت نتيجة (حسابات خاطئة) أو بأنها (لافوكوية)؛ تذكرنا بما نقده فوكو بالذات في مقاله المشهور عام 1969 بعنوان (ما هو الكاتب؟)، إذ قال: “عندما نضم بعض الكتابات إلى أعمال كاتب ما، ونحذف كتابات أخرى، على أنها كتبت (بأسلوب مختلف)، أو أنها (دون المستوى) فإننا نصنع وحدة أسلوبية وانسجاماً نظرياً”. ويضيف فوكو: “إننا نقوم بذلك من خلال تمييز بعض الكتابات باعتبارها أصيلة، وتحييد كتابات أخرى لا تتناسب مع نظرتنا إلى ما يجب أن يكون عليه الكاتب” (رابينو 1984).

طوال حياته، اعتبر فوكو أن مفهوم الحقيقة يعني النظر إلى حالات يعيش فيها الناس في الخطر مهددين بالموت، إنه المكان الذي يولد فيه الإبداع. وفي تراث فردريك نيتشه، وجورج باتاي، أعجب فوكو بالفنان الذي دفع الحدود إلى أقصى مدى، وكتب بتأثر عظيم مدافعاً عن اللاعقلانية التي كسرت الحواجز الجديدة. في عام 1978 وجد فوكو مثل هذه الإمكانيات المَرضية لمخالفة وانتهاك الحدود في الشخصية الثورية لآية الله الخميني، والملايين الذين خاطروا بحياتهم في السير وراءه على طريق الثورة. لقد عرف أن مثل هذه التجارب التي تحصل عند حدود قصوى تقود إلى أنواع جديدة من الإبداع، فأعلن بحماس بالغ دعمه. كانت هذه أول مرة يختبر فيها فوكو الثورة، وقاد ذلك إلى مجموعة من أوسع كتابات فوكو عن موضوع لا علاقة به المجتمع الغربي.

مراحل مميّزة

زار فوكو إيران لأول مرة في أيلول (سبتمبر) من عام 1978، ثم قابل الخميني في منفاه في ضواحي باريس في تشرين أول (أكتوبر). سافر إلى إيران ثانية في تشرين ثاني (نوفمبر)، عندما بلغت الثورة الإيرانية ضد الشاه أوجها. خلال هاتين الرحلتين، كلف فوكو بالعمل مراسلاً صحفياً خاصاً للصحيفة الإيطالية الرائدة، كورير ديلا سيرا، حيث كانت مقالاته تتصدر الصفحة الأولى من الجريدة. وقد نشر مقالات أخرى عن إيران في صحف ومجلات فرنسية مثل اللوموند اليومية، والأسبوعية اليسارية الرائجة مجلة الأوبزيرفاتور. وقد بادرت مجموعة ناشطة من الطلاب إلى ترجمة واحدة على الأقل من مقالاته إلى الفارسية لتنشر على جدران جامعة طهران في خريف عام 1978.

أبرز فوكو سلسلة من المواقف النظرية والسياسية المميزة في الثورة الإيرانية. وكان من جملة الأسباب التي نتج عنها شح التعليقات والنقاشات التي كتبت باللغة الإنكليزية عن مقالات فوكو هذه؛ حقيقة أن ثلاثة فقط من مقالاته الخمسة عشر نقل إلى اللغة الإنكليزية. وقد نظر كثير من الباحثين على أن هذه الكتابات كان شذوذاً أو ناتجة عن خطئ في التحليل السياسي أو النظرة السياسية لفوكو. لكننا نعتقد بأن هذه الكتابات حول إيران كانت في واقع الأمر وثيقة الصلة بعموم كتابات فوكو النظرية حول الخطاب والسلطة ومخاطر الحداثة.

يحسب لفوكو استيعابه المبكر، قبل كثير من المعلقين، أن إيران كانت تشهد نوعاً متفرداً من الثورة. لقد تنبأ مبكراً بأن هذه الثورة سوف لن تحذو حذو الثورات الحديثة الأخرى، وبيّن أنها كانت منظمة ومتمحورة حول مفهوم أو مبدأ مختلف كلياً دعاه “السياسة الروحية”. لقد أدرك فوكو السلطة الهائلة التي يمتلكها الخطاب الإسلامي (الكفاحي)، ليس في إيران وحدها، بل في العالم أجمع. لقد بين أن الحركة الإسلامية الحديثة تهدف إلى قطيعة أساسية، ثقافية، اجتماعية، وسياسية مع النظام الغربي الحديث، وكذلك مع الاتحاد السوفييتي، والصين.

من ناحية أخرى تطرح التجربة الإيرانية تساؤلات جادة حول أفكار فوكو. أولاً، يفترض أن فوكو متشكك في كل ما له علاقة بالطوباوية أو المثالية الفاضلة، وهو شديد العداء “للمسلمات الكبرى” أو النظريات الشاملة، مفضلاً التركيز على الفروق والاختلافات والتفرد أكثر من تركيزه على الكليات، وأن هذا ما يجعله أقل عرضة، بالمقارنة مع سابقيه من اليساريين، للتغني بسياسات استبداية تعد بتغييرات جذرية من فوق لحياة وأفكار الشعب من أجل مصالحهم الظاهرة. على أي حال فقد بينت كتابات فوكو عن إيران بأنه لم يكن منيعاً ومحصناً ضد الأوهام التي حملها العديد من اليساريين الغربيين تجاه الاتحاد السوفييتي ومن ثم الصين. لم يتنبأ فوكو بولادة دولة حديثة أخرى تتجدد فيها وتتمأسس تكنولوجيات السيطرة الدينية القديمة؛ لقد نشأت دولة جمعت ما بين الإيديولوجية التقليدية (الإسلام)، وبين الخطاب اليساري المناهض للإمبريالية، لكن المسلح بتكنولوجيات حديثة للتنظيم والمراقبة والكفاح، والدعاية.

ثانياً، إن علاقة فوكو الإشكالية جداً مع الحركة النسائية باتت في الوضع الإيراني أكثر من فجوة ثقافية. فقد كرر فوكو في بضع مناسبات عبارات سمعها من رجال دين فيما يخص العلاقة بين الجنسين في الدولة الإسلامية المرتقبة، لكنه لم يناقش أو يمحّص في رسالة الإسلاميين التي تقول “مساواة لكن اختلاف”. كما أنه استبعد التحذيرات التي قدمتها الحركة النسائية حول الاتجاه الخطير الذي تتحرك نحوه الثورة. لقد بدى وكأنه يعتبر هذه التحذيرات مجرد هجمات استشراقية الطابع على إيران. وبذلك حرم نفسه من التزام وجهة نظر أكثر توازنا تجاه الأحداث التي تجري هناك. وفي مستوىً أعم، ظل فوكو أقل تحسساً تجاه مختلف الطرق التي أثرت بها السطلة على النساء منها على الرجال. لقد تجاهل حقيقة مفادها أن أكثر من تعرضوا للأذى عن طريق الممارسات الانضباطية المتخلفة (القروسطية) هم غالباً النساء والأطفال.

ثالثاً، إن تفحص كتابات فوكو عن إيران يقدم المزيد من الدعم للانتقادات المتكررة التي دعت إلى ضرورة إعادة النظر في المشروع النقدي المنحاز الذي قدمه فوكو للحداثة، خصوصاً بالنسبة لوجهات النظر التي تنتمي إلى مجتمعات غير غربية. طوال القرن الماضي، ظل عدد من المثقفين الشرق أوسطيين، متسمكين بنسختهم الخاصة من مشروع التنوير. والأسئلة في الشرق الأوسط محددة جداً. هل يتوجب على مجتمعات كتلك، تسيطر على غالبيتها أنظمة علمانية أو دينية مستبدة، أن تتجاهل التراث (القانوني القضائي) للغرب؟ وهل يستطيعون جمع سمات نظرية فوكو عن السلطة ونقده للحداثة مع دولة علمانية حديثة؟ هذه مسائل تدور حولها نقاشات حامية اليوم في مختلف مناطق الشرق الأوسط، وفي إيران بالذات وما بين الإيرانيين المنفيين خارج إيران. وهناك بالفعل ما يوحي بأن فوكو نفسه كان ينحو في مثل هذا الاتحاه في آخر فترات حياته. ففي مقالته “ما هو التنوير؟” المنشورة عام 1984 يطرح موقفاُ من التنوير بدا أكثر تفصيلاً من ذي قبل.

تحاليل فوكو

الخلافات بشأن كتابات فوكو عن إيران معروفة في فرنسا، فعلى سبيل المثال، وخلال المناقشات التي تلت الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن، أشار أحد المعلقين الفرنسيين إلى كتابات فوكو دون حاجة إلى مزيد من التمحيص بقوله: “إن ميشيل فوكو، داعية الخمينية في إيران”، ونشر ذلك في الصفحة الأولى من اللوموند (2001). وقد اعترف غالبية المعلقين المتعاطفين مع فوكو بالطبيعة الإشكالية البالغة لمواقفه من إيران. وقد وضح ريبون ديدييه، المحرر في مجلة الاوبزيرفاتور، وأحد أصدقاء فوكو أن: “النقد والسخرية الذي تعرضت له “خطئية” فوكو فيما يتعلق بإيران، زادت من الإحباط الذي أحس به جراء النقد الذي استقبل به المجلد الأول من (تاريخ الجنسانية)”. ويضيف ريبون: “عقب ذلك نادراً ما علق فوكو على شأن سياسي أو صحافي”. لقد قدم لنا ريبون أكثر التفاصيل دقة وتوازناً بخصوص النقاشات الدائرة حول فوكو وإيران. كاتب سيرة ذاتية آخر من فرنسا يدعى جينيت كولومبل، والمعروف بصداقته لفوكو، قال بأن الجدل الذي دار حول القضية جرح مشاعره.

فيما يتعلق بهذه الكتابات كانت السجالات والمناقشات التي شهدها العالم الناطق باللغة الإنكليزية أقل. أحدها هو السيرة الذاتية الفكرية التي كتبها الفيلسوف السياسي جيمس ميلر، والذي شخص كتابات فوكوعن إيران بأنها “حماقة”. وهو الوحيد الذي اقترح أن يكون لولع فوكو بالموت دور في حماسه للإسلاميين الإيرانيين، وحرصهم على الشهادة. أما صاحب أوسع سيرة ذاتية ظهرت حتى الآن عن فوكو وهو ديفيد ميسي، فقد بدا أكثر التباساً، لقد اعتبر الهجوم الفرنسي على كتابات فوكو تلك سفهاً مبالغاً فيه، لكنه بالرغم من ذلك اعترف بأن فوكو كان شديد التأثر بما شهده في إيران عام 1978 حتى أنه أساء فهم “المصير المحتمل للتطورات التي يشهدها”. في العالم الناطق بالإنكليزية استقبلت أعمال فوكو بلطف معقول، إذ لم تترجم أعمال فوكو عن إيران إلا بشكل انتقائي، في حين لم تترجم على الإطلاق الردود الفرنسية على تلك الأعمال. مقالتاه الأخيرتان عن إيران كانتا الأكثر توفراً باللغة الإنكليزية حتى الآن، وقد أبدى فيهما، أمام الهجوم الذي تعرض له من قبل المثقفين الفرنسيين، بعض النقد المتأخر للنظام الإسلامي. وهما النموذجان الوحيدان عن مقالاته حول إيران المدرج في كتاب من ثلاثة مجلدات يضم مجموعة أعمال “الكتابات الأساسية لميشيل فوكو”، المطبوع سنة 2000.

الإشكالية في تعامل فوكو مع النزعة الإسلامية الإيرانية نتجت جزئياً عن تجاهله لتحذيرات الحركة النسوية الإيرانية والغربية، وكذلك اليسار العلماني الذي تشكلت لديه في وقت مبكر نظرة نقدية أكثر توازناً تجاه الثورة. وهذا ما ضعف من النواح القيمة الأخرى التي تضمنتها أعمال فوكو في تحليله لطبيعة نظام الشاه والمعارضة الإسلامية.

في تشرين أول (أكتوبر) 1978 أجرى فوكو تحليلاً لنظام الشاه لصالح مجلة كورير ديلا سيرا، فكتب: “الشاه يعيش قبل مئة عام من العصر”، التحديث تقولب في النظام السياسي الفاشي للشاه. وقد كتب فوكو ناسباً نفسه إلى عالم ما بعد الحداثة بأن خطة العلمنة والتحديث التي ورثها الشاه عن والده الديكتاتور المتوحش، ذي النظرة أو التحديقة الشهيرة، كانت متخلفة وميتة. وهنا يمكن للمرء أن يسمع أصداءً من كتاب فوكو المنشور قبل ثلاث سنوات من ذلك الوقت “المراقبة والمعاقبة”. فملوك أسرة بهلوي هم حراس دولة تحديثية تأديبية، فرضوا على كل الناس في إيران النظرة أو المراقبة المكثفة من قبل سادتهم. وعلى وجه الخصوص، توجه فوكو بالنقد إلى نظام المراقبة والممارسات الانضباطية التي تبناها نظام محمد رضا شاه والشرطة السرية الشهيرة “جهاز السافاك”، الذي بقيت أساليبه وممارساته وحشية ومتخلفة.

في ما بعد، في شباط (فبراير) 1979، تماماً بعد أن اعتلى الخميني السلطة، وفي كورير ديلا سيرا أيضاً، قدم فوكو تنبؤاً ذكياً في مقالته “برميل بارود اسمه الإسلام”. لقد سخر من آمال الفرنسيين في الماركسيين الإيرانيين، الذين اعتقدوا بأن اليسار الماركسي سيدفع بالخميني جانباً: “الدين لعب دوره، فقام بفتح الستار؛ وسيختفي الملالي الآن داخل أثواب بيضاء وسوداء كبيرة. ويتغير الديكور. ويبدأ المشهد الأول: إنه صراع الطبقات، ما بين الفئات المسلحة، والحزب الذي ينظم الجماهير… إلخ”.

وفي معرض تهكمه من فكرة استلام العلمانيين أو اليساريين للسلطة، قدم فوكو تقييماً لتوازنات القوى. فأبدى نفاذ بصيرة واضحاً، رغم جهله وعدم تخصصه في إيران أو الإسلام. والأهم من ذلك، قوله بنشوء نوع جديد من الحركات الثورية، نوع سيكون له تأثير وراء حدود إيران، وسيكون له أثر بالغ على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، يكتب فوكو: “لكن أهميته التاريخية لا تتوقف على مطابقته للنموذج المعروف للثورة، لا، بل ستأتي أهميته من قدرته على قلب الوضع السياسي الحالي في الشرق الأوسط، ومن ثم التوازن الاستراتيجي الدولي. لقد تشكلت نقطة قوة هذه الثورة حتى الآن من تفردها الذي يهدد الآن بتشكيل قوة لتمددها. بالفعل، لا غلو في القول بأن هذه الثورة كحركة إسلامية، يمكنها أن تشعل النار في المنطقة بأسرها، وتقلب معظم النظم المفتقرة إلى الاستقرار، وتزعج أكثرها صلابة. الإسلام ليس مجرد دين، إنه طريقة حياة، إنه ولاء لتاريخ والتزام بحضارة، وأمامه فرصة جيدة ليتحول إلى برميل بارود عملاق، على صعيد مئآت الملايين من البشر”.

وفي حين كشفت نظرة فوكو بخصوص البعد العالمي للحركة الإسلامية عن بصيرة نافذة، فإنها ضعفت من خلال موقفه غير النقدي منها كحركة سياسية. في تشرين أول (أكتوبر) 1978، حين وقع أول إضراب عام في إيران، قرر فوكو نشر تصوراته حول إيران بالفرنسية للمرة الأولى تحت عنوان: “بماذا يحلم الإيرانيون؟” في مجلة الأوبزيرفاتور. لقد وصف الصراع الجاري في إيران بمصطلحات أسطورية: “الحالة في إيران يمكن أن تفهم كمبارزه كبيرة ما بين شعارات تقليدية بين جماعة الملك أو جماعة (القديس)، الحاكم المسلح أو المنفي المسكين، المستبد في مواجهة رجل أعزل تؤازره هتافات الشعب”.

دعى فوكو إلى الاطمئنان، كما لو كان داعية الخيميني إلى “حكومة إسلامية”. فقال: ” هناك غياب للتراتبية التسلسلية لرجال الدين، مع تمتع الزعماء الدينيين بنوع من الاستقلال عن بعضهم، لكن هناك اعتماداً (بعضه مالي) على الأتباع”. ورجال الدين لم يكونوا ديمقراطيين فحسب، بل كانوا يحملون رؤية سياسية إبداعية: “هناك أمر لا بد من توضيحه، فما من أحد في إيران يقصد بقوله “حكومة إسلامية” نظاماً سياسياً يمتلك فيه رجال الدين (الكهنة) التحكم والسيطرة . . . . إنه أمر قديم جداً وبعيد جداً في المستقبل، إنها فكرة العودة إلى ما كان عليه الإسلام في عصر النبي، ولكن في نفس الوقت مع التقدم نحو نقطة بعيدة ومضيئة يمكن عندها تجديد الإيمان أكثر من المحافظة على الطاعات. ولتحقيق هذا الهدف، بالتوافق مع دين خلاق كالإسلام، يبدو لي أن التشكيك في مسألة الفهم الحرفي للشرع أمر جوهري”.

حاول فوكو أن يقدم التطمينات لقراءه الفرنسيين بخصوص حقوق المرأة والأقليات الدينية. فقد أكدت له مصارده المقربة من الإسلاميين بأن: “الحريات ستظل محل احترام، مادامت ممارستها لا تؤذي الآخرين. ستحظى الأقليات بالحماية والحرية والعيش بالشكل الذي ترغب به، بشرط عدم إيذاء الأكثرية، سيكون هناك مساواة بين الرجال والنساء، وسيكون هناك اختلاف أيضاً، نظراً لوجود فروق طبيعية بينهما”. وقد ختم مقالته بالإشارة إلى الأهمية البالغة “للروحانية السياسية” في إيران، وضياع مثل تلك الروحانية في أوروبا المعاصرة. يكتب فوكو إنه أمر ” نسينا إمكانية إيجاده منذ عصر النهضة والأزمة الكبرى للمسيحية”، لقد توقع الحدة التي ستلقاها نظرته في عالم تشحنه المناقشات الثقافية عن إيران، وتوقع أيضاً بأن القراء الفرنسيين سيضحكون من تحليله هذا ويضيف: ” لكنني أعرف أنهم على خطأ”.

الإسلام كقوة سياسية

الجدل الذي توقع فوكو أن تثيره مقالته في الأوبزيرفاتور وقع بالفعل، وربما زاد عن القدر الذي تنبأ به. نشرت الأوبزرفاتور في عددها الصادر في 6 تشرين الثاني (نوفمر) مقاطع من رسالة تحت اسم مستعار “آتوسا هـ.”، تعارض من خلالها امرأة إيرانية يسارية تعيش في المنفى في فرنسا بقوة الموقف غير النقدي الذي اتخذه فوكو تجاه الإسلاميين. قالت: “إنني مستاءة جداً من التعليقات التي يدلي بها اليسار الفرنسي بخصوص قيام “حكومة إسلامية” كبديل للحكم الدموي للشاه”. وتضيف بأن فوكو يبدو “شديد التأثر (بالروحانية السياسية)، التي يرى بأنها تطور على الاستبداد الرأسمالي الدكتاتوري الذي بدأ بالتداعي”. وتتساءل، مشيرة إلى حادثة قلب النظام الديمقراطي لحكومة مصدق اليسارية عام 1953، لماذا على الإيرانين بعد “خمس وعشرين سنة من الاضطهاد والكبت” أن يجبروا على الاختيار ما بين “السافاك و الفاشية الإسلامية؟”. النساء غير المتحجبات بتن منذ الآن يتعرضن للإهانة في الشوارع، وقد وضح أتباع الخميني بأن “النساء في النظام الذي ينوون بناءه يجب أن ينصعن” للشرع الإسلامي. ومع الاحترام للقول بأن القوميات والأقليات الدينية ستتمتع بحقوقها “طالما لا تؤذي الأكثرية”، تسأل آتوسا: “منذ متى بدأت الأقليات في (إذياء) الأكثرية؟”.

بالعودة إلى الطرح الإشكالي لفكرة الحكومة الإسلامية، تشير آتوسا إلى الأشكال المتوحشة من القوانين في السعودية: “رؤوس العشاق تقطع وأيدي اللصوص تبتر”. وتختتم بالقول: “العديد من الإيرانيين مستاؤون وقلقون كما هي حالي أنا، من فكرة الحكومة الإسلامية… يجب على اليسار الغربي الليبرالي أن يعلم بأن الشرع الإسلامي يمكن أن يحمل ثقلاً شديداً على المجتمعات التواقة للتغيير. يجب أن لا يغرهم دواء أشد سوءاً من الداء”. في جواب مختصر، كتب فوكو في الأسبوع اللاحق في الأوبزيرفاتور، أن ما لا يطاق في رسالة آتوسا هو “دمجها” كل أشكال الإسلام في شكل واحد ثم “ازدراء” الإسلام ووصمه “بالتعصب”. لقد تضمن جواب فوكو فطنة مؤكدة، إذ أشار إلى أن “الإسلام كقوة سياسية يشكل أزمة جوهرية للمرحلة ولسنوات قادمة”. لكن هذا التوقع تعرض للإهمال، إذ رفض فوكو أن يشارك صاحبة الرسالة أياً من نقدها تجاه الإسلام السياسي. بدلاً من ذلك ختم فوكو رده بما يشبه المحاضر: “أول شرط لمقاربة الإسلام بقدر من الذكاء هو الابتعاد عن الكراهية”. في آذار ونيسان، عندما بدأت انتهاكات نظام الخميني ضد النساء والمثليين جنسياً، عاد هذا المقطع ليطارد فوكو.

وفي حين وقع كثيرون من المثقفين الفرنسيين البارزين في حماس بالغ تجاه الثورة الإيرانية في أواخر عام 1978، فإن أياً منها حسب علمنا لم يلتحق بفوكو في انحيازه الصريح إلى جانب الإسلاميين ضد اليسار العلماني الماركسي والقومي. آخرون ممن لديهم خلفية عن تاريخ الشرق الأوسط كانوا أقل ثقة، منهم مكسيم رودنسون الفرنسي المتخصص بالإسلام. وهو مؤرخ عمل منذ خمسينيات القرن الماضي في الاتجاه الماركسي، وكاتب السيرة التاريخية (“محمد” 1961) ، و(“الإسلام والرأسمالية” 1966)، وهو يساري بمؤهلات عالية. وظهرت توقعات مكسيم رودنسون في الصفحة الأولى لجريدة اللوموند في كانون أول (ديسمبر) 1978 بمقالة من ثلاث أجزاء تحت عنوان “صحوة الأصولية الإسلامية؟”.

لقد كان مكسيم رودنسون، كما أعلن بعد بضع سنوات، يرد على ما دعاه فوكو “الروحانية السياسية”. على أي حال فقد تجنب رودنسون في حواراته الإشارة إلى فوكو بالإسم. لكن بالنسبة لهؤلاء الذين تابعوا كتابات فوكو عن إيران، كانت مقالة رودنسون في كانون الأول (ديسمبر) 1978 واضحة بما فيه الكفاية، ومن دون شك موجه إلى فوكو بالذات. لقد سكب رودنسون الماء البارد على آمال العديد من اليساريين بخصوص تحرر إيران. لقد بين مجموعة من النقاط تحمل من خلالها أي دولة إسلامية مظاهر رجعية: “وفق القرآن، تستوجب حتى أكثر الأصوليات الإسلامية اعتدالاً، ضرورة قطع أيدي اللصوص، وأن يقتطع نصيب المرأة من الميراث إلى النصف. وإذا كان ثمة عودة إلى التراث، كما يريد رجال الدين، فلا مناص حين ذاك من جلد شارب الخمر، ورجم أو جلد الزاني… ولن يكون ثمة ما هو أسهل وأخطر من تلك التهمة التقليدية: عدوي هو (عدو الله)”. وقد كتب في تطبيق لوجهة نظر المادية التاريخية: “من المستغرب، بعد قرون من التجارب، بأننا مازلنا بحاجة للعودة إلى واحد من أصدق القوانين التاريخية، إن النوايا الأخلاقية الحسنة، سواء تمتعت بالتأييد أم لا، هي أسس ضعيفة لتقرير الممارسات السياسية للدولة”. ما يخبئه المستقبل لإيران، يقول مكسيم بقلق، ليس التحرر، بل “الفاشية”.

مع حلول ربيع 1979، بلغت المجادلات ذروتها. في المظاهرة التي نظمت بمناسبة يوم المرأة العالمي 8 آذار (مارس) 1979، ظهر الطابع القمي للنظام الإسلامي في إيران واضحاً للعديد من مؤيدي الثورة الإيراينية في العالم. في ذلك اليوم، تظاهرت الناشطات الإيرانيات مع أنصارهم من الرجال في طهران ضد قرار يفرض على النساء ارتداء الحجاب الشائع بين التقليديين في المجتمع. استمرت التظاهرات خمسة أيام. بلغ العدد الأقصى للمتظاهرين نحو 50 ألف في طهران، نساء ورجالاً. بعض الرجال من اليساريين شكلوا سياجاً بشرياً حو النساء، يدافعون ضد مهاجمين مسلحين ينتمون إلى جماعة جديدة تسمى “حزب الله”. لقد ردد المتظاهرون عبارة “لا للحجاب”، “تسقط الدكتاتورية”، وفي بعض الأحيان “ليسقط الخميني”، إحدى اللافتات كتب عليها: “قمنا بالثورة من أجل الحرية، فحصلنا على عكسها” وأخرى “في فجر الحرية، لا توجد حرية”. من جانبها رددت جماعة “حزب الله”: “تحجبن وإلا سنضربكم”، لكن رد فعلهم غالباً لم يكن بالكلام بل: أحجار، سكاكين، وحتى رصاص. وقد نظمت مظاهرات للتضامن في باريس، وأصدرت سيمون دي بيفوار بياناً تضامنياً في 19 آذار (مارس): “استجابة لنداءات صدرت عن عدد كبير من النساء الإيرانيات اللواتي أثر علينا الوضع الذي يعشن فيه والعصيان الذي يمارسنه؛ أنشأنا جمعية عالمية لحقوق المرأة (CIDF)… لقد أدركنا عمق الإذلال الذي أراد الآخرون أن يفرضوه عليهن، ولهذا قررنا أن نناضل من أجلهن”.

في 24 آذار (مارس) نشر مقال حواري موجه ضد فوكو في جريدة “لو ماتين” اليومية اليسارية والتي توجهت افتتاحيتها بقوة ضد ما سمته اتجاه الخميني نحو الثورة المضادة والنظام الأخلاقي، جاء المقال تحت عنوان “بماذا يحلم الفلاسفة؟”. كتبته كلاودي وجاك بريل وهما صحفيان ناشطان في الحركة النسوية، سخرا فيه من حماس فوكو تجاه الحركة الإسلامية: “عاد ميشيل فوكو قبل بضعة أشهر ليقول لنا بأنه (متأثر) بـ (محاولة فتح بعد روحي للسياسة) يبدو له في مشروع الحكومة الإسلامية. اليوم هناك بنات صغيرات يلبسن الأسود، من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين؛ أو يتم طعنهن لرفضهن ارتداء الحجاب؛ في حين تجرى عمليات إعدام علنية للمثليين جنسياً، وقد تم إنشاء وزارة خاصة بالإرشاد الإسلامي وفق أحكام القرآن، أما اللصوص والبغايا فيجلدن”. وفي تلميح إلى كتاب “المراقبة والمعاقبة”، تحدثوا عن “هذه الروحانية التي تراقب وتعاقب”. لقد تهكما على فكرة فوكو عن “الروحانية السياسية”، وتساءلا ما إذا كانت لها علاقة “بالمعنى الروحي” للإعدامات العلنية للمثليين جنسياً. وقد أطلقا دعوة إلى فوكو ليعترف بأن أفكاره بخصوص إيران كانت “خطأ”. ردُّ فوكو الذي نشر بعد يومين، كان في واقع الأمر “عدم رد”، فهو لم يرد، لقد كتب: “إنني باعتبار أنني لم أشارك قط في سجالات كلامية، فإنني لا أنوي البدء بذلك الآن”. وأضاف “إنني الآن (أطالب بالاعتراف بأخطائي)”. لقد لمح إلى أن المؤلفين هما اللذان يدخلان في الهيمنة الفكرية بهذه الطريقة التي يدعوانه فيها إلى المحاسبة.

تعاطف دونما إشكاليات

عند هذه النقطة تم إزكاء نار النقاشات بظهور كتاب “إيران: ثورة باسم الله”، من تأليف كلير بيرير وبيتر بلانكيت، المنشور في أواخر آذار (مارس). وقد احتوى الكتاب على مقابلة مطولة مع فوكو أجراها كاتبان لمناقشته بشأن الأحداث في إيران. هذه المقابلة، والتي تبين أنها أجريت قبل تسلم الخميني للسلطة في شباط (فبراير)، نشرت تحت عنوان: “إيران: روح عالم لا روح فيه”. ومن سوء حظ سمعة فوكو فإن، الحوار الحماسي حول الحركة الإيرانية الإسلامية ذكر كثيراً في التقارير والتحليلات المنشورة عن الكتاب، والتي ظهرت بعيد المظاهرات النسوية التي وقعت في آذار (مارس)، وفي وسط تقارير متكاثرة عن التعدي الشديد الممارس ضد الرجال المثليين، والبهائيين والأكراد. وقد حظي الكتاب بسمعة سئية بسبب توقيته، ورغم انقضاء شهور لاحقة، فقد ظل أكثر العناوين بروزاً في مكتبات باريس حول الثورة الإيرانية.

بدأ فوكو في تلك المقابلة تحليله المتعلق بإيران بشكوى مفادها أن “الشأن الإيراني والطريقة وما آل إليه لم يستبب في نشوء ذلك النوع من التعاطف الخالي من أي إشكال، كذلك الذي كان في الحالة البرتغالية مثلاً، أو في حالة نيكاراكوا”. وشجب اليسار الغربي “وعدم ارتياحه عندما يقابل ظاهرة تبدو غريبة على عقليتنا السياسية”. وأضاف بأن الدين في إيران يقدم شيئاً أعمق من الأيديولوجيا: “والحقيقة هي أن المفردات، والطقوس، والمسرحية الخالدة، هي الأماكن التي يمكن للمرء أن يضع فيها المسرحية التاريخية لشعب كرس وجوده كله ضد وجو حاكمه”. وبما أن الإسلام الشيعي كان جزءاً من الثقافة الإيرانية طوال قرون خلت، وبما أن المسرحية الثورية عرضت من خلال خطاب ديني، فقد اعتقد فوكو بأن “دين الكفاح والتضحية هذا” لن يؤدي دور الإيديولوجيا المعاصرة التي تخبئ “وتقنّع التناقضات”. اعتبر فوكو أن نظام الخطاب التاريخي الثقافي الإيراني الموحد يبدو وكأنه تخطى تلك التناقضات ليتمكن المجتمع الإيراني من النفاذ والانطلاق.

وفوق ذلك كله، وعندما حذر محاوره بلانكيت من ابتهاج خالي من النظرة النقدية فيما يتعلق بالاحداث في إيران، مشيراً إلى تجربة الصين خلال الثورة الثقافية، رفض فوكو إثارة مزيد من التساؤلات حول المواقف النقدية. وخالف ماذهب إليه بلانكيت ليصر علي تفرد الحالة في ايران عكس الصين: “الحالات متشابه، وقد جاءت الثورة الثقافية على هيئة صراع بين عناصر معينة من السكان ضد آخرين، بعض عناصر من الحزب وبعض آخرون، أو بين السكان والحزب، إلخ. لكن ما أذهلني في ايران هو عدم وجود صراع بين عناصر مختلفة. وهذا ما يمنحها ذلك القدر من الجمال، والخطورة في الوقت نفسه، إذا لا توجد سوى جبهة واحدة. إنها بين الشعب من جهة والدولة المتسلطة التي تهددهم بأسلحتها وشرطتها”. وها هنا كان لإنكار فوكو وجود أي فروق وتمايزات اجتماعية أو سياسية في إيران وقع يقطع الأنفاس.

أخيراً، بعد انقضاء نحو تسعه أعشار مدة الحوار، بعد كثير من الإلحاح من قبل بلانكيت وبيرير مقدما الحوار، اعترف فوكو بوجود تناقض واحد في الثورة الإيرانية، إنه متعلق بكراهية الأجانب ومعاداة السامية. وسنقتبس عباراته كاملة فقد كانت قصيرة: “كانت هناك مظاهرات وهتافات معادية للسامية. وكانت مظاهرات ضد الاجانب، وليس الأميركيين فقط، بل أيضاً ضد العمال الأجانب (من بينهم الأفغان) الذين جاءوا إلى العمل في إيران”. ثم أضاف لاحقاً: “إن ما أعطى الحركة الإيرانية كثافتها يمر في طريق مزدوج. فهناك من جهة إرادة جماعية تم التعبير عنها بطريقة سياسية قوية جداً، ومن جهة أخرى، الرغبة في إجراء تغيير جذري في الحياة العادية. لكن هذه الازواجية لا يمكن إلا أن تؤسس على التقاليد، على المؤسسات المتهمة بالتعصب والانغلاق القومي، والتي لها قدرة هائلة على جذب الأفراد”.

هنا اعترف فوكو، وللمرة الأولى في المناقشات حول إيران، بأن الأساطير والخرافات الدينية والقومية التي عبأ الإسلاميون من خلالها الجماهير تمتلئ “بالشوفينية القومية، والتفرد”. وعلى أي حال فإن افتتان فوكو بقدرة الإسلاميين على إثارة مئآت ملايين الناس ـ من خلال تلك التقاليد على ما يتضمنه ذلك من خطورة ـ حال باستمرار دون فتح المجال أمام وجهة نظر أكثر نقدية. اللافت، أن فوكو لم يتحدث طوال اللقاء عن الأخطار التي تواجه النساء الإيرانيات، حتى بعد أن ذكرت بيرير، بأنها تعرضت لتهديد جسدي لدى محاولتها الانضمام إلى مجموعة من الصحفيين الذكور في خلال واحدة من مظاهرات 1978.

في نهاية آذار (مارس)، بعيد ظهور كتاب: “إيران: ثورة باسم الله”: نشرت اللوموند قراءة له مركزة على تلك المقابلة، واعتبرت القراءة أن “الشكوك والتساؤلات” تحيط موقف فوكو. بعد أيام قليلة أخرى، ظهر نقد آخر لفوكو في قراءة نشرتها الأوبزيرفاتور كتبها جان لاكوتوري، الصحفي المخضرم. أثار لاكوتوري جدلاً مفاده أن الكتاب “يطرح أهم القضايا ببساطه مخلة، تبدو أوضح ما تكون في خاتمة الحوار بين الكاتبين وفوكو”. وأكبر مشكلة مع الكتاب ومع فوكو، يضيف لاكوتوري، هو أن التركيز على “الشخصية الجماعية للحركة” تم بأسلوب أحادي الجانب. لقد حصل ما يشبه هذا “الإجماع”، في الثورة الثقافية في الصين في الستينيات وتبين أنه كان خاطئاً تماماً. هجوم آخر ضد فوكو ظهر في الإكسبرس الأسبوعية الرائجة التابعة لتيار الوسط، والتي كتب فيها الصحفي البارز ولمان يقول: “إن فوكو في المقابله لم يتمتع بنفس الحكمه التي عهدناه بها في باقي كتبه وتقييمه الأخطار المحتملة جراء نظام إسلامي في إيران”.

لم يرد فوكو بشكل مباشر علي هذه الهجمات في مختلف القراءات التي قدمت عن كتاب “إيران، ثورة باسم الله”. ونادراً ما دافع أحد عن كتابات فوكو حول إيران على عكس ما جرى في هجمات سابقة على كتاباته الأخرى، مثلاً تلك التي قادها سارتر وبوفوير على كتابه “الكلمات والأشياء” (1966). باستثناء واحد، وهو ما كتبته الناشطة النسوية من المدرسة ما بعد الحداثوية كاثرين كليمنت في جريدة لوماتين عندما اعتبرت أن فوكو ببساطة “حاول أن يرى ما أفلت من رؤانا الثقافية” و أنه ما من “مخطط في تراثنا، حتى في مجال حقوق الإنسان، يمكن أن يطبق مباشرة على ذلك البلد، الذي يقوم بالثورة اعتماداً على ثقافته الخاصة”. نشر فوكو مقالتين أخريين حول إيران في نيسان (أبريل) وأيار (مايو) من عام 1979، إحداهما في لوماتين، قدم فيها قليلاً من النقد اللطيف للثورة. ثم لاذ بالصمت تجاه إيران.

أهمية الجنوسة

خلال العقدين ونصف العقد اللذين مرا منذ عام 1979، ساهمت الهزة التي تسببت بها الثورة الإيرانية بقدر لا يستهان به في إشعال فتيل سلسلة من الحركات الإسلامية العالمية. فقد وصل إسلاميون أصوليون إلى السلطة، أو شاركوا في حروب أهلية في عدد من البلدان من الجزائر إلى مصر ومن السودان إلى أفغانستان وكان ذلك بمساعدة أمريكا في الحالة الأخيرة. هذه الأنظمة والحركات مسؤولة عن مئآت الآلاف من القتلى، وعن تراجع لا حد له في حقوق المرأة على نطاق العالم الإسلامي. لقد حاز الإسلاميون على هذه السلطة والتأثير خلال حقبة نهضت خلالها أيضاً الحركات (الرجعية) الأصولية المسيحية والهندوسية واليهودية، كلها ناصبت العداء لتحرر المرأة. كانت هجمات 11 أيلول (سبتمبر) مثالاً دراماتيكياً ومرعباً للمخاطر التي يهدد بها هذه التعصب الديني.

اليوم يبرز سؤالان من كتابات فوكو تلك. الأول، هل كانت تلكم الكتابات انحرافاً وضالاً، وناتجة عن جهله بالتاريخ والثقافة الإيرانية؟ هذا ما يراه مكسيم رودنسون في نقده لفوكو. لكننا لا نرى ذلك. لقد لاحظنا أن بوفوير وناشطون في الحركة النسائية اتخذوا موقفاً مختلفاً، موقفاً بدا أشد تماسكاً اليوم، رغم أنهم كانوا غير متخصصين بعمق في الشأن الإيراني. إننا نذهب إلى أن كتابات فوكو عن إيران، تكشف رغم أسلوبها المبالغ فيه، بعض المشاكل في رؤية فوكو الكلية، خاصة في نقده أحادي الجانب للحداثة. وبهاذا المعنى، فإن كتاباته بخصوص إيران تساهم بشكل هام في فهمنا لهذا الفيلسوف الاجتماعي الكبير.

المسألة الثانية تتعلق بقضية الأصولية الدينية برمتها، وقد باتت أكثر أهمية من أي وقت مضى بالنسبة للمناقشات الجارية حول أزمة الحداثة منذ 11 أيلول 2001. إن فشل اليسار العالمي في صياغة الاستجابة المناسبة للأصولية ليست مشكلة ميشيل فوكو حدها. إنها مشكلتنا نحن اليوم. وهذه ليست مهمة سهلة، ولقد كان من الصعب في عقود خلت أن نصوغ موقفاً يسارياً مستقلاً عن نهج ستالين وماوتسي تونغ، كما كتب مكسيم رودينسون بقدر من نزعة إنسانية فرنسية: “نعترف بأن البعض كانوا مخطئين، وأنا منهم، في رفض التقارير التي تحدثت عن جرائم ارتكبت باسم الاشتراكية، والآن سنبدوا حاقدين إذا ما غضبنا من الشك الذي سيتلبس جموع المسلمين تجاهنا إذا ما طلبنا منهم أن ينظرو إلى كل الوقائع والإشكالات المحيطة بهم تحت ضوء آمالهم المشعة. ولا يجدر بنا أن نحقر ميشيل فوكو لأنه لم يرد أن يزرع اليأس في القرى والضواحي الجائعة للعالم الإسلامي، لأنه لم يرد أن يفقد الأمل، أو من أجل تلك المسألة، أن يفقد الأمل في الأهمية العالمية لآمالهم”. وكما رأينا في ما سبق لا بد للأمل، في حقبة الأصولية الدينية هذه، من أن يلطف بشيء من الروح الناقدة المدركة لأهمية الجنوسة.

جانيت آفاري وكيفن آندرسون

موقع جودت سعيد