الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط.. سياسة الغموض والتردد

الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط.. سياسة الغموض والتردد


تتسابق القوى الدولية الغربية كثيرا على منطقة الشرق الاوسط, وهذا التسابق لم يكن مقصورا على حقبة زمنية محددة، ولكنه استفحل بشكل مذل منذ نهاية الحرب العالمية الاولى, وازداد سخونة بعد الحرب العالمية الثانية ثم اخذ ينفث كل العدمية والعبثية طوال الحرب العالمية الباردة الدائمة.
حظيت منطقة الشرق الاوسط على مدى عقود من الزمان أهمية بالغة بالنسبة للاتحاد الأوروبي (جمعية دولية للدول الأوروبية تضم 28 دولة) في تحقيق أهدافه الرامية إلى دعم السلام وتحقيق الرخاء والحوكمة الرشيدة مع جيرانه في الجنوب، وكان الشرق الأوسط والصراع العربي – الإسرائيلي بشكل خاص ضمن أهم أولويات الاتحاد الأوروبي منذ أن بدأت الدول الأعضاء التعاون في إطار السياسية الخارجية.
يلعب الاتحاد الاوروبي دورا اساسيا في عملية السلام في الشرق الاوسط، الرامي الى تقديم المساعدة في إنقاذ الارواح البشرية ولتحقيق إستقرار الدول والمناطق نتيجة للنزاعات حول العالم، مستندا في ذلك على إعتماد السياسة الخارجية والامنية المشتركة للاتحاد الاوروبي على ضوء معاهدة ماستريخت التي اصبحت نافذة في سنة 1993، وتم تعزيزها من خلال المعاهدات اللاحقة، كمعاهدة امستردام (1999)، ومعاهدة نيس (2003)، ومعاهدة لشبونة (2009).

تدخلات عشوائية تفتقر للقيادة

يمثل الاتحاد الأوروبي، بالنسبة لمعظم الأنظمة في منطقة الشرق الأوسط، مصدرا مهما أو (محتملا) للسوق والاستثمار والمساعدة في التنمية، ولكنه لا يُنظر إليه على أنه مؤثر معياري في الإصلاح الداخلي. ويفتقر الاتحاد إلى القيادة، وغالبا ما تملى عليه سياساته من قبل الولايات المتحدة، وخاصة تلك المتعلقة بالدول الاسلامية. أما قدرات القوة الناعمة للاتحاد الأوروبي فهي غير مستغلة، ومن غير المرجح أن تتغير قريباً في وقت يتضاءل فيه وزن أوروبا على الساحة الدولية إلى حد كبير. لقد تلطخ سجل الاتحاد بسبب تعاونه مع أنظمة استبدادية، وتجاهله جهود العمل السياسي المدني. ومع ذلك، فقد كانت له انجازات مهمة في مساعدة الجهات المدنية في أعقاب الانتفاضات العربية عام 2011، كما يبقى الاتحاد الأوروبي في وضع جيد لمساعدة الحكومات في مواجهة هشاشة الدولة من خلال بناء المؤسسات والقدرات، وتقديم المساعدات الإنسانية والإنمائية.

سياسة الانقياد خلف الاقوى

أن السياسة الخارجية الأوروبية وبرغم محاولات التبلور المستمرة عبر الاتحاد ذاته (أي محاولات تجاوز التباينات الداخلية في الاتحاد) غير أنها لا تزال تنقاد للسياسة الخارجية الأميركية في المنطقة أو تتعاون معها أو تدعمها حتى في ظل بعض الانتقادات التي يوجهها الاتحاد أو برلمانييه أو بعض أعضائه إزاء هذه السياسة الأمريكية، كما أن الاتحاد وعدداً من دوله الرئيسة لا يزال يعتقد أن الضغط على إسرائيل للانصياع للقرارات الدولية والمجتمع الدولي حتى في مجال حقوق الإنسان غير ممكن من الناحية العملية إلا من خلال الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن الاتحاد يمتلك الكثير من الوسائل السياسية والاقتصادية والإعلامية بل والعلمية للضغط على إسرائيل -كما يرى الكثير من الباحثين العرب- غير أنه يعرض عن هذه التوجهات تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي، وعدم قدرته على ثني الولايات المتحدة عن التدخل العسكري في العراق، ومساهمته في الولايات المتحدة عبر الحلف الأطلسي في احتلال أفغانستان، فهو لم يتمكن من تعديل المسار الأمريكي المتطرف بإجراءاته القاسية في ظل ما يسمى (الحرب على الإرهاب)، وخصوصا ضد الحركات الإسلامية المتطرفة.

الاتجاه نحو الاقتصاد وترك السياسة

على الرغم من اختيار الاتحاد الأوروبي الجلوس في المقعد الخلفي فيما يتعلق بالشأن السياسي في المنطقة، فهذا لا يلغي الدور الريادي الذي يلعبه الاتحاد الأوروبي للترويج لاقتصاد ليبرالي وتعددي (فلسفة اقتصادية تدعم اقتصاد عدم التدخل الدولي) ساهم في تحسين صورته في المنطقة. كما يرى العرب أن الاتحاد الأوروبي أكثر شمولية في المفاوضات من الولايات المتحدة.
وتعتبر أوروبا أقرب إلى الشرق الأوسط من الولايات المتحدة الأمريكية ولها مصالح اقتصادية أكبر بالمنطقة. حيث تتبوأ منطقة الخليج المركز الثالث في قائمة التسلسل الهرمي للشؤون الإقليمية للإتحاد الاوروبي بعد أوروبا الشرقية والوسطى ودول حوض البحر الأبيض المتوسط. ويقول الكاتب هينر فورتج من (المعهد الألماني للدراسات العالمية والأقليمية GIGA)، أنّ العوامل الرئيسية في العلاقة بين أوروبا والشرق الأوسط هي الطاقة والأمن. وإنّ المساعي لتطوير العلاقات لتشمل المصالح السياسية قد بائت بالفشل وتنتظر دول المنطقة دوراً أكثر فاعلية للاتحاد الأوروبي.
ويرى الكاتب بيرتيس (مدير المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في برلين)، أنّ سبب تركيز الاتحاد الأوروبي على الاقتصاد وليس السياسة يعود إلى تاريخ البلدان الأوروبية المختلفة في منطقة الشرق الأوسط. مشيرا الى إنّ دول الاتحاد الأوروبي من منطلق تجربتها التاريخية السابقة في منطقة الشرق الأوسط تؤيد مبدأ التغيير الداخلي عوضاً عن التغيير الخارجي القسري. وتؤيد الدول الأوروبية إنشاء نظام يتطور داخلياً.

التخلي عن لعبة كرة السياسة العربية؟

أنّ هيكل الاتحاد الأوروبي لا يساعد على أخذ القرارات بشكل متفق، فلا توجد هناك أهداف موحدة بين الدول المختلفة المكونة للاتحاد الأوروبي، فالقرارات التي تصدر والمواقف التي تتخذ ضمن الاتحاد الأوروبي تعتمد على من له السيادة في الوقت الحالي، حيث يعتمد اتخاذ القرار على الدولة التي تمتلك المركز الأقوى في ذلك الوقت، فتعمل على تطبيق سياستها لا سياسة الاتحاد.
ويقول الكاتب مانور (المتخصص في الشؤون العربية)، أنّ تركيبة الاتحاد الأوروبي لا تتسم بالاستمرارية والثبات، وكما تعيق المشاكل الداخلية إتمام النقاشات الدولية داخل الاتحاد، كما إنّ نظام الاتحاد يعطي الدول الأعضاء سيادة عندما تتعلق القرارات بالشؤون الدولية وذلك يعطل تشكيل أي قرار موحد. ويرجع السبب وراء اختلاف السياسات الأوروبية نحو الشرق الأوسط إلى اختلاف إرث الدول الأوروبية بالمنطقة.
اما السبب الآخر هو أنّ اهتمامات الاتحاد الأوروبي اليوم اصبحت اقتصادية وأمنية أكثر من كونها سياسية. لذا يرى المفكر مانور أنّ دور الدول الأوروبية خلال عملية السلام كان يدور حول الجانب الاقتصادي والمالي وتركت الدور السياسي للولايات المتحدة. فالدول الأوروبية ترى ان هذا المسار سيكون في صالحها.
فهناك رأي يقول بأن الاستثمار الاقتصادي في الشرق الأوسط يعادل الاستثمار في مستقبل أوروبا، لكن ما يراه مانور هو أنّ هذا السبب يجب أن يدفع الاتحاد الأوروبي لأخذ موقف أقوى سياسياً في المنطقة حيث أنه من الصعب فصل السياسة عن الاقتصاد كليا، فهنالك دول عربية ترغب في أن يصبح دور الاتحاد الأوروبي موازناً لدور الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة.

فشل الاتحاد سياسيا في الشرق الاوسط

على الرغم من مبادراته المتعددة فقد أخفق الاتحاد الأوروبي في تحقيق تقدم ملموس نحو تطبيق أهداف سياسته الخارجية في المنطقة، فلا يزال الفقر منتشرا في عدة دول عربية مشاطئة للبحر المتوسط ولا يزال إيقاع الإصلاح السياسي بطيئا. كما أن النزاعات المختلفة التي تهدد الشرق الأوسط لا تزال قائمة.
ولقد تم في بعض الأحيان توجيه النقد للاتحاد الأوروبي بسبب بطء تفاعله مع الأحداث وعدم تبنيه لرؤية استراتيجية موحدة تجاهها، وكثيرا ما شعرت حكومات الشرق الأوسط بالحيرة بسبب كثرة عدد المندوبين المتحدثين بإسم الاتحاد الأوروبي خاصة أن رسائلهم كانت تتسم بالتناقض في بعض الأحيان.
وحتى عام 2009 اشترك كل من المفوضية والمجلس في وضع السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، وكثيرا ما كان لدى كبار المسئولين في المؤسستين أفكار مختلفة حول بعض تفاصيل الصراع العربي – الإسرائيلي. كما خرجت الدول الأعضاء في بعض الأحيان عن الموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي.

الاستنتاج

يبدو أننا أمام متغير استراتيجي لم يتبلور بعد في السياسة الخارجية الاوروبية – الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، والذي ربما يحمل سياسة أوروبية أكثر فاعلية وإيجابية ومؤثرة قد تعيد الحياة من جديد لديناميكيات وتوجهات وبرامج إعلان برشلونة لعام 1995 (لتعزيز علاقات الاتحاد الاوروبي مع البلدان المطلة على البحر المتوسط في شمال أفريقيا وغرب آسيا)، وهو الذي فشل في تحقيق أهدافه خلال السنوات الماضية، وكذلك قد تفرز سياسة أمريكية أكثر اعتدالا قياسا بما هي عليه اليوم، والتي قد تسهم في وضع حد مرحلي للسياسات العنصرية والعدوانية الإسرائيلية، ويبقى المحدد الأساسي لذلك هو قدرة العراقيين واللبنانيين والسوريين والفلسطينيين اضافة الى الحركات الإسلامية والقوى المناهضة للسياسات الأميركية أن تبلور مواقف موحدة وعملية وواقعية على الصعيدين العربي والدولي.
وتبقى الازمات التي يتم تصنيعها وهندستها في الشرق الاوسط تعيش إلى ما لا نهاية، فالأزمة فيه تولد ولا تموت بل تزداد تعقيدا مع الايام فيضطر الشرق اوسطيون الى التعايش معها وكأنها القدر المحتوم. والواضح ان المنطقة اصبحت عبارة عن اكوام من الازمات المعقدة، وبدون أدنى شك فأن مسرح السياسة اللامعقول يتجسد على جميع ساحات المنطقة ما عدا استثناءات محدودة، إذ لا يمكن أن يخضع اي حدث سياسي هام في المنطقة للقانون الدولي او للمعقول.

وفي النهاية يمكننا القول: إنّ مغامرة السياسات الغربيّة غير المأمونة العواقب بمستقبل الشرق الأوسط، ودعم الكيانات الإرهابية، ومساندة الفصائل المسلحة، ونشر (الفوضى الخلاقة)، والاشتغال على (خرائط تقسيم جديدة للمنطقة) سوف يضرّ بمصالحها الحيويّة، ويهدد حركة التنمية المستدامة السائرة ببطء في الشرق الأوسط وسيولِّد المزيد من الكراهية، ويحرِّض على العنف…

مركز المستقبل