‘الإمبراطورة’ أنجيلا ميركل في زمن ‘الدونالد’ و’القيصر’

‘الإمبراطورة’ أنجيلا ميركل في زمن ‘الدونالد’ و’القيصر’

عادت ألمانيا بقوة إلى المسرح العالمي من موقع القيادة الأوروبي كرابع قوة اقتصادية عالمية، وذلك بعد سبعين سنة على هزيمتها النكراء، وبعد أكثر من ربع قرن بقليل على إعادة توحيدها.

عبر تاريخها المضطرب والغني على حد سواء، بلورت ألمانيا في القرن الماضي علم الجيوبوليتيك ومفهوم المجال الحيوي (نحو شرق ووسط أوروبا) كي تتكرس قوة برية كبرى في خدمة النفوذ والتوسع، وفي حقبتنا الحالية بعد سقوط جدار برلين وكسوف الأحادية الأميركية وتفاقم الفوضى الاستراتيجية بدل التوجه نحو العالم المتعدد الأقطاب، تعد ألمانيا من أفضل الأمثلة على استخدام القوة الناعمة في سبيل ترويج توسعها الاقتصادي ونفوذها العالمي.

بيد أن تصدع العولمة وصعود القوميات والهويات سيضعان الدور الألماني على المحك في قيادة القارة القديمة مع أنجيلا ميركل، المستشارة المرشحة لولاية رابعة، وذلك في زمن أميركا الجديدة التي سيجسدها دونالد ترامب، وروسيا المندفعة بإمرة فلاديمير بوتين.

وفي خضم الاهتزازات والتغييرات العميقة في السنوات الأخيرة وخاصة في سنة 2016 (البريكست وانتخاب دونالد نرامب) لفت النظر نشر مقالة مشتركة للرئيس الأميركي باراك أوباما والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، دافعا فيها عن العلاقة التي تربط ضفتي المحيط الأطلسي وعن التبادل الحر، في وقت أعلن ترامب عن مواقف أقرب إلى الحمائية والانعزالية. وكتبا “لن تكون هناك عودة إلى عالم ما قبل العولمة”.

وفي هذا السياق من التقارب “الأيديولوجي” وصف باراك أوباما ميركل، بأنها كانت “ربما الشريكة الدولية الأقرب” له، وجاء ذلك خلال المحطة الثانية والأخيرة من جولة وداع له في أوروبا، في الأسبوع الماضي، حيث اختار أوباما برلين ليودع فيها قادة بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا. وإذا كان وزن ألمانيا الإقليمي والعالمي له علاقة بتسليم مستشارتها شعلة تمثيل “العالم الحر”، نلمـح التركيز على شخصية ميركل بالذات ومحوريتها نظرا إلى خبرتها المتراكمة في الحكم منذ العام 2005، خاصة وقد منحتها مواجهتها لأزمة اللاجئين بعدا إنسانيا وأخلاقيا لزعامتها.

في المستقبل القريب تبدو المهمة صعبة نتيجة وضع الاتحاد الأوروبي بعد الخروج البريطاني، وعلى ضوء التنافسية القوية مع الصين، والتحدي الآتي من روسيا، والمجهول مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض. وكم كان معبرا موقف “الإمبراطورة” (لقب سبق لمجلة الإيكونوميست البريطانية أن أطلقته على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل) التي تبنت بعد فوز دونالد ترامب موقفا غير اعتيادي بنبرته الحازمة والواضحة، فذكّرته بأهمية احترام القيم الديمقراطية والتسامح، بعدما كان الرئيس المنتخب قد انتقد بشدة خلال الحملة الانتخابية ميركل وسياسة فتح الأبواب أمام المهاجرين التي انتهجتها.

وبالرغم من تطمينات أوباما حول ديمومة الصلة الأطلسية، فإن الريبة والترقب ظل يسودان الأوساط الأوروبية مع عدم إخفاء المخاوف من عدم القدرة على توقع مآلات الحقبة “الترامبية” القادمة. وإزاء هذا القلق يستنتج العديد من صناع القرار الأوروبي ضرورة التطلع إلى الأمام، وربما تدبر الأمور يوما من دون المظلة العسكرية الأميركية.

نتيجة وضعها و”تحييدها” بعد الحرب العالمية الثانية، ركزت ألمانيا على قوتها الاقتصادية الضاربة، وابتعدت عن الاستثمار في الإنفاق العسكري كما حال فرنسا وبريطانيا. لكن مفهوم الابتعاد العسكري الألماني عن شؤون العالم أخذ ينتهي بعد الانخراط الرمزي والمحدود في البلقان وأفغانستان ومسارح أخرى اعتبارا من منتصف التسعينات في القرن الماضي. واليوم بعد انسحاب لندن من الاتحاد الأوروبي، أصبح الإنفاق الدفاعي الفرنسي يمثل لوحده ربع الإنفاق العسكري الإجمالي للاتحاد الأوروبي، مع كل ما يعنيه ذلك من مخاطر الانكشاف الاستراتيجي الأوروبي حيال روسيا، أو الظهور بموقع الشريك الضعيف أمام “الدونالد”.

وبدا واضحا أنه من دون تغيير في التوجهات الألمانية يستحيل الاستنهاض الأوروبي. وفي هذا الإطار التقطت ميركل الإشارة الآتية من وراء الأطلسي، وأعلنت أنها تخطط للوصول إلى مصاف القوة العسكرية الأولى في الاتحاد الأوروبي، مع إعلانها الأربعاء الماضي، 23 نوفمبر، عن مضاعفة الإنفاق العسكري حتى يصل إلى نسبة 2 بالمئة من مجمل الدخل القومي العام (مستوى الإنفاق الحالي يبلغ 34 مليار يورو سنويا). ومما لا شك فيه أن المستشارة تبعث برسالة إلى ترامب عن الاستعداد لإسهام أكبر في حلف شمال الأطلسي ولعب دور دولي أكبر. ليس من الأكيد أن يكون ذلك كافيا لتحصين أو تصويب العلاقة الأميركية – الأوروبية، لكن الخطوة الألمانية كانت ضرورية خصوصا لجهة توقيتها قبل تسلّم الإدارة الأميركية الجديدة لمهامها، وهي تمثل أيضا حافزا بالنسبة إلى بقية الشركاء الأوروبيين وطمأنة لفرنسا بخصوص تقاسم الأعباء.

سيؤثر هذا التحول النوعي في العقيدة الدفاعية الألمانية على صلات “الإمبراطورة” و”القيصر الجديد”، خاصة أنه منذ العام 2013 نشهد لحظة تاريخية جديدة من التجاذب الروسي – الألماني إزاء بعض المدى الحيوي للجوار المشترك من وجهة نظريهما.

وإزاء سعي بوتين إلى تصحيح خطأ سقوط الاتحاد السوفييتي حسب نظريته، وحيال دخول واشنطن على الخط لتحجيم الاندفاعة الروسية وعدم الانزعاج من شرخ روسي – ألماني، جهدت ميركل للدفاع عن انتشار النفوذ الألماني في المدى الحيوي المباشر من بولونيا إلى أوكرانيا والبلطيق، حيث تقول أوساطها إنها لا تزال تفضل ترتيب تسويات مع الجانب الروسي على شاكلة اتفاقيات مينسك. لكن هذا سيتوقف في المستقبل القريب على الحوار الأميركي – الروسي. إلا أن ميركل، المتربعة على عرش ألمانيا منذ 11 سنة وتأمل في التجديد لأربع سنوات أخرى في سبتمبر 2017، لا يساورها التفاؤل لناحية الصلات مع روسيا أو لجهة تصحيح مسار العولمة.

وخلال مداولات “المنتدى الدولي للأمن” المنعقد هذا الأسبوع في هاليفاكس (كندا)، اتضح أن سلم التحديات لن يتغير في واشنطن خلال العهد القادم، وستبقى التهديدات الأربعة الرئيسية ممثلة على التوالي في روسيا، والصين وكوريا الشمالية والإرهاب. وهذا يدل على أولوية الاستدارة الأميركية نحو آسيا والمحيط الهادي بالنسبة إلى إدارة ترامب اقتصاديا واستراتيجيا. وستنتج عن ذلك، ضرورة، تحمل ألمانيا وأوروبا لمهامّ أوسع في إدارة العلاقة مع روسيا أو بشأن الشرق الأوسط الملتهب والحرب ضد الإرهاب.

تدرك أنجيلا ميركل أنها ابنة تاريخ عريق وملتبس ومنتكس وحيوي في آن معا. في العام 1914 ترافقت الحرب العالمية الأولى مع انهيار العولمة الأولى وانتقال مركز الثقل الصناعي من بريطانيا إلى ألمانيا. والآن مع تصدع العولمة بصيغتها الحالية يبرز الصراع الأميركي للحفاظ على الأرجحية بوجه الصين وروسيا. وهكذا سيتعين على أنجيلا ميركل، إذا بقيت في منصبها، أن تكون على موعد مع ازدياد وتيرة التحولات وأن تحاول ترك بصمتها الإيجابية على تاريخ آخر لألمانيا وأوروبا.

د.خطار أبو دياب

صحيفة العرب اللندنية