المستجد في السياسة الخارجية الروسية

المستجد في السياسة الخارجية الروسية

أعلنت روسيا مؤخرا عن “عقيدة” جديدة لسياستها الخارجية شملت عددا من النقاط الهامة وتناولتها وسائل الإعلام المختلفة بالتحليل والتدقيق. من هذه النقاط أن روسيا لن تخضع للضغوط الأميركية التي قد تمارس ضدها، وسترد بكل قوة على كل ما يمكن أن تتعرض له من ضغوط ومضايقات، وأنها مع استقلال سوريا ووحدة أراضيها، وتقف بقوة ضد الإرهاب وتعمل على إقامة تحالف دولي لمواجهته والقضاء عليه.

وأعلنت أيضا أنها ستعزز وجودها في المحيط الهادي وفي القطبين الشمالي والجنوبي، وستعمل على تعزيز دور الأمم المتحدة لتكون المرجعية في حل الأزمات الدولية، وتعزيز مكانة القوانين الدولية وإلزام الدول باحترامها. ووجهت انتقادا للولايات المتحدة التي عملت على مدى سنوات للسيطرة على العالم واحتكار البحث عن حلول للأزمات الدولية، وقالت “العقيدة” الجديدة إنه لا يجوز لأميركا عولمة تشريعاتها الداخلية وفرضها على العالم.

شعور روسيا بالقوة
تشعر روسيا أنها خرجت من حالة الضعف التي آلت إليها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. أتت عليها ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة بعد أن طارت أجنحتها الغربية والجنوبية وانتهت إلى اتحاد فيدرالي لا يخلو من التحديات الداخلية. كما أن الغرب استضعفها وأملى عليها كثيرا من السياسات بسبب حاجتها الماسة للمال والاستثمارات الغربية، لكنها بدأت منذ سنوات تسترد صحتها الاقتصادية، وتخلصت من العديد من الأمراض الاجتماعية خاصة من استشراء رأس المال الذي طغى على الطبقة الوسطى وأنهك الفئات الأقل حظا. وكان من حسن طالعها أن أسعار الغاز والنفط قفزت عاليا على مدى فترة طويلة، فاستغلت الفرصة لتحسين الظروف الاقتصادية لنسبة كبيرة من سكانها.

“تراكم شعور الروس بالقوة إلى أن وصلت الأمور إلى سوريا؛ تردد الأميركيون كثيرا في دعم طرف لحسم المعارك واختاروا تدمير سوريا، فاستغل الروس الفراغ الحاصل وقفزوا إلى الميدان لينفردوا بإدارة الصراع وتوجيهه بالطريقة التي يرونها مناسبة”

انتقلت روسيا من مرحلة الانكماش على الذات إلى مرحلة استرداد الكبرياء ولو قليلا، وحانت ظروف تمكنها من ذلك كان على رأسها الوضع الجورجي. لم تتصرف جورجيا بحكمة وربما وقعت تحت ظنين وهما أن روسيا أعجز من أن تهاجمها وتفرض شروطها، وأن الغرب لن يتركها وحيدة فيما إذا هاجمتها روسيا. خاب الظنان وقامت روسيا بالاستفراد بها دون أن يصنع أهل الغرب شيئا سوى الضجيج الإعلامي.

لقد ظفرت روسيا رغم أنف أميركا التي وقفت ضد الحرب ووجهت الكثير من الإدانات للأعمال الروسية. ثم أطلت المشكلة الأوكرانية برأسها، ولم تتوان روسيا فيما أسمته استرجاع شبه جزيرة القرم. أرسلت قواتها في وضح النهار إلى المكان وسيطرت عليه وأعلنت عودته إلى حضن أمه روسيا. ووجد الروس أن رد الفعل الغربي لم يكن سوى جعجعة فارغة. ولهذا رفع الروس التحدي درجة أخرى عندما قدموا الدعم الضروري للثوار الأوكرانيين في شرق أوكرانيا. تحدث أهل الغرب من السياسيين والإعلاميين ضد هذه الخطوة، ولم يجدوا في النهاية إلا فرض عقوبات على روسيا مع علمهم أن سياسة العقوبات فاشلة تاريخيا ولم تنجح ضد أي دولة فُرضت عليها عقوبات.

تراكم شعور الروس بالقوة إلى أن وصلت الأمور إلى سوريا؛ تردد الأميركيون كثيرا في دعم طرف لحسم المعارك واختاروا تدمير سوريا، فاستغل الروس الفراغ الحاصل في سوريا وقفزوا إلى الميدان لينفردوا في إدارة الصراع وتوجيهه بالطريقة التي يرونها مناسبة. ما زال الغرب يزاحم سياسيا وإعلاميا من أجل أن يكون له نصيب في إدارة الدفة، لكن الروس يقدرون أن أميركا ومن والاها لا يملكون مجالا أو بابا للتأثير الجدي في سوريا سوى باب الإعلام والتصريحات السياسية.

الاستعلاء الغربي
ماذا تفعل إذا أردت للقط أن ينقلب أسدا؟ تحشره في زاوية. هكذا فعل أهل الغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة مع روسيا. لقد عملوا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي على محاصرة روسيا عسكريا وأمنيا وسياسيا واقتصاديا وماليا وألحقوا بها إهانات كثيرة كان على رأسها الإهانة في العراق. وقد دعم أهل الغرب رأسماليين كبارا في روسيا من أجل تحويل الاقتصاد الروسي إلى نظام اقتصادي شبيه بالاقتصادات الأوروبية، وسببوا لروسيا آفات اجتماعية كثيرة منها انتشار العصابات الإجرامية والمخدرات، وتعمدوا تخريب المجتمع الروسي.

وفي ذات الوقت بدأ الغرب يخطط لحصار روسيا عسكريا وشل قدراتها على المواجهة، عملت أميركا وحلفاؤها على توسيع حلف شمال الأطلسي، وانضمت له عدد من الدول التي كانت ضمن المنظومة السوفييتية، وهي دول مجاورة في الغالب لروسيا، وخرجت أميركا بفكرة الدرع الصاروخية التي من شأنها تطويق روسيا من ثلاث جهات. تذرعت أميركا بأن هذه الدرع موجهة ضد الصواريخ الإيرانية، لكن ذلك لم يكن مقنعا للروس.

تطاول الغرب كثيرا على روسيا وعمل على إذلالها آخذا بعين الاعتبار أنها قوة نووية عظمى وتستطيع تدمير أوروبا وأميركا في آن واحد. لم تكن خطوات الغربيين ضد روسيا متناسبة مع التوازنات العسكرية الفعلية. وربما ينبع هذا من عقدة الاستعلاء التي يعاني منها الغرب في تعامله مع الأمم. هم يشعرون بأنهم أرباب النعم، وهم القادرون فقط على تحقيق الاستقرار والأمن والسلم العالميين، ويتعاملون مع الشعوب الأخرى على أنها متخلفة تنتظر رغيف الخبز من عطاء خزائنهم.

“تطاول الغرب كثيرا على روسيا وعمل على إذلالها آخذا بعين الاعتبار أنها قوة نووية عظمى وتستطيع تدمير أوروبا وأميركا في آن واحد. لم تكن خطوات الغربيين ضد روسيا متناسبة مع التوازنات العسكرية الفعلية، وربما ينبع هذا من عقدة الاستعلاء التي يعاني منها الغرب”

ولنا نحن العرب تجارب كثيرة مع أهل الغرب الذين دأبوا على استعمالنا مطايا لسياساتهم ومصالحهم. منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى الآن وهم يعبثون بالوطن العربي والمواطنين ويثيرون الفتن والأحقاد والضغائن ويدعمون حكاما استبداديين شهوانيين لا يتقنون سوى الهزائم.

توقعات
إزاء التطورات الجارية الآن على الساحة الدولية والعقيدة الروسية الجديدة للسياسة الدولية نتوقع حصول المزيد من التطورات أذكر منها:

سباق التسلح
يعيش العالم الآن أجواء الحرب الباردة على الرغم من أن لهجات السياسيين من كل الأطراف ناعمة إلى حد كبير. الروس والأميركيون حريصون على تخفيف نبرات تصريحاتهم، وهكذا يفعل السياسيون الأوروبيون، وجميعهم يؤكدون أنهم لا يسعون إلى التصعيد والمواجهة.

بالنسبة لنا نحن الذين نعيش على الهامش، التصعيد لا يخدم أي طرف منهم لكن تصعيدهم يتم بالوكالة عادة، أي نحن وقود تصعيدهم وحروبهم غير المباشرة. لكنهم في ذات الوقت يتبادلون النظرات والتدقيق، وباتوا يدركون أن الإصرار ظاهر على الوجوه حتى لو أدى ذلك إلى مغامرات عسكرية مدمرة. ولهذا سيسعى كل طرف إلى سد الثغرات العسكرية التي يعاني منها خاصة فيما يتعلق بالمعدات العسكرية.

تدرك روسيا أن أسلحتها التقليدية فيما يتعلق بسلاحي البر والجو ليست متطورة كالسلاح الغربي، وستسعى نحو المزيد من الجهود لتطوير قدرات جوية وبرية أفضل، وتدرك أميركا أن السلاح الروسي الذي من شأنه إبطال مفعول تفوقها البري والجوي متطور جدا ويفسد عليها الكثير من خططها العسكرية. ولهذا نتوقع السباق على إنتاج أجيال جديدة من الأسلحة خاصة فيما يتعلق بالتقنية الإليكترونية وسلاحي الدبابات والطائرات. ومن المحتمل أن يشمل السباق الأسلحة النووية على الرغم من تأكيد بعض الأطراف نيتها تخفيض قدراتها النووية. وسيمتد السباق إلى الفضاء وسيحرص كل طرف على تطوير التقنية الفضائية الخاصة بالتجسس والاستطلاع وإبطال مفعول تقنيات الطرف الآخر.

استعراض العضلات
ستعمد الدول المتنافسة بخاصة روسيا إلى استعراض عضلاتها لإيصال رسائل قوية إلى الأطراف الأخرى. ستسير روسيا مزيدا من طائراتها الإستراتيجية في أجواء العالم بخاصة في شمال الكرة الأرضية. وسترفع من وتيرة تجوال غواصاتها وسفنها الحربية في المحيطات والبحار، وستركز قطعا عديدة في مناطق المحيط الهادي قرب البحرين الصينيين الجنوبي والشمالي ومنطقة المحيط الهندي بالقرب من بحر العرب والسواحل العربية الإيرانية، ولن تترك البحر الأبيض المتوسط بركة سباحة للأوروبيين.

لكن هذا الاستعراض الروسي يبقى مقيدا بالقدرات الروسية الاقتصادية. روسيا ليست منافسا اقتصاديا أو ماليا للولايات المتحدة على الأقل تحت الظروف الراهنة. الاستعراض مكلف جدا، وروسيا تعاني من نقص مالي خاصة مع هبوط أسعار النفط والغاز عالميا. روسيا دولة ثرية ولديها الكثير من المصادر الطبيعية، لكن قدراتها على استثمار الثروات بقيت محدودة وطالما لجأت للشركات الغربية للاستثمار في أراضيها. أي من المحتمل أن يلوي الغرب ذراع روسيا اقتصاديا إلا أذا أحسنت روسيا استخدام ما في باطن أرضها من كنوز.

“تدرك روسيا أن أسلحتها التقليدية فيما يتعلق بسلاحي البر والجو ليست متطورة كالسلاح الغربي، وستسعى نحو المزيد من الجهود لتطوير قدرات جوية وبرية أفضل، وتدرك أميركا أن السلاح الروسي الذي من شأنه إبطال مفعول تفوقها البري والجوي متطور جدا ويفسد عليها الكثير من خططها العسكرية”

تحسين العلاقات بين الدول
العالم الآن مضطرب اقتصاديا ونفقات الأسر والعائلات في كل العالم تتصاعد، والشعوب تتطلع إلى تحسين ظروفها المعيشية وتحاسب حكوماتها وفق معيار الأوضاع الاقتصادية. والحكومات والأحزاب التي تشكلها حريصة على البقاء في الحكم، ولا مفر أمامها إلا تحسين ظروف الناس، وهو تحسين لا يأتي من خلال الحروب وإنما من خلال الادخار والاستثمار.

وعليه فإن الحكومات المتعقلة لا تتجه نحو الحروب حتى لا تستفز الناس وتلحق الظلم بهم، وإنما من خلال البحث عن الأمن والاستقرار والسلام. ولهذا فإن روسيا ستلجأ إلى تحسين علاقاتها مع دول متخاصمة معها إلى حد ما وهي اليابان وبعض دول أوروبا الشرقية بخاصة لاتفيا وإستونيا، وستعمل على معالجة مشاكلها الداخلية مع قوميات غير روسية. أما أميركا فستقلص من تدخلاتها في شؤون العالم، وسيتطور لديها اتجاه مقتنع بأنها ليست هي الدولة المسؤولة عن العالم. ومن الصعب لأميركا أن تهرب من الاقتراح الروسي الداعي إلى تشكيل تحالف دولي ضد الإرهاب. لقد فشلت أميركا في حربها ضد الإرهاب، وربما تدرك الآن أنها يجب أن تتعاون مع الآخرين وفق مبادئ الاحترام المتبادل لمواجهة الإرهاب العالمي.

إسرائيل
الدول النووية لا تلجأ إلى تصعيد خلافاتها حتى الحرب، لكن إسرائيل هي المفسدة العالمية القادرة دائما على توتير العلاقات الدولية. إسرائيل تدفع باستمرار ومنذ زمن نحو تمرد أميركا على الاتفاق النووي مع إيران، وفي هذا ما سيؤجج خلافات كثيرة قد تنتهي إلى حرب في المنطقة. وهي تستمر في تحريضها لأميركا على روسيا في سوريا.

وبغض النظر عن اتفاقنا مع روسيا أو اختلافنا معها، التوجهات الإسرائيلية من شأنها تأزيم أوضاع المنطقة بالمزيد، وغدا ستحرض ضد مصر ودول عربية أخرى. إسرائيل لا تطمئن لأجواء الأمن والسلام، وترى دائما أن القتل والدمار في خدمة أهدافها. فهل سيدرك الأميركيون الذي تجرهم له إسرائيل؟

عبد الستار قاسم

المصدر : الجزيرة