الأنتلجنسيا وفوز اليمين الفرنسي

الأنتلجنسيا وفوز اليمين الفرنسي

بعد إعلان فوز فرانسوا فيون بترشيح اليمين الفرنسي للانتخابات الرئاسية المقبلة، توارت عبارات الفيلسوف الألماني هوسرل التي طرحها في أواخر العشرينات، وأطلق صيحته:«على أوروبا أن تحقق كوامنها من أجل عالم ينتظر تلك الكوامن التي تمثل حقيقة تلك المنطقة من العالم، ونقل أوروبا من حالة التبعية والانحدار إلى حالة الاستقلالية مرة أخرى، من خلال تأكيد الأهمية الأوروبية، والتي تعني مجموعة من الأسس والقيم التي يُبنى عليها السلوك العام، والابتعاد عن عالم ذرائعي من ذات طاقات ومنطلقات أيديولوجية».
وهذا ما أشار إليه فرنسوا فيون في كتابه الذي أصدره قبل الانتخابات بعنوان «الانتصار على التوتاليتارية الإسلامية» وقال: «نحن ( أي الغرب) لا نواجه تهديداً عابراً بل حركة جامحة تهدف للسيطرة على قسم من العالم باللجوء إلى الأيديولوجية وطرق توتاليتارية».
وبفوز اليمين الفرنسي يتحقق ما أراد، حيث إن الشعب الأوروبي يخطو نحو حقبة تاريخية حضارية جديدة، وبناء ثقافة الذات تقوم على تجانس ثقافي وتوافق أيديولوجي. الأمر الذي يجعلهم في حال من تفاعل دائم مع القيم المركزية لمجتمعهم، بحيث تملك الأنتلجنسيا الغربية رصيداً من القيم الأخلاقية، تختزل الزمان، لأن الزمان، كالكائن الحي.
ويظهر هذا الدور جلياً بالاختيار الدقيق الحذر للعناصر الثقافية والسياسية،والتي تجسد الهوة في شتى حقب التبعية والهيمنة للحيلولة دون انجراف الذاتية مع تيارات ناشئة كإفراز فكري للتوجهات والنزعات الكهنوتية الثيوقراطية، ونسيان بواعث الحرب العالمية الثانية التي صدمت البشرية جمعاء، بحجم الخسائر البشرية والأخلاقية، والتي نجمت عنها، وذلك بعد أن ساد، بعد تلك الحرب،تحالف هش وإن بدا متماسكاً وتوافقياً، إلا أنه في جوهره ينمو متزعزعاً ومتفككاً، وخاصة في أوروبا التي خسرت بشرها وحجرها. وظهر مزاج أوروبي وغربي عام يجنح نحو ترسيخ الديمقراطية والتعددية، وفتح الحدود أمام الآخر، كتعبير عن قبوله، في مواجهة النزعة العنصرية التي اجتاحت ألمانيا، وتسببت في اندلاع تلك الحرب، وترافق الجو الانفتاحي مع رحلة إعمار اقتصادي ساهمت في إشاعة جو من الرفاه عاشته مختلف الشعوب الغربية.
لكن ولأن دوام الحال من المحال، فقد تراكمت عدة عوامل غيّرت المزاج الغربي، ودفعته باتجاه معاكس، وهو العودة إلى كره الآخر، والانغلاق على الذات. ومنذ أن أسس جان ماري لوبان «حزب الجبهة الوطنية الفرنسية»، ظهرت العلامات الأولى للتغيير في الغرب، فعلى الرغم من أن فرنسا آنذاك كانت عنواناً للانفتاح والحرية الثقافية في العالم، لكن كان هناك صوت خفيت، يصدر عن قلة من الفرنسيين يدعو إلى التغيير، وجاءت أهداف الجبهة الوطنية لتعبر عن ذلك الصوت، وتتمثل هذه الأهداف في العودة إلى القيم التقليدية، ومعارضة الإجهاض، والمحافظة على الثقافة الفرنسية، ومعارضة عمليات التكامل الأوروبي، وحماية المنتجين المحليين.
ولأن عملية التغيير تحتاج إلى وقت، فإنها سارت في مسار تصاعدي، حتى بلغت الذروة مع أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وكما قيل: «على رأس كل قرن فتنة» فقد كانت تلك الأحداث بداية لانقلاب الصورة، حيث تحولت أهداف الجبهة الوطنية إلى عناوين لأحزاب سياسية عديدة ظهرت في الغرب، وما زاد الطين بلة، أن المتطرفين راحوا يوالون استهدافهم لدول الغرب. وعلى الجهة الأخرى تفاقمت ظاهرة الهجرة، ولم يعد بوسع الدول الغنية في الغرب أن تحافظ على نقائها فتمنع وصول المهاجرين إليها. ولأن الطريق إلى الحرب باتت مغلقة، بسبب وجود وانتشار الأسلحة الخطيرة بين الدول، فإن الطريق المتاح هو الانكفاء وراء الحدود، والعيش بهدوء بعيداً عن ضجيج الخارج.
وقد اختار الشعب البريطاني هذا الطريق عندما أيد الخروج من تحت عباءة الاتحاد الأوروبي، ليستريح من عبء الخارج الذي أثقل ظهره. ثم جاء انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، ليعزز من قوة اليمين المتطرف، ويكشف تلك الصورة المغايرة للغرب. فقد حمل ترامب نفس أفكار الجبهة الوطنية الفرنسية واليمين الأوروبي المتطرف بشكل عام. ونجاحه بتلك المفاهيم المغايرة لواقع الولايات المتحدة والغرب، يؤكد أن الصورة ستنقلب بالكامل ليس في الولايات المتحدة فقط، بل في أوروبا أيضاً، وربما يسود ذلك التوجه العالم أجمع في مراحل لاحقة كصدى لما حدث في الولايات المتحدة، وما بات يطفو على الساحة السياسية الأوروبية.
ولعل فرنسا ستكون النموذج الغربي الثالث في هذه المعادلة الجديدة، فهي على أبواب انتخابات رئاسية في الربيع المقبل، ويتصدر هذه الانتخابات اليمين بشقيه، التقليدي والمتطرف، ويتفق الطرفان على مفاهيم مشتركة، ويمثل اليمين التقليدي فرانسوا فيون الذي يعرف عنه بأنه كاثوليكي محافظ، يعارض زواج المثليين، ويدعو إلى تقديس العائلة، والعمل على إعادة مجد فرنسا، كما يدعو إلى مكافحة الإرهاب والتعاون مع روسيا للقضاء على المتطرفين، وتشاركه رئيسة الجبهة الوطنية مارين لوبان نفس الأفكار، وفي حال أصبح أيّ منهما رئيساً فإن فرنسا مقبلة على تغيير كبير سوف يهز أوروبا من جذورها.
إن أعظم المبادئ تبقى ظاهرة صوتية إذا لم تلامس واقع الشعوب، وتصبح المحرك للسلوك، فالأهواء المفتوحة هي التي تقود الفكر، وتحرك بواعث الإرادة، ونزعة البناء في مدارج الرقي الإنسانية.

محمد خليفة

صحيفة الخليج