“الجيش الموازن”: تأثيرات معضلة خلافة “بوتفليقة” في سيناريو التغيير الجزائري

“الجيش الموازن”: تأثيرات معضلة خلافة “بوتفليقة” في سيناريو التغيير الجزائري

ينتاب المشهد السياسي الجزائري مع مرض الرئيس “عبدالعزيز بوتفليقة” غموض حول من سيخلفه، الأمر الذي أوجد حالة من التنافس الحاد بين الأجنحة المدنية والأمنية الحاكمة في هذا البلد، بل إن ذلك الأمر دفع البعض، مثل “معهد أمريكان إنتربرايز”، إلى الحديث عن احتمال أن يدخل الجزائر في غمار موجة ثانية متوقعة من ثورات “الربيع العربي” بعد أن كانت قد تجنبت الموجة الأولى في عام 2011.

ويربط هذا الاحتمال معضلة الخلافة في الجزائر بجملة من العوامل الأخرى المضافة، مثل: الأزمات المالية التي يمر بها هذا البلد نتيجة انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية، وتراجع قيمة العملة الوطنية؛ ما يعني تآكل الطبقة الوسطى، واتساع نسبة الفقراء في الدولة. أضف إلى ذلك، الحديث عن سيناريوهات محتملة لخلافة بوتفليقة، بما فيها سيناريو توريث الحكم لشقيقه ومستشاره الخاص “سعيد بوتفليقة”. فعلى الرغم من أن ذلك الأخير لا يشغل أي منصب دستوري، إلا أنه معيّن بمرسوم رئاسي غير منشور في الجريدة الرسمية للجمهورية، وبات يُمثل ثقلا أساسيًّا في مركز القرار الرئاسي مستغلا مرض شقيقه.

ومنذ مرض الرئيس بوتفليقة في عام 2013 وخضوعه للعلاج في فرنسا، بدأت المعارضة تتحدث عن شغور منصب الرئيس، وعن تسيير شئون الدولة بالوكالة من قبل شقيقه، ولذا تطالب بضرورة تفعيل المادة 88 من الدستور التي تنص على إعلان شغور منصب الرئيس؛ لوجود مانع صحي يحول دون أن يمارس الرئيس صلاحياته الدستورية.

ويثير الحديث عن خلافة بوتفليقة إشكالية تتعلق بمدى قدرة الرئيس القادم على الحفاظ على التوازنات الوطنية، وإدارة كل التناقضات بين جماعات المصالح في أعلى هرم السلطة. فالرهان الحقيقي بالنسبة للقوى الحاكمة هو إيجاد الرجل القادر على الحفاظ على مصالحها بعد أن يغادر الرئيس بوتفليقة الحكم[1].

وهنا، تظل التساؤلات مطروحة حول من هم الفاعلون السياسيون المتنافسون حول خلافة بوتفليقة، وهل بالفعل يمكن أن يقود ذلك الجزائر إلى الدخول في الموجة الثانية المحتملة للثورات في المنطقة، وماذا عن دور الجيش كمؤسسة لها ثقل أساسي في التغييرات السياسية التي شهدتها البلاد منذ استقلالها؟.

الفاعلون الأساسيون:

عرف النظام السياسي الجزائري منذ عام 1999 تحولات عديدة سمحت بتنامي دور جماعات المصالح بشكل لافت، حيث يهمين اليوم على الجزائر ثلاث جماعات مصالح استولت على الدولة ومقدراتها الاقتصادية، وتتنافس فيما بينها على النفوذ والتأثير وفرض المعايير، وهي:

الجماعة الأولى: ذات طابع حزبي؛ تتكون من أكبر حزبين في البلاد، وهما جبهة التحرير الوطني (حزب الرئيس)، والتجمع الوطني الديمقراطي الذي يتزعمه أحمد أويحيى مدير ديوان رئيس الجمهورية. وكل حزب يطمح للسيطرة على الدولة ومؤسساتها الرسمية والجمعيات الأهلية في الدولة (النقابات، المنظمات الطلابية، والنوادي الرياضية).

الجماعة الثانية: هي الأقوى على الإطلاق، وتمثلها المؤسسة العسكرية التي تمثل العمود الفقري للنظام السياسي الجزائري، ويتزعمها الفريق أحمد قايد صالح رئيس الأركان ونائب وزير الدفاع الوطني.

الجماعة الثالثة: يمثلها رجال الأعمال الذين استثمروا أموالا طائلة في تمويل الحملات الانتخابية، ومن أبرزهم رجل الأعمال “علي حداد” و”كريم كونيناف”، اللذان يطمحان في قبض ثمن ما أنفقاه والمتمثل في لعب الأدوار الأولى في المشهد السياسي.

المرشحون المحتملون:

مع تصاعد الحديث داخل الأوساط السياسية الجزائرية عن شغور منصب الرئاسة، بدأت التكهنات داخل الأوساط الجزائرية عن مجموعة من المرشحين المفترضين لخلافة الرئيس بوتفليقة، ممن سبق لهم أن شغلوا مناصب عليا في الدولة، ومنهم من لا يزال في منصبه.

أولا- المرشحون من داخل النظام:

هناك عدد من المرشحين المحتملين من داخل النظام السياسي الحالي، ومنهم:

1- أحمد أويحيى (64 عامًا): يشغل منصب مدير ديوان رئيس الجمهورية والأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي، والمقرب من جهاز الاستخبارات.

2- عبدالمالك سلال (68 عامًا): رئيس الوزراء الحالي، غير أن بعض الجزائرين ينظرون إليه باعتباره بيروقراطيًّا لا يناسب منصب رئيس دولة. ويحظى بعلاقات جيدة مع رئاسة أركان الجيش.

3- سعيد بوتفليقة (58 عامًا): الشقيق الأصغر للرئيس بوتفليقة ومستشاره الخاص.

4- أحمد قايد صالح (76 عامًا): رئيس الأركان ونائب وزير الدفاع الوطني. ويعتبر من أبرز المرشحين لخلافة بوتفليقة. ويرى أن تجربة الرئيس المصري “عبدالفتاح السيسي” في مصر تُعد بمثابة محفز له على خوض تجربة العمل السياسي بغض النظر عن عامل السن، وأن الطريق نحو قصر الرئاسة بات معبّدا له بعد إحالة الفريق محمد مدين ( رئيس الاستخبارات الجزائرية السابق) إلى التقاعد[3].

ربما تصب التطورات السياسية والاقتصادية التي شهدتها الجزائر في السنوات الأخيرة في اتجاه الطرح القائل بأن سعيد بوتفليقة مرشح قوي لخلافة شقيقه في سدة الحكم. فتعيين رجل الأعمال علي حداد في منصب رئيس “منتدى رؤساء المؤسسات”، والنشاط السياسي الدوؤب لرئيس منظمة رجال الأعمال، يؤشر -لدى البعض- على النوايا الحقيقية للفريق الرئاسي في مرحلة ما بعد بوتفليقة، سواء بتعيين أحد رجاله الموثوق فيهم، أو توريث الحكم لشقيق الرئيس.

بيد أن سعيد بوتفليقة في حاجة إلى جهاز انتخابي يضمن له العبور إلى “قصر المرادية”، وهو ما بدأ يتحقق على أرض الواقع، حيث كشفت بعض التقارير عن استعداد جمعية خيرية يطلق عليها “فخر” للتحول إلى حزب سياسي. وقد بلغ عدد أعضائها 150 ألفًا، أغلبهم من التجار ورجال الأعمال، كما تضم في صفوفها 30 وزيرًا، لتكون الظهير الحزبي لسعيد بوتفليقة[2].

ويتوقع محللون أن يستغل شقيق الرئيس حالة الأزمات الداخلية التي تعصف بالحزبين الرئيسيين؛ جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي، لمصلحته. كما أن تورط كوادر الحزبين في قضايا فساد ونهب للمال العام يصب أيضًا في مصلحة سعيد بوتفليقة.

ثانيا- المرشحون من خارج النظام:

وفي المقابل تُطرح عدد من الأسماء من خارج النظام الرئاسي لخلافة بوتفليقة، ومنها:

1- علي بن فليس (72 عامًا): مدير حملة الرئيس بوتفليقة في عام 1999، ثم رئيس للحكومة في عام 2001، ومرشح للانتخابات الرئاسية في عام 2004.

2- مولود حمروش (73 عامًا): رئيس حكومة أسبق في عام 1999، ثم مرشح للانتخابات الرئاسية في عام 1999.

3- شكيب خليل (77 عامًا): وزير الطاقة الأسبق (1999-2010) وصديق طفولة الرئيس. ترأس منظمة الدول المصدرة للبترول مرتين على التوالي في 2001 و2008. ويُتَّهم بتلقي رشاوى وعمولات في قضية سوناطراك، وصدرت في حقه مذكرة توقيف دولية، وهو ما جعله يُغادر الجزائر باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2013، ليعود منتصف مارس 2016، بعد إلغاء ملاحقته بسبب خطأ شكلي. وقد عملت الطرق الصوفية على تحسين صورته، حيث جرى تكريمه من قبل شيوخها وسط استغراب الرأي العام، وهو ما أعطى الانطباع بأن الرجل يجري تحضيره لخلافة الرئيس بوتفليقة[4].

دور العامل الخارجي:

تنظر القوى الخارجية، وتحديدًا الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، بقلق بالغ إلى تطورات الوضع السياسي في الجزائر في ظل مرض الرئيس بوتفليقة. ومرد ذلك وجود مصالح سياسية، اقتصادية وجيوسياسية لباريس وواشطن في الجزائر. أضف إلى ذلك أن قضايا الإرهاب والنفط، في المغرب العربي، في نظر البلدين، تتطلب شريكًا مستقرًّا دستوريًّا وذا مصداقية.

لم تعد منطقة المغرب العربي “ميدانًا محجوزًا” لفرنسا باعتبارها المستعمر التقليدي للمنطقة، فقط باتت المنطقة محّل تنافس شديد بين باريس وواشنطن. كما أضحت الأخيرة أكثر انخراطًا في الشئون السياسية والاقتصادية لدول المنطقة.

وفي هذا الإطار، أعلنت واشنطن ضمنيًّا عن دعمها لوزير الطاقة الأسبق شكيب خليل المرشح المحتمل لخلافة الرئيس بوتفليقة، حيث رفضت الاستجابة للأصوات المطالبة بتسليمه إلى الجزائر لإحالته إلى القضاء لمحاكته بتهمة الفساد. وتشير بعض التقارير الإعلامية إلى وجود اتفاق ضمني بين الولايات المتحدة ودوائر في السلطة يقضي بتحضير شكيب لخلافة الرئيس بوتفليقة بعد تحسين صورته لدى الرأي العام الجزائري باعتباره من أكفأ الكوادر الجزائرية التي شوهت صورتهم المخابرات، على حد تعبير عمار سعداني الأمين العام لجبهة التحرير سابقًا[5].

أما فرنسا، في ظل حكم الرئيس فرانسوا هولاند، فتربطها علاقات وطيدة بالفريق الرئاسي. وقد تجلى ذلك بوضوح حين كان الرئيس بوتفليقة في مستشفى “فال دو غراس” العسكري يتلقى العلاج في ربيع عام 2013، حيث منعت باريس تفعيل المادة 88 من الدستور التي تنصُّ على إعلان حالة شغور منصب الرئيس لوجود مانع صحي يحول دون أن يمارس الرئيس صلاحياته الدستورية.

ويرى بعض المقربين من الدور الفرنسي في الجزائر وجود صفقة بين الاشتراكيين الفرنسيين والفريق الرئاسي الجزائري، تقضي بتقديم دعم سياسي ودبلوماسي لجماعة الرئاسة، في مقابل حصول فرنسا المنهكة جراء الأزمة الاقتصادية والاجتماعية على مزايا اقتصادية ومالية في السوق الجزائرية. فقد بلغ حجم الاستثمارات الفرنسية في الجزائر، حسب أرقام السفارة الفرنسية، 2.5 مليار دولار خلال عام 2016، كما يبلغ عدد الشركات الفرنسية في الجزائر 180 شركة. بيد أن إعلان الرئيس هولاند عن عدم رغبته في الترشح لولاية رئاسية ثانية قد شكّل صدمة للفريق الرئاسي وأخلط حساباته.

الجيش ومستقبل الجزائر:

يرتبط مستقبل الدولة الجزائرية بإيجاد حل لإشكاليتين رئيسيتين يواجههما النظام السياسي مؤخرًا. ترتبط الإشكالية الأولى بالغموض السياسي حول من سيخلف الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بعد تصاعد الحديث عن شغول منصب الرئيس. أما الإشكالية الثانية فترتبط بما ذهبت إليه تقارير عن احتمالات أن تشهد الدولة موجة ثانية من ثورات الربيع العربي في ظل التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها الدولة.

في ظل استمرار معركة خلافة الرئيس الحالي التي لم تحسم بعد، تتجه أنظار الجزائريين إلى “أهل الحل والعقد” من نخبة المؤسسة العسكرية لاستقراء موقفهم من تطورات الوضع السياسي في البلاد. ويرى “أهل الحل والعقد” أن الرئيس المقبل للجزائر لن يكون شقيق الرئيس ولا رئيس ديوانه أحمد أويحيى بسبب قربه من جهاز المخابرات السابق، ولا قائد جهاز الشرطة اللواء عبدالغني الهامل الذي يحاول الفريق الرئاسي تعيينه في منصب نائب وزير الدفاع الوطني في مكان رئيس أركان الجيش في إطار ترتيبات خلافة بوتفليقة.

وتجدر الإشارة إلى أن رئيس الجمهورية، منذ وفاة الرئيس الراحل هواري بومدين، ليست له أية سلطة فعلية، فكل ما يملكه سلطة شكلية وامتيازات. والجيش في الجزائر لاعتبارات تاريخية ليس في حاجة إلى رئيس يمارس صلاحياته الدستورية. ولذا، فإن كلمة الفصل في الجزائر حول من سيخلف الرئيس بوتفليقة ستعود للجيش وليس لأية جهة أخرى. فإذا كانت بقية دول العالم لها جيوش، ففي الجزائر فإن الجيش له دولته، فوجوده سابق على وجود الدولة وهو الذي بناها عام 1962[6].

وتوقعت العديد من الدراسات والأبحاث حول الدول الريعية اتساع رقعة الاحتجاجات في الجزائر، وعجز النظام عن احتوائها بسبب شح الموارد المالية، وإفلاس سياسة شراء السلم الاجتماعي. فإذا كانت الجزائر قد أفلتت من موجة “الربيع العربي” التي بدأت في تونس مع نهاية عام 2010، فإن بعض السيناريوهات المتشائمة تؤكد أن الجزائر على موعد مع الموجة الثانية من “الربيع العربي” بعد نفاد احتياطي النقد من العملة الصعبة.

لكن هناك صعوبات في أن تشهد الجزائر الموجة الثانية من الربيع العربي؛ لأن من منع امتداد موجات “الربيع العربي” إلى الجزائر في عام 2010 و2011 ليس حنكة السلطات الجزائرية، بل وعي الجزائريين وإدراكهم خطورة المؤامرات التي تحاك ضد المنطقة وتحديدًا بلادهم. ومن ثم فإن أي دعوة نحو المجهول لن تجد لها صدى في الجزائر. وتكفي جولة في مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر) للتأكد من مدى التفاف الجماهير حول المؤسسة العسكرية وقيادة الأركان، وهذا ربما ما جعل عميد السياسيين الجزائريين الراحل عبدالحميد مهري أثناء ندوة الوفاق الوطني عام 1993 يقول: “يجب علينا أن نبحث عن تفسير لماذا يشعر الجزائري بارتياح بالغ حين يشاهد الدبابة في الشارع؟. وذلك في أعقاب خروج الجيش في 1992 وإلغاء العملية الديمقراطية”.

المستقبل