حلب … نهاية «الثورة السوريّة»

حلب … نهاية «الثورة السوريّة»

بلى، انتهت الحرب في سورية. هذا إن كان المقصود بالحرب ذاك الصراع المسلّح بين النظام ومعارضيه. لا حاجة بنا الى إفاضة في التحليل لإثبات ذلك. حلب نهاية هذه الحرب التي اتُّخذ قرار إنهائها قبل سنة في اجتماع فيينا الثاني للمجموعة الدولية لدعم سورية، بُعيد التدخل العسكري الروسي فيها، الذي أدى إلى قلب جميع الموازين الميدانية والاصطفافات الدولية رأساً على عقب. منذ ذلك الاجتماع، تمكّن الروس من إلغاء شرعية رفع السلاح في مواجهة النظام. تعثر تحقيق هذا القرار سنة كاملة، لكن روسيا تمكّنت خلالها من الهيمنة على قرار النظام أكثر وأكثر.

حلب ليست مجرد مساحة جغرافية حتى نعايرها بمقاييس المعارك. إنها الآن، بعد تساقط غالبية بلدات محيط دمشق تحت سيطرة النظام، «الثورة» في حد ذاتها، وما بقي من المناطق خارج سيطرة النظام و»داعش»، كإدلب والغوطة، هو الذي يمكننا اعتباره مجرد جغرافيا ساقطة عسكرياً وسياسياً من دون أدنى جدل.

ليست الحرب في سورية فقط ما انتهى، بل «الثورة السورية» أيضاً. أي تلك المسمى الزائف للحركات الجهادية السنية (هذه المفردات ليست توصيفات بل تسميات تعتمدها الغالبية شبه المطلقة للفصائل المسلحة). لقد انتهت هذه «الثورة» مهزومة الآن، ومع نهايتها يجب أن نكون صريحي القول والتعابير مهما كانت المصارحة جارحة لكبريائنا أو حتى لضمائرنا ووجداننا.

لم نعد نحتاج بعد حلب الى بذل أي جهد لإثبات أن الجلباب الجهادي السني، الذي أُلبس للحراك الشعبي السلمي، لن تكون له أي فرصة للانتصار والفوز في سورية. فما نراه من تخلّي الدول عمّن أسمتهم سابقاً «الثوار المعتدلين»، وانفضاض جميع شرائح المجتمع السوري عن أن تكون حاضنة اجتماعية لهم، برهان يفقأ العين. كما لم نعد في حاجة الى استدعاء الحجج والبراهين لتأكيد أن السلاح الجهادي الذي رُفع في مواجهة النظام كان دوره الأساسي تثبيت النظام وإطالة أمده وتمتين طغيانه. هذا فضلاً عن الخراب والقتل والدمار الذي تسبّب أو قام به.

مع انتهاء هذه الحقبة من الصراع، يتوجّب علينا التوقف للتفكّر والتمعّن بكل ما جرى، وما هو واقع الحال الآن، وما هي الممكنات المتاحة لنقل البلاد إلى حال أفضل مما هي عليه الآن من ناحية عيش الناس بحرية وكرامة. يمكننا أن نرى الآن، إضافة الى مئات آلاف القتلى والعاجزين، وملايين المشردين والمهجّرين، والمساحات المهولة من الخراب والدمار، والاقتصاد المنهار، نظاماً يتربع بجبروت المنتصر على قمة خراب حلب ودمارها، مُنذِراً بأنه سيحكم البلاد بقوة الغلبة العسكرية، أي سيزداد بطشاً وتسلطاً على جميع السوريين، موالين ومعارضين وصامتين من دون تمييز، وستزداد مؤسسات الدولة وأجهزة النظام التسلطية فساداً ومحسوبيات وطائفية. وستنعدم جميع هوامش الحرية التي كانت متاحة، ولو في شكل ضيّق، قبل انطلاق التظاهرات الاحتجاجية، وطبعاً تلك الهوامش البسيطة التي اكتُسبت نتيجة تلك التظاهرات.

وفضلاً عن هذا كله، ستحكم شوارع البلاد قاطبة وحاراتها الميليشيات المتنوعة التي شُرعن لها حمل السلاح لمواجهة «الإرهاب»، وستتحكم هذه الميليشيات بحياة جميع السكان من دون استثناء على الطريقة التشبيحية التي خَبِــرها المجتمع العــلوي لعشرات السنــيــن على يد عصابات التشبيح التي شكلها أقرباء الرئيس السوري لأبـــيــه وأمه. وستستقوي هذه الميليشيات بالميليشيات الشيعية الأجنبية التي تأصلت وتجذرت في بيئة تعاونية مع مؤسسة الجيش والمخابرات، الى درجة يكون من الصعب استئصالها وإخراجها من البلاد لسنوات طويلة. هذا فضلاً عن سيطرة الميليشيات غير المحسوبة على النظام والمدعومة من أطراف دولية في مناطق وجودها، مكتسبة شرعية سلطاتها من توزيع النفوذ الدولي المتعدّد في شمال البلاد وجنوبها.

تنوَّع النفوذ الدولي على مساحات من الأراضي السورية بين شكل مباشر وآخر غير مباشر لقوى دولية وإقليمية كثيرة. لكن يبقى النفوذ الأجنبي الأهم والأقوى هو لروسيا التي أحكمت سيطرتها شبه التامة على قيادة أركان الجيش السوري وعلى الرئاسة السورية. وبالتالي، باتت في مثابة الجهة الوصيّة المطلقة على دمشق أمام المجتمع الدولي الذي بات يتفاوض معها سياسياً وعسكرياً في شكل مباشر نيابة عن النظام السوري. هذا النفوذ المتعدد أطاح كل أثر للسيادة الوطنية.

هُزِمت «الثورة»، لكن النظام لم ينتصر، فمن انتصر هو السلاح الأقوى. ومن خسر هو الشعب السوري بجميع أطيافه. عدم الإقرار بانتصار النظام سياسياً وأخلاقياً ليس قولاً تأملياً، بل حقيقة صارخة. فكل ما جرى هو انتصار القوة العسكرية للنظام الطغياني على القوة العسكرية لحركات طغيانية مناوئة له. فقد كان نزالهما في ميدان الفجور وليس في ميدان الحق أو الأخلاق أو السياسة. لذلك، لا نفع للسوريين من نصر هذا الطرف أو ذاك، فأي منتصر منهما سيحكمهم بقوة السلاح والقمع.

إمعان النظر في التجربة المريرة التي مر بها السوريون، يرينا أن ما اصطُلح على تسميته «ثورة» سورية كان قد تأسس بداية على إطاحة الحراك السلمي لنساء ورجال سوريين يريدون المشاركة في الحياة العامة، وتأكيد أنهم معنيون بشؤون وطنهم ويريدون استعادة حقوق جميع السوريين وحرياتهم التي ينتهكها النظام الاستبدادي الطغياني ويصادرها لعشرات السنين، وذلك بإقامة دولة ديموقراطية تُطلق الحريات الفردية ويتشارك فيها جميع السوريين في شكل متساو من دون استثناء، فباغتتهم حركات جهادية قام بها ذكور (فحول) أعلنوا أنهم يريدون تحقيق إرادة الله في الأرض والتحكم بما عليها من أرزاق ونساء. فبادرت هذه الحركات الى مصادرة اسم «الثورة السورية» واحتكرته لنفسها، وآزرتها في ذلك هيئات المعارضة الرسمية وشخصياتها (أي المعترف بها رسمياً من جانب الدول).

لم تستطع هذه «الثورة» تخفيف أي صنف من صنوف معاناة السوريين. فالاعتقال التعسفي الذي تقوم به مخابرات النظام منذ عشرات السنين، والذي كان أهم مشكلة عند السوريين، ازداد عما كان عليه أضعافاً وأضعافاً. بل ازدادت حدته، إذ صار المعتقلون مهددين بالموت تحت التعذيب أو نتيجة الأمراض أو سوء التغذية، بعدما كان مثل هذا الموت حالات نادرة جداً خلال حكم بشار الأسد قبل رفع السلاح لإسقاط نظامه. بل عانى السوريون فوق ذلك، من اعتقالات قامت بها مجموعات «الثورة» فاقت اعتقالات النظام من حيث أسباب الاعتقال، إذ صار يُعتقل الأشخاص بناء على عقيدتهم أو طائفتهم، وفاقتها من ناحية الممارسات أيضاً.

كذلك، لم تنجح «الثورة» إطلاقاً في ما ادّعته من حماية المدنيين، بل تسبّبت بزيادة قتلهم بنسبة كبيرة نتيجة مواجهة قوات النظام في مناطق سكنية، فضلاً عن القتل الذي مارسته المجموعات «الثورية» بحق المدنيين. بل ساهمت أيضاً، إضافة الى النظام، في مفاقمة الانقسام المجتمعي على أساس طائفي وقومي وديني وجهوي. حتى أنها لم تستطع استقطاب أبناء الأقليات الطائفية والدينية والقومية، ولا أبناء دمشق وحلب، المدينتين الرئيستين، فغالبية من تظاهر في قلب هاتين المدينتين كانوا من الوافدين وليس من أبنائهما، ذلك قبل أن يأتي مسلحون من غير أبناء حلب ويسيطروا على أحياء فيها. علماً أن هاتين المدينتين وهذه المكونات لا يمكن تجاوزها في أي أمر سياسي إطلاقاً.

عموماً، لم تحاول «الثورة» منافسة النظام، فلم تجد لذلك داعياً كونها احتكمت إلى القوة والسلاح، لذلك لم تجد ما يفيدها في منافسة النظام. كما لم تسعَ الى أن يخفف النظام قمعه ووحشيته وغطرسته، فهي تعتاش في وجودها على تفاقم طغيانه واستبداده. حتى أنها وجدت أن تحسُّن أوضاعها الدولية والمالية يتناسب طرداً مع ازدياد شناعة النظام، فكلما قتل واعتقل وشرّد الناس أكثر تحسنت أوضاعها. فهي لم تعمل ولا للحظة واحدة لأن يحسّن النظام ممارسته تجاه المواطنين.

استناداً إلى هذا، وإذا أردنا أن نكون أوفياء لشعبنا وبلدنا، ومخلصين لحقوق الإنسان الســوري في الحريـــة، وكنا ما زلنا نريد الانتقال ببلادنا من التخلف والاستبداد والطغيان إلى الحداثة والديموقراطية، يتوجب علينا القطع نهائياً مع هذه الثورة. القطع مع رؤاها وقياداتها وممارساتها ومرتكزاتها. القطع مع ذهنيتها وثقافتها.

لا بد من القول الصريح إن هذه «الثورة» كانت ضد الحرية وضد النساء وضد التفرد، ولم تكن للحظة، منذ امتشق الجهاديون السلاح وصاروا قادة الميدان، ثورة حرية للسوريين. وأنه لا بد من استمرار النضال في مواجهة هذا النظام لاستعادة الحريات الفردية وتحصينها وحمايتها من انتهاكات أجهزة المخابرات، فهذه الحريات هي الأمر الوحيد الذي كنا نحتاجه قبل انطلاق التظاهرات.

لؤي حسين

صحيفة الحياة اللندنية