النظام الإيراني…تصريحات الهيمنة وحدودها

النظام الإيراني…تصريحات الهيمنة وحدودها

يحلو للبعض أن يتحدث عن إيران باعتبارها قوة مضافة إلى القوة العربية تساندنا في مواجهة الخطر الصهيوني ومخاطر الهيمنة العالمية ومن ثم تجب محالفتها، وهو منطق يمكن أن يكون سليماً لولا مشروع الهيمنة الإيراني الذي ألبسته ثورة 1979 لباساً دينياً مع أنه قومي متطرف بامتياز. وفي إطار هذا المشروع حدث تمدد للنفوذ الإيراني في سورية ولبنان والعراق وأخيراً اليمن، وفي هذا السياق تتوالى تصريحات مسؤولي النظام الإيراني التي تؤكد على تلك الهيمنة. فعلى سبيل المثال وليس الحصر ففي تشرين الثاني/نوفمبر عام 2014م، صرّح “علي رضا زاكاني” النائب في مجلس النواب الإيراني  عن سيطرة بلاده على أربع عواصم عربية “صنعاء ودمشق وبغداد وبيروت”. وفي آذار/مارس عام 2015م، قال علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، إن “إيران اليوم أصبحت امبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي”، وذلك في إشارة إلى إعادة الامبراطورية الفارسية الساسانية قبل الإسلام التي احتلت العراق وجعلت المدائن عاصمة لها. وأضاف قائلاً أن “جغرافية إيران والعراق غير قابلة للتجزئة وثقافتنا غير قابلة للتفكيك، لذا إما أن نقاتل معا أو نتحد”، في إشارة إلى التواجد العسكري الإيراني المكثف في العراق خلال الآونة الأخيرة.

وفي تشرين الثاني/نوفمبر الماضي صدرت عدة تصريحات من المسؤولين الإيرانيين وعلى رأسهم مرشد الثورة الإيراني حيث أعلن اللواء محمد باقري رئيس هيئة الأركان الإيرانية، أن بلاده تتجه نحو “بناء قواعد بحرية في سواحل سوريا واليمن، لحاجة الأساطيل الإيرانية لقواعد بعيدة”، وأضاف: «تنازلنا عن قوتنا النووية ونحن نعوضها الآن ببناء قوة بحرية ستعطينا قيمة أكبر، أسطول عسكري في بحر عمان وأسطول آخر في المحيط الهندي، وبناء قواعد بحرية على سواحل أو جزر في كل من اليمن وسوريا، وتطوير قدرتنا الاستخباراتية العسكرية من خلال طائرات من دون طيار في امتداداتنا البحرية».  وأعقبت تصريحات باقري في اليوم التالي مباشرة تصريحات للمرشد الإيراني نفسه خلال استقباله قيادات القوة البحرية الإيرانية دعا فيها إلى تعزيز الوجود الإيراني في أعالي البحار معتبراً أن ذلك يعزز قدرة البلاد.  وعن نشر ولاية الفقيه في العالم العربي والإسلامي قال اللواء يحيى رحيم صفوي، كبير المستشارين العسكريين للمرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، إن “العالم يتجه نحو إقامة حكومة إسلامية عالمية بإدارة إيران”. ووفقا لوكالة “فارس”، فقد اعتبر صفوي أن شبان العالم الإسلامي في اليمن والعراق يحتذون بنموذج شبان إيران، في إشارة إلى تأسيس ميليشيات ومجاميع وأحزاب تابعة لنظام ولاية الفقيه في طهران. والسؤال الذي يطرح في هذا الإطار كيف تنامت النزعة التوسعية لدى النظام الإيراني؟

حاول النظام الإيراني الذي اعتمد الإمامية الاثني عشرية مذهباً رسمياً للدولة الإيرانية بنص دستورها، بعد عام 1979، تقديم نفسه باعتباره حامياً للمذهب، وبدأ يعمل على التمدد في المنطقة، عبر دعم الأقليات الشيعية في دول الجوار، مستفيدً من سياسات التهميش التي اعتمدتها النظم الحاكمة فيها، وهي، والحق يقال، طالت جميع مواطنيها، سنة كانوا أو شيعة أو خلافه. مع ذلك، لم يكن هذا التمدد أمراً يسيراً، إذ حاول النظام الإيراني، أول الأمر، مد نفوذها إلى أذربيجان، باعتبار أن معظم سكان هذه من الشيعة، لكنها فشل في عهد الاتحاد السوفييتي، كما فشلت بعد سقوطه، إذ قاومت أذربيجان المستقلة التي يحكمها نظام علماني “أتاتوركي” بقوة محاولات النظام الإيراني النفاذ إليها من بوابة المذهب. وتتخذ أذربيجان اليوم سياسات شديدة العداء تجاهه، لدرجة أنها عرضت استخدام أراضيها لتوجيه ضربة عسكرية لمنشآت  النظام الإيراني النووية.
كما تصدت الهند وباكستان، وحتى أفغانستان، لمحاولاته النفاذ إليها عبر الأقليات الشيعية الموجودة لديها. وبانغلاق المجال أمامه في الشمال والشرق، لم يتبق أمام النظام الإيراني إلا العالم العربي ليحاول التمدد فيه. فشل أول الأمر في إحداث اختراق في العراق، بسبب قوته وقدرته على صدها، لكنها نجحت في إنشاء تحالف وثيق مع نظام دمشق، ما ساعدها في إنشاء موطئ قدم له في العراق عبر الأحزاب الدينية وفي لبنان عبر حزب الله الذي تحول إلى أحد أهم أذرع النظام الإيراني في المنطقة.
أدى قرار غزو الكويت عام 1990 إلى إضعاف قدرة العراق على مقاومة التغلغل الإيراني، كما أضعف السلطة المركزية في بغداد في مقابل تنامي طموحات مكونات المجتمع الاثنية والمذهبية (من الشيعة والأكراد) التي أخذت تتطلع إلى الخارج “النظام الإيراني والولايات المتحدة الأمريكية” من أجل الدعم والمساندة. ولم يحل الغزو الأميركي عام 2003 حتى كان العراق جاهزاً للوقوع في القبضة الإيرانية، ما سمح بنشوء قوس نفوذ إيراني عابر للحدود من أفغانستان وحتى المتوسط. لذا يرى الكثيرون أن النفوذ الإيراني في المنطقة العربية وصل إلى درجات غير مسبوقة، لا سيما بعد إطاحة الولايات المتحدة نظام صدام حسين في العراق.
وجد النظام الإيراني في الربيع العربي فرصة لمزيد من التمدد، هذه المرة في الجزيرة العربية، بعد أن تمكن من تأمين حدوده الغربية، حيث غدا العراق تحت هيمنته حتى قبل أن تسحب الولايات المتحدة الأمريكية قواتها العسكرية من هناك. وقد حاول النظام الإيراني استخدام الانتفاضة “الشيعية” في البحرين مطلع عام 2011 لمصلحتها لكن التدخل السريع للمملكة العربية السعودية وقوات درع الجزيرة أحبط المحاولة، ثم تلق النظام الايراني ضربة قوية أخرى في سورية مع اندلاع الثورة التي هددت بتقويض كل إنجازاته، في العقدين الماضيين، فسقوط نظام الأسد يهدد بعزل حزب الله، وإن لم يؤد إلى إنهائه، ويهدد بفقدان السيطرة الشيعية على السلطة في بغداد، ثم جاء التدخل العسكري السعودي المباشر في اليمن في مارس/آذار من هذا العام، هذا التمدد قد دفع أحد المسؤولين الإيرانيين للقول «لماذا تريد برنامجاً نووياً -والمقصود هنا إيران- إن استطاعت السيطرة على مضيق باب المندب».
فالمسألة إذن ليست تصريحاً عابرة لمسؤلي النظام الإيراني لكنها انعكاس لسياسة واضحة ليس الجديد فيها هو نوازع الهيمنة وإنما أدواتها، لاسيما الأداة البحرية الجديدة إذ إنه للمرة الأولى يتحدث المسؤولون الإيرانيون عن ذراع بحرية تتجاوز مياه الخليج العربي التي يمكن فهم التحركات البحرية الإيرانية فيها من منطلق أمني مباشر، أما الحديث عن تعزيز الوجود البحري الإيراني في أعالي البحار وعن قواعد بحرية ثابتة أو عائمة تتجاوز النطاق المباشر لأمن النظام الإيراني فليس سوى سلوك يتسق مع مشروع الهيمنة «الإمبراطوري» الإيراني، إذ إننا بالتأكيد إزاء محاولة جديدة لتدعيم التمدد الإيراني خارج الحدود وتوسيعه بوسائل جديدة صدق “باقري” في وصفها بأنها أقوى بعشرات المرات من القدرة النووية، لأن المعروف أن هذه القدرة منذ استُخدمت للمرة الأولى والأخيرة في نهاية الحرب العالمية الثانية ليست سوى قدرة لردع العدوان غير قابلة للاستخدام الفعلي لآثارها المدمرة الرهيبة، وإلا ما مر قرابة ثلاثة أرباع القرن دون استخدامها لمرة ثانية رغم تعاظم القدرات النووية للقوى العظمى والكبرى وانتشارها عبر الزمن. أما أدوات مثل الحرس الثوري الإيراني والميليشيات العسكرية التابعة للنظام الإيراني فهي كما نرى تعيث فساداً في أكثر من بلد عربي فما بالنا بتمدد القدرة العسكرية الإيرانية بأذرع بحرية في أرجاء المنطقة كافة، وليست خافية بالتأكيد دلالة الإشارة المحددة في تصريحات رئيس هيئة الأركان الإيرانية إلى سورية واليمن حيث تعمل الأدوات الإيرانية بهمة ونشاط وهو ما يؤكد تصورنا العام عن مشروع الهيمنة الإيرانية.
لكن وعلى رغم هذه من تصريحات الهيمنة للمسؤولين الإيرانيين، يبقى السؤال الأهم هو إلى أي حد استطاع النظام الإيراني ترجمة هذا النفوذ لتحقيق مصلحته الوطنية المتمثلة بزيادة قوة الدولة نفسها وتحقيق الأمن والازدهار الاقتصادي المستدام لأبنائها؟ في الجانب الاقتصادي، يلاحظ أن ركيزة النظام الإيراني الأساسية في المنطقة العربية، وهي سورية، شكّلت عبئاً اقتصادياً هائلاً عليها بحيث أصبحت حياة النظام السوري متوقفة على الدعم المالي الإيراني، لا بل إن كثيرين من المحلّلين السياسيين رأوا في عدم تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب السورية طوال السنوات الماضية فرصة لاستنزاف النظام الايراني اقتصادياً في سورية حتى درجة الانهيار. من جهة أخرى، فإن التمدد الحوثي في اليمن يأتي هو الآخر مع فاتورة اقتصادية باهظة ويظهر ذلك في تصريح أحد قادة الحوثيين، الذي قال إن «هؤلاء – والمقصود هنا عشرات آلاف المقاتلين الحوثيين – لن يعودوا من هذه المواجهة مع الدولة بخفي حنين»، إذ يتوقع الحوثيون تعويضاً اقتصادياً يليق بحجم تضحياتهم. وبما أن الدولة اليمنية على حافة الإفلاس لا يبقى سوى النظام الإيراني ليدفع هذه الفاتورة أيضاً. وإذا ما تحول التوتر الأمني في اليمن إلى حرب أهلية مع القبائل و«القاعدة» وحزب الإصلاح وغيرهم، والذي بدأت بوادره في مناطق متعددة في اليمن، فإنه سيتعين على على النظام الايراني تمويل حرب جديدة، بالإضافة إلى تلك التي تخوضها في سورية، التي أنهكت الاقتصاد الإيراني طوال السنوات الخمس الماضية، علماً بأنه لا يزال يعاني أصلاً من وطأة العقوبات الاقتصادية، ومن انخفاض أسعار النفط. هذه المعطيات تلقي بتحديات جمة وخطيرة أمام التوسع الإيراني الذي يقتضي تمويل حروب قد يطول أمدها.

سياسياً وأمنياً، الصورة ليست أكثر إشراقاً، إذ يعجز النظام الايراني عن ترجمة سيطرته على العواصم الأربع لتحقيق مصلحة وطنية آنية أو بعيدة المدى. فقط قبل بداية الربيع العربي كانت سورية أهم حليف له في المنطقة وقائد لما يسمى محور المقاومة، ويسعى لتحقيق توازن استراتيجي مع إسرائيل. أما الآن، فقد تحولت سورية إلى دولة فاشلة وخسرت معظم أراضيها لمصلحة ما يسميه نظامها المجموعات المسلحة. وأصبحت تشكل عبئاً هائلاً على النظام الايراني بكل المقاييس. أما بالنسبة إلى حليفه العضوي -حزب الله-، فما من شبه بين 2006 و2016،عندما خرج الحزب في حربه الأخيرة مع إسرائيل (2006) بحاضنة شعبية عارمة، ليس فقط في لبنان ولكن في معظم العالم العربي. أما اليوم، فقد انهكته حرب سوريّة شرسة لا ناقة له فيها ولا جمل، وتحول من دور القيادة في الدفاع عن أعدل قضايا الإنسانية –القضية الفلسطينية- إلى الدفاع عن نظام دموي فاقد للشرعية أمام شعبه والعالم أجمع. أما بغداد، العاصمة الثالثة التي يتباهى بالسيطرة عليها رضا زاكاني، فقد قطعت أوصالها النزاعات الطائفية وخسرت جزءاً كبيراً من الدولة لمصلحة تنظيمات مسلحة مثل «داعش» وغيرها.

أما على المستوى الداخلي يعاني النظام الايراني من انقسامات وتناقضات تصل إلى حد العداوة بين الليبراليين والمحافظين وبين القوى الديموقراطية والدينية، كما أن هناك توترات متزايدة بين الشعوب والإثنيات والمذاهب التي تتكون منها، فنسبة الفرس لا تتجاوز، وفق أرقام رسمية، 51% من مجموع السكان، فيما يشكل الأذريون 24%، ويتوزع الباقون بين أكراد وعرب وبلوش وغيرهم، وعلى الرغم من أن غالبية السكان يدينون بالمذهب الإثني عشري (85%)، إلا أن 58% منهم فقط يتحدثون الفارسية، فيما يتحدث التركية 26%، وبقية السكان يتحدثون الكردية والعربية وغيرها من اللغات. هذا يعني أن النظام الإيراني أقل انسجاماً، حتى من دول المشرق العربي التي تفتك بها الصراعات الاثنية والمذهبية، ويجعل النظام الإيراني مرشحاً، مثل غيره من دول المنطقة، للدخول في صراعات من هذا النوع، نظراً لشدة الاحتقان السائد في المنطقة، وميل جميع اللاعبين في الإقليم إلى استخدام ورقة التنوع الطائفي والإثني والمذهبي أداة للصراع والمواجهة، وسوف يبدو هذا المزيج أكثر عرضة للانفجار، حيث ستطفو كل القضايا والخلاقات الداخلية المؤجلة على السطح، بمجرد اختفاء صورة الشيطان الأكبر.

من الواضح أن النظام الإيراني لم يتعلم شيئاً من تجربة الاتحاد السوفياتي الذي دعم حركات ثورية في أنحاء العالم استطاع معظمها الوصول إلى الحكم، وراهن الاتحاد السوفياتي على أن هذه الدول ستشكل الداعم الأساسي له في المواجهة المؤجلة مع الإمبريالية العالمية، لكن هذه الدول الحليفة ساهمت في الانهيار الاقتصادي للاتحاد السوفياتي قبل حدوث المواجهة مع الإمبريالية. فحتى لو أحكم حوثيو إيران السيطرة على مضيق باب المندب فإن ذلك لن يعود بدولار واحد على الخزينة الإيرانية وإغلاق المضيق لن يحدث، كون إيران معنية أكثر من الإمبريالية العالمية بعدم حدوث أي مواجهة عسكرية ، وما أدل على ذلك، استهجان رئيس المجلس السياسي الانقلابي في اليمن التصريحات الإيرانية المتعلقة بالقاعدة البحرية، وهو ما يثير علامات استفهام حول ما إذا كان جاداً أم أنها تصريحات لعدم إراقة ماء الوجه ما دام النظام الإيراني هو الداعم الأول لهم وهي الآن تفضح تبعيتهم.

وأخيراً، فإن النظام الإيراني مدعو اليوم وأكثر من أي وقت مضى، ومعه دول الجوار العربي، إلى إعادة صياغة علاقات التنافس والصراع على أسس جديدة قائمة على التعاون والاحترام المتبادل وبعيدة من الشحن الطائفي والقومي. فالتحالف مع جماهير عربية واسعة تؤمن طوعاً بعضوية العلاقة مع الجارة الدولة الإيرانية هو الذي سيشكل الحامي الحقيقي له من أي اعتداء خارجي والرافد الحيوي للاقتصاد الإيراني وليس تنصيب أنظمة طائفية في العواصم الأربع تشكل عبئاً على الاقتصاد الإيراني وتستنزفه حتى الانهيار. وعلى الجانب العربي لا بد من إعادة الاعتبار للأمن القومي العربي بعد أن تأكد أن القوى العالمية والإقليمية كافة تعمل لتحقيق مصالحها فقط.

وحدة الدراسات الإيرانية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية