معركة الموصل من التطويق إلى الحصار

معركة الموصل من التطويق إلى الحصار

كان الأميركان من الأصول الأفريقية يسخرون من الخطابات التي يلقيها البيض وتتعلق بحياة السود وحقوقهم والدفاع عنهم، لأنهم لم يشاهدوا ولا مرة على منصة خطابات الحرية والعدالة والمساواة واحداً منهم. العراقيون، بالتعميم، عليهم تصفية الحسابات أولا مع الاحتلال الأميركي وملحقاته، فهو الأب الشرعي للعملية السياسية الإيرانية في العراق وما وصلت إليه من غياب صوت الشعب تماما في تقرير حياته وتركته ليجابه مصيره بما تقرره ماكنة التطبيع السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي، ويمكن اختصارها بالتطبيع الطائفي للمشروع الإيراني. تاريخ العراق مستهدف برمته، مطلوب رأسه، لكن في البداية والنهاية لا يجب أن يتناسوا أو من الغباء أن يفعلوا، أننا عراقيون ولا تمكن أبدا تحت كل التحليلات الصادمة مساومة وطن تحت تهديد القبول بيوميات الجرائم السياسية التي تقترفها المافيا الحاكمة، وما يتبعها من سلطات ظاهرها يتحرك بآلية النظام الديمقراطي وكل منهجها يسترشد بانفعالات المرشد.

شهران فقط مرا على بدء معركة الموصل، تم فيهما فسخ العقد والتنصل من كل ما ورد فيها من وعود يفترض أنها من مخرجات السياسة الواقعية لحكومة دولة ستخوض بجيشها أكبر معركة ضد الإرهاب، تنصلت فيها دول كبرى عن مسؤولياتها المباشرة بزج أبنائها من قواتها العسكرية في معركة هي من أخطر المعارك لأن ساحة الاشتباك تدور في مدينة آهلة بالسكان المدنيين وبحجم مدينة مثل مدينة الموصل، وهم جميعا بمثابة أسرى أو رهائن في قبضة تنظيم عقيدته القتالية تقوم على الصدمة والترويع والعمليات الانتحارية.

ما علاقة النتائج الكارثية بطروحات الفخر العشائري التي اتسمت بها تصريحات القائد العام للقوات المسلحة واقتربت من الأهازيج الشعبية في تبسيط المواقف بمعركة معروف مسبقا أنها ستكون عرسا دمويا، كان يجب ولزاما عليها أن تجرى وتنفذ في غرفة العمليات المشتركة، وهي غرفة حركات عسكرية تضم أرقى الخبرات في فنون الحرب من الدول الساندة؛ إلا إذا حصل وتعاملت معها الإرادة السياسية بمنطق الاكتفاء الذاتي، خاصة بوجود مستشار رئاسة الوزراء لشؤون الأمن في العراق المدعو قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني.

كيف تمت هذه الطبخة؟ وأي غرفة عمليات مشتركة هذه لا تدري بطلعة جوية استهدفت طوابير المتقاعدين ومتعففي الرعاية الاجتماعية وسوقا في مدينة القائم القريبة من الحدود السورية، وأدت إلى 130 قتيلا والعشرات من الجرحى وتبناها الطيران العراقي وتبرأ منها طيران التحالف. يدرك المعنيون في قيادة الجيش النظامي بكل صنوفه، ومنها الطيران، مدى الخروقات الطائفية اللعينة المرتهنة للتطبيع النفسي للثأر والانتقام، هذه ليست الحادثة الأولى إذ سبقتها عمليات مماثلة والمجالس الخاصة للطيارين تحفل حتى بالمبعدين منهم عن الواجبات، أو حتى من الذين تمت إحالتهم إلى التقاعد أو تحويلهم إلى واجبات غير قتالية لافتضاح عصبيتهم الطائفية وخوفا عليهم من الملاحقة والتحقيق؛ وهم ضمن كافة تشكيلات الجيش ويثلمون تضحيات المقاتلين المهنيين، وأيضا سمعة الكثير من القادة العسكريين أصحاب الخبرات والمعارف والعلوم العسكرية.

العقدة هي الحل أيضا في فهم ما حدث من جريمة في مدينة القائم، فالتبرير بتواجد عناصر من داعش بين القتلى، يعطينا انطباعا بأن المعلومة الإستخبارية، إن كانت صحيحة وموثوقا بها، ممكن أن تعمم على حالة الموصل وتستخدم في إبادة أهل الموصل ونحن نعلم علم اليقين بوجود المئات والآلاف من الدواعش فيها، هكذا فعلا تجري الأمور في ظل الوقائع العسكرية وتلكؤ العديد من القطعات في تقدمها ومواجهتها لردات فعل تبدو غير محسوبة في التخطيط، قبل انطلاق المعركة.

الأجوبة في سلة خامنئي ومباركته وفرحه الطاغي بإقرار قانون هيئة الحشد الشعبي، ووصفه له بثروة العراق العظيمة للحاضر والمستقبل ووصاياه التي حملها أمانة في عنق رئيس التحالف “الوطني العراقي” بعدم الثقة بالأميركيين

أما إذا كانت المعلومة أساسا غير متوفرة ومجرد مجموعة طوابير مشكوك فيها حسب استطلاع رؤية جوية غير دقيقة، عندها تنجلي الحقيقة عن دوافع قتل متعمد وعمل إرهابي أكثر جنونا من كل الإرهاب، لأن الطيار الذي يقصف المدن والمجاميع المدنية لا يمتلك أبدا الشعور بالجريمة المرتكبة وويلاتها على الأرض، لأنه يقوم بها وفق مفاهيم أداء الواجب وأيضا تحت حماية قانون يعفيه من المساءلة والعدالة.

تحت هذا الوصف تلاحقت الأيام مسرعة ومتقلبة عن دور حشد الفتوى الطائفي في معركة أو معارك الموصل؛ فبعد إعلان بدء المعركة وتعهدات حيدر العبادي، عضو حزب الدعوة ورئيس وزراء العراق، وبحكم منصبه كقائد عام للقوات المسلحة، حددت محاور القتال ومنها الواجبات الملقاة على الحشد “الشعبي” بالتطويق والعزل في المحور الغربي ودون اقتحام لأي منطقة سكانية في الموصل، ثم هرولوا إلى إصدار قانون هيئة الحشد الشعبي ليتماشى مع متطلبات فتح الأبواب بالتتابع لزيادة غلة المشاركة في المعركة لتصبح تعهدات العبادي بذمة جيش شعبي لا علاقة له بهيئة الحشد الشعبي المحمية بقانون برلماني وصلاحيات مختلفة توازي صلاحيات الجيش الرسمي وتعلو عليه ويتوفر لها غطاء جوي للتحالف، رغم الالتباس في المواقف وغرابة الإجراءات في التنسيق للعمليات الميدانية.

الخطة الأساس في معركة الموصل تقضي بترك المنفذ الغربي مفتوحا باتجاه سوريا لتسهيل خروج أكبر عدد ممكن من قوات تنظيم داعش. الذي يحدث هو إصرار الحشد الطائفي المحمي بفتوى المرجعية الدينية والدكتاتورية الطائفية البرلمانية، على إغلاق الدائرة حول الموصل والتماس مع الفرقة التاسعة في سهل نينوى، وشبهات وظنون ليست آثمة عن سلسلة حرائق لبيوت المسيحيين التي حررت من قبل قوات البيشمركة خلال الأسابيع الأولى من المعركة، بما يعني أن ردود الفعل السياسية وصلت تردداتها على الأرض مبكراً بما يتعلق بالأراضي المتنازع عليها وما ستفرزه الموصل من صراعات بعد تحريرها من داعش.

هل واجبات التطويق والعزل تحولت كالعادة إلى حصار ظالم لأهل الموصل؟ وما أكثر الحصارات في تاريخ هذه المدينة العريقة، بما يعزز قدرات داعش القتالية واندفاعه لاستغلال المدنيين كدروع بشرية والمناورة بهم وبحياتهم وتحريضهم واتخاذهم ذريعة لبطء العمليات في قواطع الجيش النظامي بما يبرر “الاستنجاد” بقوات وخبرة قاسم سليماني للتخطيط لصفحات قـادمة من المعركة، وتتلخص إما في إطالة أمد الحصار بكل ما يعنيه من مأساة للمحاصرين الذين يعانون من قلة الموارد في الغذاء والدواء والماء وتحت رعب الحرب، وإما في ارتكاب المجازر لتحقيق انتصارات غايتها ترسيخ التفوق على الجيش النظامي.

الأجوبة في سلة خامنئي ومباركته وفرحه الطاغي بإقرار قانون هيئة الحشد الشعبي، ووصفه له بثروة العراق العظيمة للحاضر والمستقبل ووصاياه التي حمّلها أمانة في عنق رئيس التحالف “الوطني العراقي” والوفد المرافق له بعدم الثقة بالأميركيين أو الانخداع بابتسامتهم التي دفعت إيران لشراء العشرات من الطائرات المدنية قبل أيام فقط من أميركا، لكن أهم ما في وصاياه دعوته إلى حماية علماء العراق من غدر الأعداء؛ لا تعليق.

حامد الكيلاني

نقلا عن العرب