سقوط حلب هدية كبيرة لـ”داعش”

سقوط حلب هدية كبيرة لـ”داعش”

كان لدى أبو بكر البغدادي، “الخليفة إبراهيم” لما تدعى “الدولة الإسلامية”، أسبوع ممتاز في الأسبوع قبل الماضي.
لم يشكل سقوط حلب في يد مجموعة من الميليشيات التي شكلتها إيران والمدعومة بقوة جوية روسية وقوات خاصة مجرد انتصار عالي الصوت لدمشق، وإنما كان انتصاراً أكثر هدوءاً لتنظيم “داعش” الذي شن هجوماً مباغتاً مكنه من معاودة احتلال مدينة تدمر السورية القديمة.
وما كانت المفارقة لتكون إثباتاً أكثر بشكل صارخ لواحدة من العبارات المجازية الدعائية الأطول عملاً لمجموعة “داعش”: إن “الكفار” و”المرتدين” لن يفعلوا شيئاً لإنقاذ العرب السنة من السلب والنهب والاغتصاب وقنابل البراميل الروسية والعلويين والشيعة. لكن سقوط حلب يدعم أيضاً واحداً من الادعاءات الأقل متابعة، والتي كان قد قالها الناطق السابق بلسان “داعش”، أبو محمد العدناني، قبل وقت قصير من مقتله.
في أيار (مايو)، قبل أشهر من القضاء عليه بضربة جوية أميركية، أصدر العدناني ما تبين أنه بلاغ أو بيان أخير، والذي يدحض الانتقاد السُّني العام لـ”داعش”، وتحديداً القول إن استيلاء المجموعة على بلدات ومدن سنية بلا تمييز قد جلب الكوارث وحسب: شاهدوا الفلوجة والرمادي فحسب. ومع ذلك، لم تكن هذه الكوارث بالنسبة للعدناني نتيجة لخطأ ارتكبه “داعش”، كما اكتشفت المؤسسات الجهادية المنافسة.
قال العدناني: “لو عرفنا أن أياً من السلف الصالح سلّم مساحة أرض للكافرين، مستخدماً الادعاء بالدعم الشعبي أو لإنقاذ المباني من تدميرها أو لمنع سفك الدماء أو أي مصلحة مزعومة، لكنا قد فعلنا مثل قاعدة الحمقى لما يسمى الأمة” -الصمود وحده حتى في وجه العاديات الجامحة كفيل باستعادة عزة وكرامة السنة.
بفضل بشار الأسد وفلاديمير بوتين وآية الله علي خامنئي -ناهيك عن ذكر باراك أوباما- سيصبح العدناني الآن وكأنه صاحب نبوءات صادقة بعد وفاته. فبدلاً من الموت دفاعاً عن حلب، فاوض الجيش السوري الحر (وداعموه الغربيون) -بالإضافة إلى الإسلامويين المنافسين أو المجموعات الجهادية مثل جبهة فتح الشام التابعة لتنظيم القاعدة في سورية- على شروط استسلامهم عبر سلسلة من اتفاقات “وقف إطلاق النار” وعمليات الإخلاء التي هي في الحقيقة نقل إجباري للسكان. وكانت حلب ما تزال تتعرض للسحق والتدمير.
سوف تتفاقم الخسارة بفعل السياق الطائفي. وقد سقطت حلب في أتون ما وصفه جيداً مراسل مجلة “دير شبيغل” الألمانية، كريستوف رويتر، بأنه “أول جهاد شيعي دولي في التاريخ الحديث” بقيادة جهاز الحرس الثوري الإيراني، والذي ويعول بشكل كبير على خليط من مقاتلي حرب العصابات من أفغانستان وباكستان ولبنان والعراق. وهذا على وجه التحديد ما أراده أبو مصعب الزرقاوي، الأب المؤسس لـ”داعش”. وكان ذات مرة قد وصف الشيعة بأنهم “العائق غير القابل للتغلب عليه والثعبان المتسلل خلسة والعقرب الشيطاني الماكر والعدو الكامن والسم اللاذع… ومن يستغل الوقت للنظر بحذر إلى الوضع، سوف يدرك أن الشيعة هم الخطر الأكبر الذي يهددنا والتحدي الفعلي الذي يجب علينا مواجهته والتصدي له”. وقد تمثلت الطريقة الوحيدة لمواجهة هذا العدو في العراق في تصوير السنة على أنهم بلا أمل أكثر بحيث أنه إذا قام أحد بمهاجمة الشيعة، فإنهم يثأرون بمهاجمة السنة الأقل عدداً.
في سورية، تعتبر فرضية الزرقاوي أكثر صلة؛ حيث إن البلد فيه أغلبية سنية، وهو راهناً خاضع لاحتلال تمارسه أقلية. وبمثل سوء الانهيار المادي للقلعة الرمزية لثورة سورية، ما يزال الأسوأ هو النزعة الانتصارية الشوفينية التي تواكبها، والتي تصب مباشرة في استراتيجية الزرقاوي.
من ناحيتها، بثت حركة حزب الله النجباء، وهي واحدة من الميليشيات العراقية، والتي اتهمتها الأمم المتحدة بقتل 85 مدنياً، بمن فيهم نساء وأطفال، أغنية على قناة تلفزيونية عراقية تابعة لها تقول “حلب شيعية”.
في خطبته يوم الجمعة في طهران، أعلن آية الله محمد إمامي كاشاني عن “تحرير” المدينة من “الكفار” -مستخدماً بدرجة أو بأخرى نفس لغة التحريض الطائفي التي يحتفظ بها “داعش” لنظراء كاشاني في الدين. وفي هذه الحالة، أعلنه رجل الدين أن كل الـ150.000 سني الذين كانوا تحت الحصار لأشهر في شرق حلب والذين تم إخراجهم من منازلهم لا إله لهم. وكان يجب يجب أن يكون مدركاً للتداعيات الدائمة لهذه اللعنات.
قوبل الاستفزاز الخطابي أيضاً لنوع مرئي من الخطاب. وثمة صور تم تداولها في وسائل التواصل الاجتماعي وهي تظهر قاسم سليماني، سيد التجسس الإيراني ورئيس قوة القدس التوسعية التابعة لجهاز الحرس الثوري الإيراني، وهو يدوس على الركام في حلب في لا لبس فيه لمن هو الطرف المسؤول في الحقيقة عن الحصار واستعادة المدينة. (بشار الأسد، السيد الإسمي لـ”كل سورية” لا يظهر في أي مكان في ميدان المعركة المُفرغ والمحتل إيرانياً). ويمكن لأي من هذه الصور أن تظهر بسهولة على العدد المقبل من مجلة “الرومية” الدعائية التابعة لـ”داعش”.
وهناك مسبقاً أشرطة فيديو لأطفال سوريين يتعهدون بالعودة واستعادة حلب عندما يكبرون ويشبون عن الطوق. وثمة طفل اتهم الثوار بخيانة حلب بانقساماتهم، وحثهم على الاتحاد والأخذ بالثأر. لكن المطاف قد ينتهي بهؤلاء الوكلاء المرجحين للانتقام وقد أصبحوا الجهاديين المتشددين الذين تدعي الحكومة الأميركية راهناً أنهم خسروا 50.000 عنصر جاهز للقتال في آخر سنتين ونصف السنة من الحرب. (كان أول تقييم لوكالة الاستخبارات الأميركية “السي آي إيه” لنظام المعركة، في العام 2014، قد قدرهم بما يتراوح بين 22.000 و30.000 مقاتل، ولذلك يجب أن نكون الآن أمام الأعداد “السلبية للدولة الإسلامية”، كما قال لنا عقيد في الجيش الأميركي).
مهما يكن ما يتبقى من قلاع “داعش”، وفإن هناك الآن بضعة آلاف يحتفظون بالأرض في الموصل، حيث توقفت العملية بقيادة الولايات المتحدة والعراق لتحرير تلك العاصمة المناطقية، وحيث منيت 50 في المائة من قوة النخبة العراقية لمحاربة الإرهاب، الفرقة الذهبية، بالخسائر. وهي كتائب مختلطة من الجنود النظاميين المحترفين -سنة وشيعة ومسيحيين- التي تقوم بتنفيذ المهمة الثقيلة ضد “الخلافة”. وإذا استمر هذا المعدل من الاستنزاف، سوف يتم اعتبار الفرقة الذهبية غير فعالة في القتال خلال شهر. ومن شأن ذلك إما أن يضع المعركة من أجل الموصل برمتها قيد التأجيل لأجل غير مسمى، أو يجبر بغداد على التعويل على وحدات أقل موثوقية، مثل الشيعة الذين أصبحوا مؤخراً الأذرع الرسمية للدولة العراقية.
في الأثناء، استطاعت مجرد فرقة صغيرة مما يتراوح بين 50 و200 مقاتل من “داعش” مباغتة محور الأسد- بوتين– خامنئي في مدينة تدمر، في الوقت نفسه الذي كان فيه شرق حلب يتعرض لهجوم من هذا المحور.
كما ذكرت مجلة “الديلي بيست” مستشهدة بمصادر موالية للنظام، فقد لقيت عملية عودة “داعش” السريعة إلى المكان نفسه الذي كان قد هزم فيه، لقيت تسهيلات باستخدام الرشوة. وبدا أن الجهاديين قدموا رشوة لقائد فاسد في قوات الدفاع الوطني، وهي مليشيات بالوكالة بنتها إيران، فأدار ظهره والتفت إلى الجهة الأخرى عندما بدأ الهجوم المباغت. ووفق خالد الحمصي، وهو مواطن من المدينة يتتبع عن كثب التطورات هناك، فقد انسحبت كل القوات العسكرية الروسية قبل أيام قليلة من بدء هجوم “داعش” المباغت على المدينة، ربما للتوجه إلى حلب. وثمة تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” يعزز هذا الادعاء بعض الشيء، مؤداه أن عدة مئات من القوات الروسية الخاصة “سبيتناز” -وهي وحدات مشابهة لتلك القوات التي انتشرت في القرم للاستيلاء عليها بشكل غير قانوني- انتشرت في الميدان في حلب منذ أسابيع حيث، وفقاً لكلمات مؤسسة فكرية متخصصة تتخذ من موسكو مركزاً لها، “أخذت دورا قتالياً”.
فندت عملية إعادة احتلال تدمر كذب ائتلاف الأسد الذي يقول إن التركيز كان منصباً على قتال أسوأ المتطرفين في سورية. لكنها قادت إلى إعادة تأهيل تنظيم متوحش دموي في الخيال الشعبي، بعد أن كانت مكانته المتراجعة مرتبطة بخسرانه الأرض. وقد بدأ أعداء “داعش” بالابتهاج ليس من أجل “الخلافة” في حد ذاتها، وإنما لأي هزيمة تلحق بالأسد وبإيران وروسيا.
يقول الإعلامي المعروف جيداً في قناة الجزيرة، فيصل القاسم، الذي بغير ذلك كان ليصر على أن “داعش” ونظام الأسد متواطئين مع بعضهما، إنه يرغب في رؤية أن تتبع كل هزائم النظام “المرتبة” على يد “داعش” سيناريو مشابه مثلما حدث في تدمر، حيث فقد تحالف الأسد مئات من الجنود. وقد تحولت المعارضة السورية، التي تتشاءم عادة من مكاسب “داعش”، إلى الاحتفاء بهذه المكاسب!
من جهته، وصف صالح الحموي، القائد السابق في جبهة النصرة، الاسم السابق لفرع القاعدة في سورية، ما حدث في تدمر بأنه أمر جيد بشكل لا لبس فيه. وأرسل الحموي تغريدة على تويتر يوم 11 كانون الأول (ديسمبر) الحالي، اليوم الذي أعاد فيه “داعش” احتلاله لتدمر، والتي قال فيها: “التقط الثمرة وامض قُدماً”. وأضاف: “لا تبحث عن التفصيلات”. وقال الصحفي السوري المرموق موسى العمر في تغريدة له على تويتر تعكس عاطفته: “أي ضربة ضد النظام أو انسحاب له يعتبر جيداً للثورة الآن”.
وكان أبو بكر البغدادي قد حذر في خطبة تنصيبه في المسجد في الموصل في تموز (يوليو) 2014 بالضبط من هذه الحالة الطارئة. وقال أن المسلمين السنة يتجمعون صفا ضد مؤامرة كونية ضخمة جداً بقيادة الولايات المتحدة وروسيا، وبدعم من إيران والشيعة. وفي المقابل هناك خادم حقيقي أو حام لهذا المجتمع المُحارب: الخدم المستقلون والمعتمدون على أنفسهم للخلافة. وليس هناك بديل أو “معسكر ثالث”.
من الصعب أحياناً إدراك متى تنتهي نظرية المؤامرة هذه ومتى تبدأ السياسة الخارجية الأميركية. وكان الجنرال في الجيش الأميركي، ستيفان تاونسند، وهو قائد الائتلاف المعادي لـ”داعش” قد سخر صراحة في مؤتمر صحفي من الحكومة الروسية في الأسبوع الماضي، قائلاً في إشارة إلى تدمر: “لقد خسروها… واعتقد أن أمر استعادتها ربما يعود إليهم”. وأضاف تاونسند أن “داعش” بدا وأنه استولى على “بعض العربات المدرعة وعلى أسلحة مختلفة وأسلحة ثقيلة أخرى، واحتمال أن يكون قد استولى على بعض معدات الدفاع الجوي”. وأضاف أنه إذا لم يستطع الروس تدمير هذه المواد، فإن باستطاعة الائتلاف فعل ذلك. وهذا ما فعله، حيث نسف 14 دبابة ونظام مدفعي للدفاع الجوي وغير ذلك من المعدات الثقيلة. هكذا يرى العديد من السنة أن الولايات المتحدة تقوم بالتنظيف وراء جماعة الأسد بينما تترك حلب لمصيرها القاتم. وهكذ يفعل رجل دين شيعي فطن.
يبدو الأمين العام السابق لحزب الله، الشيخ صبحي الطفيلي، واعياً جداً لسفك الدماء الطائفي الذي سبق، وهو متأكد من أنه سيأتي في أعقاب كارثة حلب. ومشبهاً المدينة بكربلاء، موقع أفدح المآسي الشيعية، أنحى الشيخ الطفيلي خلال خطبة الجمعة في الأسبوع الماضي، باللائمة على الأسد وروسيا وإيران وحملهم مسؤولية “ذبح آلاف المسلمين” بالتواطؤ مع الأميركيين. وتساءل مستنكراًً: “كيف نستطيع تفسير الدمار وانتشار النار والقنابل التي تسقط فوق حلب وتقتل كل أولئك في المدينة، بينما في صحراء تدمر يهاجم المتشددون الجيش السوري ويسيطرون على المدينة في وضح النهار. كيف نفسر هذا؟” وقال: “نسمح للدولة الإسلامية بأن تزدهر وأن تهاجم معارضة أصيلة بحيث لم يعد يوجد أحد سوى النظام -النظام نفسه الذي ذبح أمة محمد- وداعش، ثم نقول اختاروا: هل تفضلون داعش أم بشار؟”
كانت مناورة الزرقاوي الكبيرة تقوم على وحشنة وشيطنة السنة ودفعهم إلى تحالف ضروري في حربه المقدسة. وبمسح غنائم الأسبوع قبل الماضي، ما يزال لدى شبحه سبب للابتسام.

مايكل ويس وحسن حسن

صحيفة الغد