جرائم صامتة: لماذا تزايدت تجارة الأعضاء البشرية في الشرق الأوسط؟

جرائم صامتة: لماذا تزايدت تجارة الأعضاء البشرية في الشرق الأوسط؟

تصاعدت أدوار عصابات الاتجار بالأعضاء البشرية في بعض دول الإقليم، وهو ما بدا جليًّا في مصر والسودان وليبيا والمغرب والجزائر واليمن ولبنان وسوريا والأردن والعراق وتركيا، وبيعها في السوق السوداء، لا سيما مع تحالفها مع المافيات الإجرامية في مجالات أخرى، بحيث تضم الشبكة أساتذة جامعات وأطباء وأعضاء هيئة تمريض وأصحاب مراكز ومختبرات طبية ووسطاء وسماسرة و”أرباب سوابق” ومنتحلي صفات أمنية، وهي تجارة عابرة للحدود الرخوة، لا سيما في ظل الأوضاع الأمنية غير المستقرة، واشتعال جبهات الصراعات الداخلية العربية، وتزايد متطلبات ضخ تمويلات للتنظيمات الإرهابية، فضلا عن عوامل أخرى ترتبط بالظروف الاقتصادية الضاغطة، والأرباح المالية التي تحققها تجارة الأعضاء البشرية، وغياب التشريعات الرادعة.

ويُطلَق على جرائم الاتجار في الأعضاء البشرية في دول الشرق الأوسط “الجريمة الصامتة”، التي تحدث بعيدًا عن المحاسبة والمراقبة، وتُعد إيران الدولة الوحيدة في الإقليم التي تُبيح التبرع بالأعضاء البشرية لإنسان على قيد الحياة نظير مقابل مادي (300 جنيه إسترليني)، وهو ما يجعلها تجارة مقننة، في حين تغيب هذه الآلية عن بقية دول الإقليم على نحو يرسخ “السوق السوداء” لتجارة الأعضاء البشرية.

ولا توجد إحصائيات تفيد بحجم ظاهرة الاتجار بالأعضاء البشرية في المستشفيات العامة أو المصحات الخاصة، وفقدان الأدلة لا يعني عدم وجود ظاهرة التجارة بالأعضاء، إذ إن السرية التي تكتنف هذه الممارسات “غير المرئية” تجعل من الصعوبة بمكان تحديد حجم هذه السوق السوداء وعدد الأعضاء التي يتم تداولها سنويًّا بشكل غير قانوني في جميع أنحاء العالم، مع اختلاف التسعيرات المحددة من دولة لأخرى.

ووفقًا للتقديرات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية لعام 2015، فإن هناك أكثر من 10 آلاف عملية بيع وشراء للأعضاء البشرية بالسوق السوداء سنويًّا، وما بين 5 إلى 10% من جميع عمليات زراعة الكلى على مستوى العالم تتم عبر عمليات الاتجار والتهريب عبر الحدود، وتحقق أرباحًا سنوية تتراوح بين 600 مليون دولار و1,2 مليار دولار، في حين ترفعها تقديرات أخرى إلى 8 مليارات دولار سنويًّا.

أنماط متعددة:

تجدر الإشارة إلى أن هناك عدة أنماط حاكمة لعملية الاتجار في الأعضاء البشرية مثل “الكلى” و”فص الكبد” و”قرنية العين” و”النخاع” و”الجلد” و”الشعر” في بعض دول الإقليم على النحو التالي:

1- السرقة: تنشط مافيات تسعى لسلب الأعضاء من الجسم دون علم الشخص في عدد من المستشفيات، سواء الحكومية أو الخاصة في عددٍ من دول الإقليم، ويتم التعامل معها على أنها “قطع غيار بشرية”، خاصة بالنسبة للراغبين في السفر أثناء إجرائهم بعض الفحوصات الطبية.

2- الاستئصال: يقوم تنظيم “داعش” بتجنيد أطباء في بؤر الصراعات العربية المسلحة لاستئصال الأعضاء الداخلية، ليس فقط من جثث مقاتليه المتوفين الذين تم نقلهم بسرعة إلى المستشفى، بل أيضًا من المصابين الذين تم التخلي عنهم، أو الأفراد الأحياء الذين يتم اختطافهم.

3- الاختطاف القسري: خاصة للأطفال أو أطفال الشوارع بهدف سرقة الأعضاء البشرية، وهو ما حدث في عدة محافظات مصرية وأردنية وعراقية وسورية وسودانية، إذ يتم العثور على جثثهم بعد فترة من اختفائهم وهي منزوعة القلب والكبد والكلى والطحال. فعلى سبيل المثال، تم اختطاف بعض أبناء مناطق شرق السودان لبيع أعضائهم بعد سرقتهم في الأراضي الصحراوية والمناطق الخلوية. وقد يحدث الاختطاف للاجئين مثلما تعرض له الإريتريون من معسكرات اللجوء على الحدود السودانية.

4- الزواج: ويتم عبر تزويج فتيات فقيرات يُردن بيع أعضائهن من شخصيات عربية ثرية بشكل رسمي، ليتم الطلاق بعد إجراء عملية الزرع أو الاستئصال، وهو ما يشير إلى وقوعهن ضحايا لعملية خداع.

5- التعهد: يسعى بعض السماسرة في عدد من دول الإقليم إلى الحصول على توقيع اللاجئين أو المهاجرين غير الشرعيين على استمارة قبول لنزع الأعضاء لإكساب العملية “شرعية”.

ويعود رواج ظاهرة تجارة الأعضاء البشرية في دول الإقليم إلى جملة من العوامل، التي يمكن تناولها على النحو التالي:

شبكة الموت:

1- تزايد سماسرة الأعضاء البشرية: ينشط في تجارة الأعضاء البشرية سماسرة يعملون في سوق سوداء كوسطاء بين الطرفين، ينتحلون صفة صحفيين أو عمال إغاثة أو ناشطين في منظمات مدنية، والذين يتواجدون في المواقع الإلكترونية والمؤسسات العلاجية والمقاهي الشعبية، وربما يحملون تخصصات في أعضاء بعينها، حيث يجهزون “المتبرع” ويقومون باختيار عينات التحاليل وحجز تذاكر السفر (في حالة السفر للخارج)، وتسديد المبالغ المالية لبائع أعضائه وتوقيع تعهدات إجراء العملية الجراحية.

نقاط اشتعال:

2- تصاعد حدة الصراعات الداخلية العربية: تتزايد تجارة الأعضاء البشرية في بؤر الصراعات المسلحة العربية المشتعلة، وهو ما يبدو جليًّا على الحدود التركية- السورية، والسورية- العراقية، والعراقية- التركية، واللبنانية- السورية، والسورية- الأردنية، بشكل بلور جماعات مصالح تعمل في مجال الاتجار في الأعضاء البشرية، وبشكل خاص على الحدود السورية، حيث امتنعت القوات الداعمة لنظام الأسد عن تسليم جثث القتلى والمعتقلين، واكتفت بتسليم بطاقاتهم الشخصية.

ووفقًا لتصريح للدكتور حسين نوفل، رئيس قسم الطب الشرعي في جامعة دمشق ورئيس الهيئة العامة للطب الشرعي، لبعض وسائل الإعلام في بداية عام 2016، فإن حوالي 20 ألف عملية نزع أعضاء أُجريت منذ بداية الحرب في سوريا، خاصةً في مناطق بعيدة عن الرقابة الرسمية، وأضاف “أن غالبية هذه العمليات أُجريت في مخيمات اللجوء في لبنان وتركيا وغيرها من الدول المجاورة لسوريا”.

جغرافيا رخوة:

3- انتشار الحدود الجغرافية السائلة: واجهت بعض دول الإقليم منظومة تهديدات حدودية معقدة وثيقة الصلة بالتحولات الداخلية التي اجتاحت الإقليم عقب الثورات العربية، وخاصة مع عدم قدرة الأجهزة الرسمية على ضبط السيولة الحدودية، وبصفة خاصة عرقلة أو الحد من علاقات “جماعات المصالح” العابرة للخطوط الرسمية، حيث انتشر نمط الدولة الهشة والمتشرذمة وغير المسيطرة على أجزاء من أراضيها، بعد إضعاف أطر الدولة الوطنية والحكومات المركزية، وهو ما أتاح الفرصة لبروز الجماعات الخارجة عن القانون، وفي مقدمتها الجماعات المسلحة العابرة للحدود، والتي باتت بؤرة للجهاد والتهريب، ويأتي في مقدمتها العصابات المتخصصة في تجارة الأعضاء البشرية.

فعلى سبيل المثال، تسيطر المافيا المغربية على تجارة الأعضاء البشرية في شمال إفريقيا من خلال ممرها الرئيسي، مضيق جبل طارق، وتقيم مراكز لها على حدود المغرب وتونس والجزائر، وتتخذ من البحر سبيلا للتهريب. كما فككت الشرطة العسكرية الجزائرية، منذ ما يقرب من ثلاثة أعوام، شبكة تجارة للأعضاء البشرية من الجزائر إلى المغرب يديرها أستاذ جامعي.

وتنفذ المافيا اللبنانية عملياتها في الاتجار بالأعضاء في مناطق الجنوب والبقاع والشمال اللبناني، إذ تمثل بيئة مغرية للشباب العاطل عن العمل المعرض للموت بسبب الصراعات، حيث يتم تهريب أعضائه من خلال مدينة صور الجنوبية إلى دمشق، نحو تركيا ورومانيا.

وهناك عصابات في سوريا تتعامل مع عصابات عربية ودولية للمتاجرة بقرنية العين، وتنتقل من دمشق إلى بعض الدول الأوروبية والآسيوية. كما ازدهرت تجارة الأعضاء البشرية في كردستان، خاصة بين النازحين إلى الإقليم، وتنتشر في مناطق عراقية أخرى مع المواجهات المسلحة والانفجارات المتتالية التي وقع على إثرها ضحايا عدة، ما أسهم في ازدهار تجارة بيع الأعضاء من خلال استفادة تلك المافيات من أعضاء الجثث المجهولة في معهد الطب الشرعي.

خزان الجهاد:

4- ضخ تمويلات للتنظيمات الإرهابية: تُعتبر تجارة الأعضاء البشرية أحد مصادر تمويل التنظيمات الإرهابية، حيث تقوم عناصر “داعش” بالتعاون مع عناصر بعض جماعات المصالح في بعض الدول في الإقليم مثل تركيا بتوفير أعضاء بشرية بمواصفات وكميات معينة، ويقوم كوادر “داعش” باستئصال تلك الأعضاء، سواء من الذين يقعون في الأسر أو من جثث القتلى والجرحى الذين يسقطون جراء العمليات العسكرية، سواء من مقاتليهم أو من الأطراف الأخرى في الصراع، لا سيما بعد تصاعد حدة ضربات التحالف الدولي على مقاتليه.

ويتم بيع الأعضاء البشرية في السوق السوداء، خاصةً بعد تقلص مصادر تمويله من مراكز استخراج النفط. وقد برزت عمليات بيع الأعضاء البشرية بعد عثور قوات التحالف الدولي خلال عام 2015 في إحدى الغارات الجوية التي نفذتها في سوريا على وثائق وفتاوى للتنظيم يجيز فيها أخذ أعضاء بشرية. كما قال السفير العراقي لدى الأمم المتحدة محمد علي الحكيم في كلمته أمام مجلس الأمن، في 18 فبراير 2015، أن “تنظيم داعش يستخدم الاتجار في الأعضاء البشرية كمصدرٍ للدخل في العراق، وأقدم على قتل الأطباء الذين رفضوا التعامل معه”، حيث تنصتت الحكومة العراقية على اتصالات لكوادر التنظيم كان يتم فيها تلقي طلبات للحصول على أعضاء بشرية، وبعض الجثث التي تم العثور عليها كانت مشوهة وبعض أعضائها مفقودة.

أوضاع ضاغطة:

5- احتدام الأزمات الاقتصادية والضغوط المعيشية: وهو ما يدفع فئات داخل المجتمعات في الإقليم إلى بيع أعضائها البشرية، وقد تعاظم دور المافيات المحلية في العراق بسبب الأوضاع الداخلية الضاغطة، واستقطبت المزيد من الضحايا لبيع أعضائهم البشرية مقابل مبالغ مالية. كما أن بعض السماسرة يقومون بالذهاب إلى سكان مخيم البقعة، وهي منطقة شديدة الفقر في الأردن، للبحث عن الأفراد الذين يعرضون أعضاءهم البشرية للبيع، مع الأخذ في الاعتبار أن الغالبية منهم يجهلون انعكاسات ذلك على صحتهم. ولذا باتت تجارة الأعضاء البشرية، في رؤية اتجاهات عديدة، أكثر ربحًا وأمنًا من تجارة المخدرات والأسلحة.

6- ضعف الأطر القانونية الناظمة لنقل الأعضاء البشرية: تعززت تجارة الأعضاء البشرية وسط غياب أو ضعف أو قصور لوائح وقوانين خاصة بالاتجار في الأعضاء البشرية، وهو ما ينطبق على العديد من الدول العربية التي لا تعترف إلا بالتبرع وتناهض البيع. لذا أصبحت عمليات البيع والزرع من المتبرع إلى المريض تُدار من خلف الستار، أو ما يطلق عليه “بيع تحت مسمى التبرع” نظرًا لما تنطوي عليه من مخالفات قانونية ومخاطر صحية.

فعلى سبيل المثال، فإن القانون اليمني لا ينص على تجريم الاتجار بالأعضاء البشرية، ما يدفع القضاة للإفراج عن بائعي الكلى. وقد اعترفت الحكومة اليمنية، في عام 2012، لأول مرة بانتشار ظاهرة الاتجار بالأعضاء البشرية بعد قيام عصابات بتهريب يمنيين من داخل البلاد إلى مصر بغرض المتاجرة بأعضائهم، وكذلك الحال في دولة مثل العراق.

تجارة علنية:

7- محدودية أدوار جهات الرقابة الحكومية: تنتشر عمليات الاتجار بالأعضاء البشرية بسبب عدم وجود رقابة مشددة في المستشفيات، إذ يتم إجراء العمليات فيها وفق مبدأ شخص مريض وآخر متبرع. فضلا عن انعدام الرقابة الأمنية في حالة بعض المناطق داخل سوريا بحيث صارت تجارة علنية، على نحو ما تعبر عنه الملصقات المنتشرة في بعض الشوارع السورية وأمام المؤسسات الحكومية، والتي تطلب “متبرعين بالكلى”، الأمر الذي يشير إلى أن الهدف هو ضمان مشاهدة أكبر قطاع من المواطنين للإعلان، دون أية رقابة.

سياحة الأعضاء البشرية:

8- تأثيرات جماعات المصالح الدولية: حذر تقرير صادر عن البرلمان الأوروبي، في عام 2015، من دور أثرياء الدول الأوروبية، خاصة في دول شرق أوروبا وكوسوفو، في تسهيل ورواج هذه التجارة. وعلى الرغم من أن مصدرها أشخاص في دول إفريقية وآسيوية (خاصة الصين والهند وباكستان)، إلا أنها تتفاقم داخل أوروبا، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك سياحة للأعضاء البشرية يستفيد منها عدد من المرضى التونسيين الأثرياء الذين يتوجهون إلى دول أوروبية لشراء أعضاء بشرية وزرعها. في حين تُعد مصر من الدول التي تنتشر فيها سياحة زرع الأعضاء، أي مجيء أجانب للسياحة، وقيامهم بعمليات زرع أعضاء بعد شرائها عن طريق سماسرة.

سياسات المواجهة:

هناك عدد من السياسات التي تُسهم بدرجات متفاوتة في الحد من تجارة الأعضاء البشرية في دول الإقليم على النحو التالي:

1- التنسيق المستمر بين أجهزة الدولة لتتبع عمليات الاتجار بالأعضاء البشرية: على نحو ما فعلته الأجهزة الأمنية والرقابية والعلاجية في مصر للقبض على أكبر شبكة دولية في مصر في 6 ديسمبر 2016.

2- إشاعة ثقافة مجتمعية من شأنها التبرع بالأعضاء بعد الوفاة: وذلك عبر إطلاق حملات في مواقع التواصل الاجتماعي في دولة مثل المغرب، تحمل اسم “مغرب الإنسانية” بهدف ترسيخ قيم وثقافة التبرع لدى المغاربة، وتشجيع المواطنين على تسجيل أسمائهم في سجلات المانحين بعد الوفاة.

3- بلورة أطر تشريعية ومظلات قانونية: بهدف مواجهة حالات الاتجار بالأعضاء على نحو ما حدث من مصادقة البرلمان المغربي على قانون ينظم التبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية، ويحمي المتبرعين، ويسمح لهم بالتبرع في حالات خاصة لحماية نموهم وسلامتهم.

4- تطوير أطر الرقابة الداخلية في المؤسسات العلاجية: من خلال تشكيل مجلس أخلاقيات طبي واجتماعي يضم في عضويته أطباء متخصصين، وقضاةً، وممثلي المجتمع المدني لتولي الإشراف على مثل هذه العمليات في المستشفيات والمصحات المرخصة والمحددة بقانون ومراقبة التزامها بتطبيق شروط ومواصفات فنية وتقنية.

5- التعويل على دور مؤسسات المجتمع المدني في التوعية بأهمية المواجهة الشاملة: خاصة بعد ورود شكاوى من مواطنين تضرروا من فقدان تلك الأعضاء، مثل دور جمعية “حركة أطباء ضد الفساد” في تونس.

خلاصة القول، تحولت الأجساد في بعض دول الإقليم إلى سلع. غير أن هذه العوامل السابقة تساهم في مواجهة العقبات التي تقف في مواجهة قانونية زراعة الأعضاء ونقلها، كما أن زيادة توافر الأعضاء المعروضة للتبرع أو البيع بطريقة شرعية سيؤدي إلى تأسيس علاقة أكثر إيجابية في سوق زراعة الأعضاء، ويحول هذه التجارة إلى سوق رسمية دولية، تتحدد أسعارها وفقًا للعرض والطلب.

مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة