وحدة النسيج الوطني للشعوب العربيّة

وحدة النسيج الوطني للشعوب العربيّة

تبقى الوحدة الوطنية داخل كل دولة عربية مستهدفة بواسطة أعمال عنف أو إرهاب، ضمن أساليب استهداف أخرى، وهو أمر ليس بالجديد أو المستحدث، بل هو موجود ومعاش منذ أزمنة طويلة. تتكرر المحاولات ويتعدد الفاعلون، المعروفون أحياناً وغير المعروفين أحياناً أخرى، وتتنوع الدوافع المعلنة وتلك غير المعلنة، وتختلف التفسيرات والاجتهادات ما بين حالة وأخرى وحقبة تاريخية وأخرى، لكن تبقى الحقيقة واحدة وقائمة في كل هذه الحالات، ألا وهي أن الهدف يبقى واحداً وهو تمزيق وحدة النسيج الوطني والعصف بالسلام الاجتماعي وتفتيت الصف الوطني الواحد وتمزيق الوطن الواحد وتشرذم أبناء الشعب الواحد في كل دولة عربية إلى طوائف متقاتلة في ما بينها، والنتيجة النهائية المبتغاة من وراء هذه المحاولات المتكررة تبقى هي الحيلولة دون تحقق غاية الأمن والاستقرار لكل وطن ودولة ومجتمع، والتفاف أبنائه حول مهمة بناء وطنهم على النحو الذي يتفقون عليه ويقرونه عبر التراضي المتبادل في ما بينهم، وانطلاقهم للتركيز على جهود بناء الدولة والمجتمع والوفاء باستحقاقات واحتياجات ومتطلبات عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تلك الدول والمجتمعات، والتي تصبح أكثر إلحاحاً يوماً بعد يوم.

وعلى رغم أن هذه المحاولات التي أشرنا إليها تطل علينا بين فترة وأخرى في مختلف بلداننا ومجتمعاتنا العربية، وإن بمعدلات متزايدة على مدار السنوات الأخيرة، فإن الدافع الى الحديث عنها مجدداً هو الاعتداء الإرهابي الذي ضرب الكنيسة البطرسية المجاورة للكاتدرائية المرقسية القبطية في حي العباسية في شرق القاهرة، خلال انعقاد قداس الأحد الأسبوعي. لكن هذا الاعتداء لم يكن الأول من نوعه ولن يكون الأخير بحقِ جزءٍ ومكون مهم من مكونات شعب عربي، ولن أستخدم هنا تعبير «أقلية»، الذي نجده مستخدماً في شكل مفرط في بعض الأحيان، بخاصة في الكثير من الأدبيات الغربية عند معالجتها أوضاع بلدان عربية أو المنطقة العربية ككل، لأن الواقع أن الأقباط، مثلهم في ذلك مثل أي جزء أو مكون من أي شعب عربي وإن اختلف مع بقية الشعب في العقيدة الدينية أو الانتماء العرقي أو القومي أو اللغوي أو الطائفي أو القبلي، كالموارنة والدروز والأكراد والبربر والكلدانيين والآشوريين والتركمان والأرمن، على سبيل المثل، كان لهم ولا يزال دورهم المحوري ومساهماتهم المتواصلة في المسيرة الوطنية والحضارية والثقافية والاجتماعية لهذا الشعب العربي أو ذاك على مدار التاريخ القديم والوسيط والحديث والمعاصر على حد سواء.

وقد مرّ زمن كان التطلع فيه هو إلى تحقيق، أو بمعنى أكثر دقة استعادة، شكل من أشكال الوحدة، أياً كان عنوانها، عربياً أو إسلامياً أو على أصعدة ومستويات شبه إقليمية، وتراوحت محاولات تحقيق ذلك بين النجاح والفشل، لكنها في النتيجة النهائية عجزت عن الوصول إلى تحقيق هذا الهدف في شكل شامل والحفاظ عليه، وفي تلك الفترات افترض الجميع أن تماسك الدولة الوطنية ووحدتها أمر مسلم به وغير قابل للتعرض لأي هزات أو حتى طرح التساؤلات في شأنه، من دون أن يعني ذلك أن الوحدة الوطنية لكل دولة عربية لم تكن مستهدفة في تلك الأزمنة، إلا أن معدل ذلك الاستهداف والمحاولات التي جسدته كانت على فترات تعتبر نسبياً متباعدة ولم يتم تفسيرها على أنها تمثل خطراً على السلام الاجتماعي داخل كل دولة.

إلا أن المقلق هو تضاعف وتيرة هذا الاستهداف والمحاولات التي تمثله، وقبل أن نرى ذلك في الاعتداء الأخير على الكنيسة البطرسية في مصر، وجدناه في حالات اعتداءات على مسيحيي العراق، وما بين التاريخين كانت هناك اعتداءات على طوائف مختلفة في سورية ولبنان، إضافة إلى اعتداءات ذات طابع جهوي أو قبلي في بعض بلدان المغرب العربي الكبير أو في الصومال، حتى ولو استخدمت أيديولوجيات سياسية ذات مرجعية دينية لتبريرها أحياناً، من دون أن تفوتنا الإشارة إلى أمثلة لاعتداءات متنوعة طاولت العديد من بلدان الخليج العربية في السنوات الأخيرة، وكذلك اليمن، حتى من قبل اندلاع الأحداث الأخيرة الجارية هناك على مدار العامين الماضيين. وتزامن هذا التصعيد مع فترة تحولات وتحديات تمر بها البلدان العربية منذ سنوات، ارتبطت من الناحية الزمنية، وإن ليس بالضرورة، بعلاقة سببية في كل الأحوال، بما جرى على إطلاق تعبير «الربيع العربي» عليه من جانب العديد من أجهزة الإعلام والمؤسسات البحثية وبعض الناشطين سياسياً، سواء داخل حدود عالمنا العربي أو خارج تلك الحدود. وقد لا يكون مثل هذا الارتباط عضوياً، إلا أن الحراك الذي ولَّده «الربيع العربي» وما ترتب عليه من تطورات وتغيرات وتحولات، بعضها ربما لم يكن أصلاً متوقعاً في بداية اندلاع أحداث ذلك «الربيع»، اتصل في شكل ما، عن قصد أو من دون قصد، بحالة من السيولة في الكثير من بلداننا العربية، والتي أثَّرت سلباً في بعض الحالات في الأوضاع العامة للأمن ودرجة الاستقرار المجتمعي والسلام الأهلي في بعض البلدان العربية، ما دفع البعض إلى الربط بين تصاعد الاعتداءات التي تستهدف الوحدة الوطنية داخل العديد من البلدان العربية وبين تداعيات «الربيع العربي».

وتبقى حقيقة أن اللُحمة الوطنية هي القادرة، كما اســتطاعت في الماضي، على عبور تلك الحملة التي تستهدف وحدة النسيج الوطني في العديد من البلدان العربية، عبر صيغ مخــتلفة، في مقدّمها أعمال العنف والإرهاب، وكذلك هي الوسيلة الأنجع لتجاوز ما تولده تلك الاعتداءات من مرارة، لها أســـباب ودوافع مفهومة بكل تأكيد، وهي القادرة على إفشــال المقصود من وراء ذلك، وهو التفتيت والشرذمة والعبث بوحدة الشعب الواحد داخل الوطن الواحد الذي يمثل التنوع فيه مصدر ثراء وقوة وليس مدعاة للخوف أو مظهراً من مظاهر الضعف. فالمســـتفيد الأول من تلك الأعمال هو كل من لا يريد للشعوب والبلدان العربية أن تحظى بالأمن والسلم والاستقرار، وهي كلها شروط ضرورية ولا غنى عنها للانطلاق إلى آفاق البناء والتنمية والتطور والتقدم في مختلف المجالات وعلى الصعد كافة. وعلى الجميع أن يتذكر أنه كما كانت نهضة العرب في السابق نتاجاً لتفاعل مبدع وثري في ما بين عطاء مختلف مكونات وأجزاء كل شعب عربي على حدة وكل الشعوب العربية مجتمعة، فإن عودة العرب للمساهمة في إثراء المسيرة الانتسانية من خلال عطائهم الحضاري مرتبطة أيضاً بتحقق الشروط الظروف ذاتها.

وليد محمود عبدالناصر

صحيفة الحياة اللندنية