المحكمة الجنائية الدولية وإفريقيا: الاتجاه نحو القطيعة

المحكمة الجنائية الدولية وإفريقيا: الاتجاه نحو القطيعة

 

هل بلغت العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية والقارة الإفريقية إلى نقطة اللاعودة، وما مصير الملفات التي فتحتها المحكمة والتحقيقات التي قامت بها في إفريقيا بعد الانسحابات الإفريقية المطَّردة من هذه الهيئة القضائية؟ يحاول هذا التقرير تقديم قراءة لما يجري بين هذه المحكمة وبين الدول الإفريقية.

ملخصيتهم الكثير من السياسيين في القارة الإفريقية المحكمة الجنائية الدولية بالكيل بمكيالين؛ فهي تتعامل مع الجرائم التي تُرتَكب في العالم وكأنها لا ترى من الجرائم والتجاوزات إلا ما يحدث في إفريقيا، ويستدلون على ذلك بأن هذه المحكمة تدخلت حتى الآن في قضايا تتعلق بتسع دول ثمانٍ منها في إفريقيا. ومع أن دولة فلسطين، التي أصحبت عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية منذ 1 إبريل/نيسان 2015، كانت قد قدمت مجموعة من الوثائق إلى هذه الهيئة القضائية الدولية تدين إسرائيل خصوصًا ما يتعلق بسياسة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، وعزَّزت ذلك بالكثير من الوثائق حول الجرائم الإسرائيلية غداة الهجوم على غزة في عام 2014، فضلًا عن حالة الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. غير أن الجنائية الدولية لم تحرِّك ساكنًا في اتجاه فلسطين في حين يجوب محققوها القارة الإفريقية طولًا وعرضًا. ومعلوم أن الجيش الأميركي كان قد ارتكب في العراق منذ عام 2003 أعمالًا ضد مواطنين عراقيين لا تقلُّ في خطورتها عمَّا حدث في بعض الدول الإفريقية من تجاوزات، لكن المحكمة الجنائية الدولية لم تهتم حتى الآن بالملف العراقي. ومع أن ثلاث دول من بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن في الأمم المتحدة لا تعترف بالمحكمة الجنائية الدولية، وهي: الولايات المتحدة وروسيا والصين فضلًا عن دولة إسرائيل التي لم توقِّع هي الأخرى على اتفاقية روما المؤسِّسة للمحكمة، إلا أن نصوص المحكمة الجنائية الدولية لا تشترط أن تعترف بها الدولة التي ارتُكبت فيها جرائم، ولا تشترط كذلك أن يكون المتهم من رعايا دولة عضو بل إن مجال اختصاصها القانوني والإجرائي شامل للجميع عضوًا وغير عضو. وفي هذا السياق انسحبت ثلاث دول إفريقية من هذه المحكمة، وربما تنسحب دول أخرى. ويأتي هذا التقرير لتناول علاقة هذه المحكمة بالقارة الإفريقية، وآفاق علاقتهما.

مقدمة

تواترت انسحابات الدول الإفريقية بشكل مطَّرد ومُتَتَالٍ من عضوية المحكمة الجنائية الدولية، فبعد قرار بوروندي الانسحاب، في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2016، جاء دور جنوب إفريقيا بعد تسعة أيام، وكانت غامبيا هي ثالث دولة أعلنت انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية، في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2016.

قدمت الدول الثلاث جملة من الأسباب كانت وراء قراراتها، وهي أسباب قد تدفع بدول إفريقية أخرى أعضاء في المنظمة إلى الانسحاب منها. ومن هذه الأسباب كون المحكمة صارت أداة للضغط على حكومات البلدان الفقيرة أو وسيلة لزعزعة الاستقرار فيها وذلك بتحريض من القوى العظمى، فضلًا عن كونها أصبحت في نظر هذه الدول أداة لاضطهاد الأفارقة، وخاصة قادتهم.

والدول التسع التي يخضع بعض مواطنيها لمتابعات قضائية من طرف المحكمة الجنائية الدولية، هي: كوت ديفوار، والسودان، وكينيا، وليبيا، ومالي، وأوغندا، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وجورجيا، أي إن ثماني دول من أصل تسع هي من القارة الإفريقية. وهذا ما جعل الدول الإفريقية ترى أن عمل هذه المحكمة صار أقرب إلى تمييز ذي مغزى عنصري منها إلى تحقيق قضائي نزيه، وبالتالي لم تعد هذه المحكمة ذات مصداقية في هذه القارة.

إفريقيا والجنائية الدولية: تعدد التهم والمصير واحد

أصدرت الجنائية الدولية عشرات التحقيقات وفتحت عشرات الملفات في إفريقيا، ولم تُصدر مثل تلك التحقيقات ولا مثل تلك الملفات في القارات الأخرى، وهو ما جعل أغلب الدول الإفريقية بل والاتحاد الإفريقي، وهو أكبر منظمة قارية إفريقية، تفسِّر ما يحصل بأنه استهداف لهذه القارة. وهذه الملفات المعروضة أمام الجنائية الدولية متنوعة ومتعددة، ومن أبرزها:

جمهورية الكونغو الديمقراطية

تمت إدانة بوسكو نتاغاندا، قائد القوى الوطنية لتحرير الكونغو، وهي ميليشيات كونغولية، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية ما بين 2002 و2003 بإقليم إتوري الواقع شمال شرق البلاد. ومنذ سبتمبر/أيلول 2015 وهو رهن الملاحقة القضائية من لدن الجنائية الدولية. أما توماس لوبانغا، وهو قائد ميليشيات كونغولي أيضًا، فقد حكمت عليه الجنائية الدولية سنة 2012 باثنتي عشرة سنة سجنًا وتم تأكيدها بعد الاستئناف، وذلك لاتهامه بتجنيد أطفال في الحرب الأهلية المذكورة. كما حكمت الجنائية الدولية أيضًا على مواطنيْن كونغوليين آخريْن كانا في نفس الميليشيات وشاركا في نفس الحرب الأهلية. وقد استصدرت المحكمة مذكرة توقيف ضد زعيم القوى الديمقراطية لتحرير رواندا، سيلفستر موداكومورا، متهمة إياه بارتكاب جرائم في منطقة كيفو بشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية في سنتي 2009 و2010(5). ومع انسحاب بوروندي وجنوب إفريقيا وغامبيا من الجنائية الدولية ارتفعت بعض الأصوات في الكونغو الديمقراطية مطالبة بانسحاب بلدهم منها.

أوغندا

أصدرت الجنائية الدولية سنة 2005 مذكرات توقيف في حق عدد من قادة التمرد الأوغنديين، خصوصًا قادة جند الرب، وبالذات: رئيس التنظيم: جوزيف كوني، فضلًا عن فينسان أوتي ودومينيك أوغوين وغيرهم، ومن بين ما يُتَّهمون به أنهم جنَّدوا أطفالًا في الحرب الأهلية ومارسوا ضدهم أعمالًا غير أخلاقية ما بين 2002 و2004. وسَيَمْثُلُ أحد هؤلاء وهو دومنيك أوغوين، المسجون بلاهاي، أمام المحكمة في 6 ديسمبر/كانون الأول 2016.

السودان

فضلًا عن الرئيس السوداني، عمر حسين البشير، المطلوب للجنائية الدولية، فهناك خمسة سودانيين مطلوبون نتيجة تحقيق للأمم المتحدة تم في دارفور واتَّهم النظام السوداني بالوقوف وراء مصرع ثلاثمئة ألف شخص في دارفور الذي عرف حربًا دامية بين الجيش النظامي وفصائل مسلحة ومتمردة من مارس/آذار 2003 لغاية يوليو/تموز 2008، راح ضحيتها الكثير من المدنيين موتًا ونزوحًا وتهجيرًا خصوصًا من قبائل الفور والمساليت والزغاوة.ومن بين الشخصيات السودانية التي صدرت بحقها مذكرة توقيف من طرف الجنائية الدولية: عبد الرحمن محمد حسين، وزير سوداني للدفاع ووزير داخلية سابق، وممثل الرئيس عمر البشير في إقليم دارفور، وكذلك وزير الدولة للشؤون الداخلية السابق، أحمد هارون.

كينيا

تعود متابعة الجنائية الدولية للقضايا الكينية إلى أعمال العنف التي تلت انتخابات 2007-2008، وقد باشرت المحكمة التحقيق في كينيا في سبتمبر/أيلول 2014، متهمة نائب الرئيس الكيني، ويليام ريتو، وغيره، لكنَّ المدَّعي العام للمحكمة ما لبث أن أعلن براءة ريتو. كما أعلن نفس المدعي العام توقف المتابعة القضائية للرئيس الكيني، أوهيرو كينياتا، لعدم كفاية الأدلة.

كوت ديفوار

ألقت الجنائية الدولية القبض على الرئيس الإيفواري السابق، لوران غباغبو، منذ 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، كما خضعت زوجته لاتهام من طرف الجنائية الدولية دون القبض عليها حيث تخضع لمحاكمة أمام قضاء بلدها. ومع أسرة غباغبو المتهم شارل بلي غودي وهما متهمان بتدبير أعمال العنف التي أعقبت الانتخابات والتي تمت في ديسمبر/كانون الأول 2010 وإبريل/نيسان 2011. وقد بدأت محاكمتهما منذ 28 يناير/كانون الثاني 2016.

ليبيا

في 27 يونيو/حزيران 2011، أصدر قضاة المحكمة الجنائية الدولية أوامر توقيف بحق القائد الليبي السابق، معمر القذافي، ونجله سيف الإسلام القذافي، ورئيس المخابرات الليبي السابق، عبد الله السنوسي. كان الثلاثة مطلوبين لصلتهم بجرائم ضد الإنسانية، جرَّاء أدوارهم في الاعتداءات والهجمات على المدنيين، بمن فيهم المتظاهرون السلميون في طرابلس وبنغازي ومصراتة وأماكن أخرى في ليبيا. تنطبق أوامر المحكمة الجنائية الدولية فحسب على الأحداث التي شهدتها ليبيا بدءًا من 15 فبراير/شباط 2011

ومع مقتل الزعيم الليبي معمر القذافي، ومع تسليم موريتانيا لعبد الله السنوسي للسلطات الليبية، إلا أن الجنائية الدولية لم تتسلَّم سيف الإسلام المعتقل في أحد سجون مدينة الزنتان غرب البلاد. كما أنها تنازلت لليبيا في شأن محاكمة عبد الله السنوسي.

إفريقيا الوسطى

تم الحكم على نائب رئيس إفريقيا الوسطى، جان بيير بمبا، في يونيو/حزيران 2016، بالسجن ثماني عشرة سنة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سنتي 2002 و2003، حينما كان مساندًا للرئيس باتاسي ضد الرئيس بوزيزي. مع وجود لائحة طويلة منها ما ينتمي لميليشيات الأنتي بالاكا ومنها ما ينتمي لميليشيات السيليكا المتصارعتين بإفريقيا الوسطى

جمهورية مالي

منذ بعض الوقت والمحكمة الجنائية الدولية تعتقل الجهادي الطارقي، أحمد الفاقي المهدي، الذي اعترف بهدم العديد من الأضرحة بمنطقة تنبكتو والتي تُعد تراثًا عالميًّا

كما أن الجنائية الدولية فتحت تحريات أولية في بعض الدول الإفريقية، مثل: الغابون، وغينيا كوناكري، ونيجيريا، وهي تحريات يمكن أن تؤدي إلى تحقيقات رسمية في هذه الدول.

وإلى جانب المحكمة الجنائية الدولية، وفي سياق متصل بها، تنشط هيئة قضائية أخرى ذات طابع قاري وهي وثيقة الصلة بالولاية القضائية العالمية، ألا وهي الغرف الإفريقية الاستثنائية.

الغرف الإفريقية الاستثنائية: حالة الرئيس حسين حبري

جاء إنشاء الغرف الإفريقية الاستثنائية (CAE) صادرًا عن إجماع إفريقي خلال مؤتمر الاتحاد الإفريقي في بانجول بغامبيا، في 2 يوليو/تموز 2006، في قمة للاتحاد الإفريقي في بانجول عاصمة جامبيا. وقد طلب المؤتمر من دولة السنغال محاكمة الرئيس التشادي السابق، حسين حبري، الذي حل لاجئًا بداكار قبيل انعقاد المؤتمر. وقد اتهم الرئيس حبري بسجل انتهاكات وقمع عشوائي وجرائم سياسية ضد معارضين لحكمه مات منهم الآلاف في سجونه خلال حكمه.

تعتبر محاكمة الرئيس التشادي السابق بالسنغال أحد أبرز مظاهر تعامل الجنائية الدولية مع أحد الرؤساء الأفارقة، وهو تعامل جعل القارة الإفريقية تفتح عيونها على حدث قضائي فريد من نوعه، فقد نظر إليه المتابعون على أنه وإن كان تطبيقًا للقانون وإحقاقًا للحق، فإنه يعكس الكيل بمكيالين؛ حيث تتم متابعة ومحاكمة الأفارقة وكأنهم هم وحدهم من قام بجرائم وتجاوزات.

كان الرئيس السنغالي السابق، عبد الله وَادْ، عندما طُرحت عليه محاكمة الرئيس التشادي حسين حبري المقيم في دكار، مدركًا أن محاكمة أي رئيس إفريقي، على ما يُتَّهم به من تهم في مجال حقوق الإنسان، إجراء يفتح الباب أمام الكثير من الرؤساء الأفارقة، وهو أمر سيكون في إقراره من طرف الرئيس وادْ تكريسًا لمبدأ قضائي سيضع مستقبل زعماء إفريقيا في خطر. ثم إن الرئيس التشادي السابق، حسين حبري، أحد أبرز أتباع الطريقة التيجانية المتجذرة في تقاليد الشعب السنغالي، وقد يكون في السماح باقتياده أمام المحاكم، ليس فقط إهانة لأخ في الطريقة الصوفية التيجانية، التي طالما راعى صُنَّاع القرار بالسنغال أتباعها بحكم تأثيرها الواسع في هذا البلد الإفريقي، لكن أيضًا تدشينًا لسابقة قضائية في إفريقيا. وقد ظل ملف حبري أحد أكثر الملفات حساسية طيلة عُهدتي الرئيس وادْ، حتى إن وادْ لم يحرك ساكنًا غداة صدور مذكرة توقيف دولية من طرف القضاء البلجيكي في حق حسين حبري في سبتمبر/أيلول 2005، واكتفى وادْ بالإعلان عن أن الأمر ليس من اختصاص المحاكم السنغالية. كما حرصت حكومة السنغال في تلك الفترة على أن يظل نقاش الملف والبت في أمره شأنًا إفريقيًّا، فتم طرحه على قمة الاتحاد الإفريقي بالخرطوم، في يناير/كانون الثاني 2006، التي كلفت لجنة من أكفاء خبراء فقهاء إفريقيا لتحديد التوجهات العامة التي ينبغي اتخاذها بشأن ملف حسين حبري

وقد ظل الرئيس وادْ حريصًا على تجميد ملف حبري حيث كان الإعلام في ذلك الوقت يفسِّر تصرفه ذلك على أنه حرص منه على مصالح الزعماء الأفارقة، وكأن وادْ يمثِّل نقابة هؤلاء الرؤساء ويدافع عن وجودهم الحاضر والمستقبلي ضد أي دعوى قضائية، فأي طعن بالفعل في رئيس إفريقي أمام محكمة محلية أو دولية إنما هو طعن ضمني في جميع الرؤساء الأفارقة. وبهذا المفهوم لم يرضخ وادْ لطلبات البرلمان الأوروبي أو لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب أو منظمة “هيومان رايتس ووتش” التي حثته على محاكمة حبري أو تسليمه إلى القضاء البلجيكي. وقد ظل موقف الرئيس وادْ بشأن هذا الملف الحساس والشائك متأرجحًا بين إبداء حُسن النية في التعاون مع الهيئات السياسية والمنظمات الحقوقية الدولية المطالِبة بمحاكمة حبري تارة، وبين ابتزاز هذه الهيئات بطلب تمويلات باهظة لإجراء المحاكمة تارة أخرى، كما كان واضحًا في تردد وادْ ومماطلته أنه ينحاز لتيار واسع في الساحة الشعبية السنغالية يرى في حسين حبري مريدًا صوفيًّا تيجانيًّا لا ينبغي تسليمه للعدالة الدولية. وفضلًا عن هذا وذاك فإن مستقبل العديد من زعماء إفريقيا مرهون بملف حسين حبري

الولاية القضائية العالمية: إحقاق الحق أم إساءة استخدام القانون؟

شكَّل وصول الرئيس السنغالي الحالي، مكي صال، للحكم، في مارس/آذار 2012، تغييرًا لمجرى ملف الرئيس التشادي السابق، حبري، وسابقة في التعاطي مع القضاء الدولي؛ حيث وافق الرئيس مكي على إنشاء الغرف الإفريقية غير العادية التي من صلاحياتها محاكمة رئيس دولةٍ ما في بلد غير بلده وضمن شروط قانونية مستحدثة لا على مستوى إفريقيا بل وعلى مستوى العالم. وبموجب اتفاق بين الاتحاد الإفريقي والسنغال أُنشئت تلك المحكمة ذات الوضع الخاص والمؤلَّفة أساسًا من قضاة سنغاليين ومن قاض بوركينابي

وهذه المحكمة الخاصة التي صودق عليها رسميًّا في السنغال لمحاكمة حسين حبري تعتبر شبيهة بنموذج المحاكم الكمبودية التي أنشئت لمحاكمة زعماء الخمير الحمر، وهي تجربة رائدة في القارة الإفريقية التي ظلت إلى وقت قريب تشعر أن محكمة العدل الدولية بلاهاي تسلبها سيادتها وتنظر إلى القضاء الإفريقي نظرة ازدراء، وهو ما دفع بقادة قمة الاتحاد الإفريقي، في يناير/كانون الثاني 2016، إلى الدعوة للانسحاب من محكمة العدل الدولية. والواقع أن الدول الإفريقية شعوبًا وأنظمة ومجتمعات مدنية طالما نظرت إلى محكمة العدل الدولية على أنها قضاء “مصنوع” في الغرب لمعاقبة الدول الأقل نموًّا.

ومع ذلك، فإن العديد من المنظمات الحقوقية الإفريقية المناهضة للتعذيب والإعدام والسجن التعسفي الذي مارسه العديد من الأنظمة في القارة الإفريقية لم تجد إنصافًا في دولها ولا إحقاقًا للحق فلجأت إلى المحاكم الغربية وخصوصًا المحاكم البلجيكية التي تتبنى مفهوم الولاية القضائية العالمية وتمارس عملها في إطارها.

وقد أصبحت محاكمة حبري بمعنى من المعاني بديلًا للقضاء الإفريقي عن التوجه نحو محكمة العدل الدولية، وبالتالي ابتعادًا عن التبعية الإفريقية للغرب في المجال القضائي.

وتعتبر محاكمة الرئيس التشادي السابق، حسين حبري، أمام محكمة الغرف الإفريقية الاستثنائية بداكار بالسنغال، يوم 30 مايو/أيار 2016، وصدور حكم بالمؤبد في حقِّه سابقة تاريخية لا في أبعادها القانونية أو في إجراءاتها التنظيمية، بل ربما أيضًا في تأثيرها على مستقبل الأنظمة الإفريقية في علاقتها بالمحكمة الجنائية الدولية. كما تطرح هذه المحاكمة أهمية المجتمع المدني في إفريقيا وحدود تحركه وفاعليته حيث استطاع تحقيق أهدافه واقتياد الرئيس السابق، حسين حبري، إلى محكمة إفريقية استثنائية بعد ست وعشرين سنة من الغُربة والمنفى في داكار عاصمة السنغال.

غير أن الغرف الإفريقية الاستثنائية، وإن بدت في ظاهرها هيئات قضائية إفريقية مستقلة عن المحكمة الجنائية الدولية، فإن ذلك لم يمنع الاتحاد الإفريقي من النظر إلى هذه المحكمة على أنها لا تحقق إلا مع جرائم الضعفاء وتغض الطرف عن جرائم الأقوياء.

هل أصبحت القطيعة بين إفريقيا والقضاء الدولي وشيكة؟

إن الحماس الإفريقي الذي رافق إنشاء المحكمة الاستثنائية الإفريقية في سنة 2006 قد حل محله استياء من هذه الهيئة بعد عقد من الزمن حيث أكَّد المؤتمر الثالث عشر لهيئة مصالح الاستخبارات والأمن الإفريقية الذي انعقد بعاصمة رواندا، كيغالي، في أغسطس/آب 2016، عدم ثقة الدول الإفريقية في الولاية القضائية العالمية وإساءة استخدامها ضد إفريقيا

كما أن نفس الحماس الذي رافق تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في بعض الدول الإفريقية قد حلَّ محله تردد في التعامل معها وتشكيك في نواياها، طالما أن هذه المحكمة يكاد يكون مجال تحقيقاتها، منذ إنشائها، سنة 2002 مقصورًا على القارة الإفريقية ما دامت تغض الطرف، خوفًا أو تواطؤًا، عن جرائم لا تقل أهمية عمَّا يقع في القارة الإفريقية. حتى إن المحكمة الجنائية الدولية أصبحت في نظر الكثير من الأنظمة الإفريقية مرادفًا للاستعمار، على الرغم من أن مسؤولي هذه المحكمة يردُّون على الموقف الإفريقي منها بأن المحكمة تخدم إفريقيا أكثر من غيرها بحكم أنها هبَّت لنصرة المظلومين في هذه القارة دون غيرها، فضلًا عن أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مواطنة إفريقية، وهي القاضية الغامبية: فاتو بن سودَه. ويتهم مسؤولو المحكمة الجنائية الدولية الأنظمة الإفريقية بأنها لم تنتقد تحقيقاتها حتى أبدت المحكمة اهتمامها ببعض القادة الحاليين، مثل: الرئيس السوداني، عمر البشير سنة 2011، والرئيس الكيني، أوهيرو كينياتا سنة 2012، وأن المجتمعات المدنية الإفريقية مع إجراء هذه التحقيقات والتدخلات.

ولعل اقتصار المحكمة الجنائية الدولية على التحقيق في الحالات الإفريقية، والاقتصار على حالة واحدة خارج إفريقيا وهي الحالة الجورجية سيظل يلقي بظلاله على علاقة القارة الإفريقية بهذه الهيئة القضائية الدولية. وستظل دعوة الاتحاد الإفريقي إلى أن تُحَلَّ قضايا إفريقيا من طرف القضاء الإفريقي صرخة في واد ما دامت الهيئات القضائية في القارة السمراء ضعيفة، وليس لها من الاستقلالية والقوة ما يجعلها تلاحق مرتكبي الجرائم في إفريقيا؛ فالقضاء الإفريقي في أغلبه قضاء غير مستقل وتتحكم السلطات التنفيذية في أدائه وتوجيهه.

وكان من الممكن تشجيع الغرف الإفريقية الاستثنائية التي أُنشئت في داكار وتوسيع دائرة نشاطها بوصفها تجربة قضائية إفريقية جديدة، غير أن رفض الاتحاد الإفريقي لمكتب الربط بين هذه المنظمة القارية وبين المحكمة الجنائية الدولية على غرار مكاتب الربط التي أنشأتها المحكمة مع الأمم المتحدة يوحي بأن آفاق علاقة هذه المحكمة بالقارة الإفريقية أصبحت تضيق بشكل مستمر.

خاتمة

لابد من الإشارة إلى أن بعض الدول الإفريقية تساند المحكمة الجنائية الدولية كالجزائر وبوتسوانا وكوت ديفوار ونيجيريا والسنغال وتونس على سبيل المثال. وهذه الدول هي التي حالت دون الانسحاب الجماعي للدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي من المحكمة الجنائية الدولية التي كان بعض دول الاتحاد يسعى إليه، وهو يوحي بأن استقطابًا إفريقيًّا بات قائمًا حول الموقف من هذه المحكمة.

والواضح أن القطيعة بين إفريقيا والمحكمة الجنائية الدولية أصبح واقعًا خصوصًا أن مؤتمر الاتحاد الإفريقي المنعقد بأديس أبابا، في فبراير/شباط 2014، قد شجَّع الدول الإفريقية في قرار صادر عن المؤتمر على مقاطعة هذه المحكمة، وهو قرار كان الرئيس الكيني، أوهيرو كينياتا، قد وقف وراء صياغة إقراره. وقد بات اتهام المحكمة بأنها تكيل بمكيالين أمرًا مطَّردًا على الأقل في الأوساط الإعلامية والسياسية الإفريقية.

ويبقى السؤال: ما مصير القضايا والتحقيقات التي بدأتها المحكمة الجنائية الدولية في عدد من الدول الإفريقية في ظل هذه الانسحابات المطَّردة من لدن بعض الدول الإفريقية؟ وهل يمكن ترميم وبناء ثقة باتت مفقودة بين المحكمة والاتحاد الإفريقي؟

الجزيرة