كيف ستنجو حلب والموصل من حروب اليوم؟

كيف ستنجو حلب والموصل من حروب اليوم؟

تفصل مسافة 300 ميل فقط بين الموصل في العراق، وحلب في سورية، المدينتان اللتان تظهران بكثافة في الأخبار في الأشهر الأخيرة. وهما الآن عرضة لهجمات منفصلة تقودهما الحكومات لاستعادة المدينتين من الفصائل المتمردة.
في عملية عسكرية بدأت في أواسط شهر تشرين الثاني (أكتوبر)، استولى ائتلاف من القوات العراقية، والميليشيات الكردية، تدعمه الولايات المتحدة، على بلدات وقرى في ضواحي الموصل التي ظلت تحت سيطرة وإرهاب مجموعة “داعش” الإسلامية المتشددة منذ صيف العام 2014. والآن، تشتبك هذه القوات في حرب استنزاف متواصلة من أجل استعادة السيطرة على أحياء المدينة. وفي حلب، طوق النظام السوري، مدعوماً بالضربات الجوية الروسية والميليشات التي ترعاها إيران، جيوب المتمردين في المدينة، وقصف المناطق المدنية من دون تمييز، ويبدو أنه أصبح أخيراً على أعتاب استعادة كامل المدينة.
لكن خطوط القصة مختلفة بين المدينتين. فقد اتخذت الحكومة العراقية خطوات للحد من الخسائر في صفوف المدنيين في هجومها على “داعش”. لكن ذلك لا ينطبق على القوات الموالية للرئيس السوري بشار الأسد، الذي عكفت قواته على تفريغ لا يرحم لمدن البلد في حرب أهلية دموية تدخل الآن عامها السادس.
لكن هناك الكثير أيضاً مما يربط أقدار الموصل وحلب. فبينما ينجلي غبار المعركة، نشاهد صور الدمار في اثنتين من أكثر مدن الشرق الأوسط تاريخية. وقد تعرضت آثار النمرود القديمة التي تعود إلى ما قبل العصر الإسلامي على ضفاف نهر دجلة بالقرب من الموصل، للتفكيك المنهجي والنهب على يد المتشددين الإسلاميين الذين قاموا أيضاً تفجير المواقع الإنجيلية في الموصل. كما أن المدينة القديمة في حلب، التي كانت ذات مرة واحدة من أبرز المواقع السياحية في الشرق الأوسط، والمشهورة بأسواقها وقلعتها التي يعود تاريخها إلى العصر الوسيط، أصبحت مدينة أشباح من الركام والخراب.
حجم الدمار في المدينتين التاريخيتين تقشعر له الأبدان، بالنظر إلى حجم التاريخ الذي سبقه. وكانت هاتان المدينتان قد صمدتا وتمكنتا من النجاة على مدى قرون من الحروب والغزوات والحصارات والاستسلام.
في القرن الثاني عشر، كتب الرحالة الأندلسي ابن جبير عن حلب: “فكم هاجت من كفاح، وسُلَّ عليها من بِيض الصفاح”؟ لكن ابن جبير رأى، حتى في ذلك الزمن في حلب -المدينة المسورة الواقعة على الخطوط الأمامية للحملات الصليبية- نوعية فريدة من المرونة والمقاومة وقدرة الصمود: “قد طاولت الأيام والأعوام، ووسِعت الخواص والعوام، أين أمراؤها الحمدانيون وشعراؤها؟ فني جميعهم، ولم يبق إلا بناؤها. فيا عجباً لبلاد تبقى ويذهب ملاكها، ويهلكون ولا يقضي هلاكها”.
يمكن تعقب أصول الموصل وحلب وراء إلى آلاف السنين في منطقة عُرفت منذ وقت طويل بأنها مهد الحضارات. وعلى عكس المدن الأخرى التي ظهرت كمراكز دينية، مثل القدس، أو معاقل للسلطة السياسية، مثل دمشق وبغداد، كانت الموصل وحلب أولاً وقبل كل شيء مركزين عظيمين للتجارة.
ولا يعني هذا أنهما كانتا في مأمن من الصراع. كانت هاتان المدينتان لفترة وجيزة موحدتين تحت حكم سلالة تركية قادت معركة المسلمين ضد الحملة الصليبية الأولى. ثم عانتا في وقت لاحق من النهب والحروب التي لا ترحم على يد اللصوص المغول. وأثار تمرد في الموصل في القرن الثالث عشر ضد المحتلين المغول رد فعل تقشعر له الابدان من أمير الحرب سيئ السمعة، هولاكو خان: فبعد أن قام بإخضاع الثورة، ربط زعيمها وعلقه في كيس من جلد الغنم وترك الرجل ليتعفن، حرفياً، في الشمس حتى الموت، بينما تأكله الهوام والحشرات حيا.
وفي العام 1400، قام الفاتح المغولي تيمور، المعروف أيضاً باسم تيمورلنك، بنهب حلب. ووصف أحد الرواة وحشية الغارة، فقال: “مثل الموسى على الشعر”، و”الجراد على المحاصيل الخضراء”. كما ذكر آخرون تفاصيل الذبح الجماعي للسكان المدنيين الذين كانوا يختبئون في جوامع المدينة والاغتصاب الوحشي للنساء،. وقد امتلأت الشوارع “برائحة الجثث”. وكدس تيمورلنك، كما تقول الروايات، كومة من آلاف الجماجم خارج بوابات حلب.
مع ذلك، نجت المدينتان، بما في ذلك مواقعهما التاريخية العظيمة، وازدهرتا، ووصلتا ذروتيهما عندما شكلتا نهايات رئيسية لطريق الحرير في عهد الإمبراطورية العثمانية. وفي الغرب، كانت الموصل مرادفاً لسلع الشرق، حتى أن الحرير الناعم الذي صنعه النساجون فيما أصبح اليوم بنغلاديش، كان يعرف في أوروبا باسم “الموسلين”، وهو اسم مشتق من الموصل. وكانت حلب مشهورة جداً، حتى أن الساحرات عندما تحدثن عن زوجة بحار في مسرحية شكسبير، “ماكبث”، قلن –زوجها ذهب إلى حلب، سيد النمر”- ومن المفترض أن يكون المشاهدون في ذلك الوقت على معرفة بثروة ومباهج هذه المدينة الغريبة. وفي مسرحية “عطيل”، يستحضر شكسبير حلب كنقطة التقاء صاخبة لحضارات العالم وشعوبه.
أقام في المدينتين سكان من أغلبية سُنية، وإنما قطنتهما أيضاً أقليات يعتد بها من المسيحيين واليهود، وكذلك خليط عرقي مذهل من العرب والتركمان والأكراد والأرمن وغيرهم. وكان التنوع جزءا أساسياً من تعريف شخصية المدينتين. وكان التعايش –وليس الصراع الطائفي- هو العرف السائد فيهما لمعظم فترات التاريخ.
يقول فيليب مانسِل، المؤرخ ومؤلف كتاب “حلب: صعود وأفول المدينة التجارية العظيمة في سورية”: “لقد كانت في الحقيقة مدينة عثمانية، آخر مدينة مختلطة، حيث كانت العلاقات جيدة جداً”. وقال أن العنف الطائفي لم يكن مألوفاً في حلب في عصر الحكم العثماني. وكتب: “على مدار بحثي، وجدت فقط صراعاً واحداً نشب بين المجتمعات في العام 1850، وواحداً آخر في العام 1919، لكنه كان عمل شغب أصغر”.
عندما قسمت القوى الأوروبية تركة الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، سعت فرنسا إلى حيازة كل من الموصل وحلب –المدينتين ذاتي التواريخ والثقافات المتصلة- لتكونا جزءا من محميتها. لكن مصالح النفط وسياسات القوة الإقليمية شهدت أخيراً بريطانيا وهي تنتزع الموصل وتربطها معاً إلى جانب المحافظتين العثمانيتين القديمتين، البصرة وبغداد، لخلق الأمة التي أصبحت تعرف الآن باسم دولة العراق. وقام الفرنسيون بإلحاق حلب بدمشق وظلت الحاضرة الأخرى في سورية، وعاصمة تجارية مبعدة دائماً بعض الشيء عن المركز السياسي.
جاء تفكيك هذين المجتمعين في العراق وسورية نتيجة للسياسات الحديثة. فقد عملت الحروب النازعة للاستقرار والحكم البائس على خلق الفراغ الأمني والتمردات المتطرفة التي أصبحت تطارد الآن هدأة المنطقة. ووضع الحكم ضيق الأفق في كل من دمشق وبغداد الأسس للتفكك الحالي، الذي شهد القسم الأكبر من سكان المدينتين وهم يصبحون نازحين ولاجئين بسبب الصراع. وعندما ينتهي القتال في الموصل وحلب، سوف تكون إعادة بناء ما ضاع صراعاً أكبر وأكثر شراسة.

إيشان ثارور

صحيفة الغد