صراع ثلاثي بين عون وبري والحريري على هوية البلد

صراع ثلاثي بين عون وبري والحريري على هوية البلد

يتمركز الصراع الحالي في لبنان في إعادة تظهير مشهدية الصراع بين الرئاسات الثلاث أو ما اصطلح على تسميته بالترويكا. ترتدي الخلافات صيغة راديكالية تضيّق إلى حد كبير إمكانيات التراجع والتنازل، وتتخذ ملامح تناقض تام في النظر إلى هوية البلد ومصيره.

تأسيس الصراع على خلفية تأليف الحكومة لا يكشف بوضوح عن عمق الأزمة الناشئة والتي لا يبدو الخلاف الحكومي سوى أحد مظاهرها البسيطة، إذ أن كلا من الرئاسات الثلاث يمثل مشروعا متحاربا مع المشروع الآخر.

المشروع المسيحي كما تمثله الرئاسة الأولى في هذه المعادلة هو المشروع الأضعف والأقل قدرة على الدفاع عن نفسه، فهو محاصر من جهة أولى بمحلية حدوده، ومن ناحية ثانية بارتباط الرئيس المنتخب الذي يرفع عنوان عودة حقوق المسيحيين بحلف مع حزب الله الذي تصنفه الدول التي كانت راعية تاريخية للمسيحيين في لبنان بأنه حزب إرهابي. كما أن هذا الحلف يعطي للحزب حصة كبيرة من العهد تجعله قادرا على المطالبة بترجمتها عبر فرض مجموعة من الشروط التي تشل فاعلية الرئيس والحكومة التي ستتشكل في عهده.

مشاريع متناقضة

يحرص المشروع الشيعي الذي يمثله الرئيس بري على أن يسيطر على البلد من خلال الوصاية على رئاسة الجمهورية وتحجيم الرئاسة الثالثة وبذلك يحكم السيطرة على الرئاسات الثلاث مع وجود الرئاسة الثانية في يده. ويبدو الأكثر قدرة على فرض شروطه وتنفيذ مشاريعه لأنّه قبل كل شيء يضم حلفا متجانسا إلى حد التطابق، وينتمي إلى مشروع ينتصر في سوريا والعراق على حساب كل المكونات الأخرى.

المشروع السني وعلى الرغم من عناوين الهزيمة في المنطقة إلا أنه يستطيع أن ينسب نفسه إلى جهة لا يزال لها وزنها التفاوضي والدولي، كما يمكنه أن يعقد التحالفات مع الجهات الإسلامية وأن ينسب نفسه إلى تيار مدني وطني عام كما يحرص سعد الحريري على القول بشكل دائم.

من هنا، يمكن رسم خريطة الصراعات بين الرئاسات الثلاث في عناوينها المعلنة على أنها قبل كل شيء صراع سني مسيحي بعناوين مختلفة مع الشيعة لمنع الثنائية الشيعية من فرض كامل سلطتها على قرار البلد، وصراع سني مسيحي بين سعد الحريري والرئيس المنتخب على خلفية سعي صهره إلى إقصاء المكونات المسيحية الأخرى التي يرتبط معها الحريري بتعهدات من قبيل سليمان فرنجية. كذلك هناك صراع بين بري وعون يحمل عنوانا علنيا هو العنوان نفسه لخلاف سعد الحريري معه ولكنه يخفي عناوين أكثر عمقا تتّصل بمحاولة تحديد هوية العهد وتوجهاته، ومحاولة تحويل تفاهمه مع حزب الله إلى عنوان نهائي لسلوكه السياسي.

عون-بري

يسعى الرئيس المنتخب إلى تظهير حلفه الثنائي مع القوات اللبنانية كعنوان شرعية مسيحية ووطنية تجعل من تحالفه مع حزب الله وتفاهمه معه استثمارا رابحا للطرفين يفرض على كل منهما تبادل التنازلات. يصرّ الحزب من جهته على تصوير وصول الجنرال إلى سدة الرئاسة على أنه منّة من الحزب تتطلب من الرئيس المنتخب ليس أقل من إعلان الانتماء الكامل في السلوك والممارسة إلى صفوف محور الممانعة.

المشروع المسيحي كما تمثله الرئاسة الأولى هو المشروع الأضعف والأقل قدرة على الدفاع عن نفسه، فهو محاصر بمحلية حدوده، وبارتباط الرئيس المنتخب بحلف مع حزب الله

يقتضي ما يطلبه الحزب من الرئيس المنتخب فضّ حلفه مع القوات اللبنانية الذي بنى عليه كل خطاب التمثيل المسيحي وحقوق المسيحيين، وأن ينسف كذلك عنوان عودة الحقوق إلى المسيحيين والذي راج مع انتخابه، وكذلك القضاء التام على شعار الرئيس القوي، وإلغاء مفاعيل مبادرة جعجع إلى ترشيحه، والتنازل الكبير الذي قدمه سعد الحريري حين قبل بترشيحه إلى سدة الرئاسة ضمن اتفاق لم تنكشف كل تفاصيله بعد.

يطلب الحزب من الرئيس المنتخب أن يتنصّل من كل الالتزامات السابقة. وأن يفتح اشتباكا مع جعجع ومع الحريري. ويوكل الرئيس نبيه بري بمهمة إطلاق الرسائل المباشرة. ويوحي إلى وسائل الإعلام التي تدور في فلكه بإطلاق الرسائل بعيدة المدى، والتي كان آخرها ما نشرته جريدة السفير على لسان المحرر السياسي الذي لم يكن سوى الاسم الحركي الذي تلطّت خلفه الثنائية الشيعية، وأطلقت من خلاله الرسائل التي لامست حدود التهديد في أكثر من تفصيل.

من عناوين الاشتباك بين الرئيس المنتخب والرئيس بري هي الصراع على قانون الانتخاب. يعلن الرئيس بري أنه ضد قانون الستين الانتخابي الذي لا يشك كثيرون أن من شأن إجراء الانتخابات على أساسه إعادة إنتاج حضور القوى الإسلامية الشيعية والسنية بأحجامها الحالية في حين أن الضرر سيصيب القوى المسيحية. يبيع بري القوى المسيحية موقفا يظهر فيه وكأنه يدافع عن مصالحها، في حين أن تطبيق هذا القانون لا يضره بشيء.

كان الجنرال عون قبل وصوله إلى سدة الرئاسة يدافع عن القانون الانتخابي الأرثوذوكسي على الرغم من توقف الحديث عنه مؤخرا، وهو وإن كان يبدي انفتاحا على قوانين أخرى. ولكن الأرثوذوكسي يشكل النواة الصلبة الفعلية لتفكير حلفه السياسي في هذه المرحلة، لأنه ينسجم مع عناوين حقوق المسيحيين وضرورة أن يكون التمثيل المسيحي محصورا في الأصوات المسيحية.

بري يدافع عن مشروع قانون تقدم به يقضي بالخلط بين الأكثري والنسبي في حين يدفع حزب الله بقانون النسبية الكاملة إلى الواجهة، وهو في حال تم العمل به سيؤدي إلى تقليص كبير في حجم الكتلة النيابية المسيحية ككل، والكتلة التي تمثل التحالف الثنائي العوني القواتي بشكل خاص.

عون-الحريري

افترض الحريري أن الزخم التواقفي الكبير الذي منحه للجنرال عون مع ترشيحه كان من شأنه أن يدفع في اتجاه استكمال مفاعيل هذا التوافق، وترجمتها في تسهيل تشكيل سريع للحكومة. وأوحت الأجواء التفاؤلية التي رافقت وصول عون إلى سدة الرئاسة بإمكان تشكيل الحكومة في فترة وجيزة للغاية. وكانت العقبات الرئيسية الفيتوات التي أطلقها فريق الجنرال، وبالتحديد الوزير جبران باسيل، ضد منح سليمان فرنجية حقيبة وازنة في الحكومة.

كان حزب الله قد أطلق فيتو ضد منح القوات حقيبة الدفاع أو حقيبة سيادية، ولكن أمكن تذليل هذه العقبة، وقبلت القوات بحصة لا تتضمن حقيبة سيادية بغية تسهيل تشكيل الحكومة، ولكن فريق الرئيس بقي على موقفه، وهو ما أدى إلى تعقيد تشكيل الحكومة وتأجيل إعلان الحريري كرئيس لحكومة منجزة.

هكذا لم تتشكل الحكومة قبل عيد الاستقلال وهو الموعد الرمزي الذي وضعه الحريري لتشكيلها، ولم يتمكّن الحريري تاليا من المشاركة في عيد الاستقلال بوصفه رئيس حكومة منجزة بل كرئيس مكلّف، كما أطلق وشارك في المؤتمر العام لتيار المستقبل الذي عقد مؤخرا بهذه الصفة.

حرم العناد العوني والحسابات العونية الضيقة سعد الحريري من الزخم الكبير الذي كان من الممكن أن يحصل عليه لو كانت مشهدية الحكومة قد أنجزت قبل عيد الاستقلال الذي حضره عون بصفته رئيسا، وشارك الرئيس بري كرئيس للمجلس النيابي في حين أن حضور الحريري كان ناقصا وغير مكتمل.

ينسب الحريري المسؤولية عن انتقاص صفته التمثيلية إلى عون، وقد رد عليها بصيغة رسالة أطلقها إثر زيارة قام بها إلى القصر الجمهوري، أعلن بعدها أنه مع الرئيس بري ظالما أو مظلوما في إشارة إلى توافقه مع موقف الرئيس بري الذي يحمّل عون المسؤولية عن تعطيل التوافق على تشكيل الحكومة.

قال الأمير خالد الفيصل، الموفد السعودي الرفيع إلى لبنان، إن زيارة رئيس الجمهورية ميشال عون إلى المملكة العربية السعودية ستكون زيارته الخارجية الأولى. وأعرب الرئيس المنتخب عن رغبته بتلبية الدعوة الملكية التي نقلها لها الفيصل ما إن يتم تشكيل الحكومة في محاولة منه لمنح انطلاق عهده امتدادا عربيا.

تم تلقي المشهد الذي لم يحدث، والذي يجمع الرئيس المنتخب ورئيس الحكومة في صورة واحدة في السعودية، عند الثنائية الشيعية بصفته مشهدا ممنوعا فعملت على تعطيله بنشر قراءة تفيد بأن كلام الأمير خالد الفيصل يتضمن فرض وصاية على الرئيس المنتخب وأنه لا يحق له النطق باسمه بهذا الشكل الجازم.

وبعد ذلك تضخم الصراع بين عون وبري. كانت المسألة أبعد بكثير من العناوين المعلنة للصراع، وأبعد من حدود زيارة يمكن أن يقوم بها الرئيس المنتخب بشكل عادي وبروتوكولي إلى دولة عربية، بل بدا ببساطة وكأنه محاولة لمنع خلق هوية سعودية عربية للبلد.

هوية البلد

مشهد آخر برز في هذه الفترة وهو مشهد زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى لبنان، حيث أطلق من بيت الوسط تصريحات تحض على محاربة التكفيريين وما إلى ذلك. ولكن الزيارة ذات الدلالة كانت تلك التي لا يتسنّى للكاميرات التقاطها في العلن، وهي زيارته إلى السيد حسن نصرالله. وكانت زيارة ظريف قد سبقت بتصريحات إيرانية واضحة تعتبر أن انتخاب الجنرال عون رئيسا هو انتصار واضح ومحسوم لمحور الممانعة. اتخذت زيارة ظريف في عمقها طابع تكريس هوية البلد الممانع المنطوي تحت جناح إيران.

المشروع السني يستطيع أن ينسب نفسه إلى جهة لا يزال لها وزنها التفاوضي والدولي كما يمكنه أن يعقد التحالفات مع الجهات الإسلامية وأن ينسب نفسه إلى تيار مدني وطني عام

تبلور الصراع على هوية البلد كما تظهره مشهدية الانتماءات السياسية للرؤساء الثلاثة في أنه صراع بين هويات مختلفة ومتناقضة.

ما يطمح إليه رئيس الجمهورية المنتخب هو هوية مسيحية لبنانية للبلد مدعومة عربيا ودوليا وتكرّس واقع خصوصية المسيحيين ودورهم ووجودهم.

رئيس الحكومة المكلف يطمح إلى ربط هوية البلد بالأفق العربي السعودي الذي يمكنه منح المكوّن الذي يعبّر عن تطلعاته عمقا عربيا وإسلاميا، يحميه ويصون مصالحه، ويؤمّن إعادة إنتاج حضوره في واجهة المشهد السياسي في البلد.

الرئيس بري ينتمي إلى محور الممانعة الذي يعلن من فترة عن هوية البلد بوصفه بلدا ينتمي إلى محور المقاومة والممانعة. الضغوطات التي يبذلها مباشرة ويبذلها حزب الله من خلاله على الرئيس المنتخب ورئيس الحكومة المكلف من أجل إدماج القسم الممانع المرتبط بالنظام السوري في تركيبة الحكومة ليس سوى محاولة للتأكيد على هوية البلد المرتبطة بمحور الممانعة، ومحاولة لإظهار هذه الهوية بصفة رسمية وشرعية عبر فرضها على رئيس الجمهورية، وإجبار رئيس الحكومة المكلف على القبول بها لتسهيل تشكيل الحكومة.

تكمن المفارقة الساخرة في كل هذا السياق أن إيران لا تنظر إلى فرض هوية ممانعة على البلد إلا في سياق حربها المعلنة مع السعودية، وكذلك تفعل السعودية لناحية نظرتها إلى هوية البلد الذي تريده بلدا عربيا يواجه إيران.

الاستثمار الحربي لإيران في حزب الله والذي تعتبره قد نجح في تركيز دعائم الهوية التي تريدها للبلد يبدو قائما بالفعل، في حين أن الهويات الأخرى العربية تبدو هشة وغير قادرة على منازلة الهوية الإيرانية المتعسكرة.

لا تستطيع السعودية أن تمنح لبنان هوية عربية حين تباد حلب المدينة العربية الأبرز في المنطقة ولكن إيران تستطيع، لأن حلب تباد، أن تفرض هوية ممانعاتية إيرانية على البلد. هكذا لا يبدو صراع الرئاسات الثلاث على هوية البلد سوى انعكاس لما يجري في المنطقة من صراعات تميل فيها الكفة لصالح مشروع إيران الذي يبدو قادرا على إغراق البلد لفترة طويلة في لجج هويته القاتلة.