تعايش الحد الأدنى: هل تصلح “المصالحة الصامتة” لتجميد نزاعات الشرق الأوسط؟

تعايش الحد الأدنى: هل تصلح “المصالحة الصامتة” لتجميد نزاعات الشرق الأوسط؟

تشكل “المصالحة الصامتة” أحد المداخل التي قد يتم اللجوء إليها سعيًا للخروج من الأزمات المستعصية، خاصةً في البلدان التي تُعاني نزاعات مسلحة واضطرابات عنيفة، مثل منطقة الشرق الأوسط. واشتُقَّت تلك الفكرة من أدبيات حل الصراع حول “السلام البارد” التي طرحها مايكل لوند، ومقاربات “التعايش” التي أسسها علماء، مثل: ديفيد كروكر، وتشارلز فيلا فيسينشيو، ومو بليكر. وهي تعني أن أطراف النزاع قد يتكيفون ويقبلون عمليًّا المساحة التي يشغلها كل طرف سلميًّا، دون أن يقوموا بالاستمرار في إيذاء أو محاولة تدمير الآخرين، أو أن يسعوا لمكتسبات جديدة عبر استهداف الآخرين مثلما كان يحدث في الماضي.

أي إن المصالحة الصامتة لا تشمل آنيًّا أي تطوير للعلاقات بين أطراف النزاع إلى ما هو أبعد كي تأخذ منحى تفاعليًّا إيجابيًّا يتيح تحقيق العناصر المفترض توافرها لإتمام مصالحة علنية تقليدية ناجحة. وبالتالي، يمكن النظر لهذه الفكرة على أنها مقاربة براجماتية وسيطة بين الاستمرار في النزاع المنهك للمتنازعين، أو اللجوء إلى مصالحة تقليدية علنية لما تحمله الأخيرة من تعقيدات وتبعات سياسية ذات كلفة، كما قد يكون اللجوء إلى المصالحة الصامتة خطوة تمهيدية لعملية مصالحة تقليدية حينما يكون الظرف السياسي والمجتمعي لاحقًا مُهَيَّأً لذلك.

ولهذا، فإن أمكن وضع فكرة المصالحة الصامتة -فيما أسماه المنظِّر مايكل لوند- بمنحنى النزاعات الممتد عبر مدى زمني، والذي يبدأ بالنزاع وينتهي بعملية السلام المستدامة، فإنها قد تقع في مساحة وُسطى بين هذا وذاك، أي في المرحلة التي يمكن وصفها بمرحلة بناء السلام أو إدارة الأزمة. (انظر الشكل التالي).

لماذا “المصالحة الصامتة”؟

عادةً ما يكون اللجوء إلى المصالحة الصامتة مرتبطًا بإدراك أمرين أساسيين: الأول أن أطراف النزاع ترى صعوبة أو استحالة الحسم العنيف للصراع على المدى القصير أو المتوسط، في ظل استمرار الإنهاك والخسائر والاستنزاف المتبادل. أما الأمر الثاني فيتعلق بعدم قدرة أطراف النزاع على تحمل تبعات المصالحة التقليدية الشاملة التي تتطلب كلفة عالية، مثل: الاعتراف السياسي، والمحاسبة على الجرائم المقترفة، وتقديم تنازلات سياسية كالاعتراف بالطرف الآخر، فضلا عن ضرورة وجود استعداد مجتمعي لفكرة المصالحة التقليدية، وأخيرًا توافر جرأة سياسية لقادة الأطراف المتنازعة للجلوس على طاولة التفاوض من أجل الخروج باتفاق سلام شامل ومستدام.

هذه الكلفة الكبيرة للمصالحة التقليدية الشاملة التي برزت في تجارب شهيرة، مثل جنوب إفريقيا بعد سقوط نظام الفصل العنصري، تبدو أهميتها في كونها عملية ديناميكية وشاملة تتيح الانتقال من الماضي العنيف إلى مستقبل مشترك، عبر عملية إعادة تشكيل وتصميم للعلاقات بين أطراف الصراع، من خلال مراحل معقدة وممتدة، تشمل ثلاثة عناصر رئيسية تتسم بالاعتماد المتبادل والتشابك فيما بينها، مثل: بناء منظومة للعدالة الانتقالية، والاعتراف بأخطاء الماضي، وكذلك المداواة، والتعويض الحقيقي أو الرمزي لضحايا الأطراف المتضررة.

من هنا، يبدو الفرق الجوهري بين فكرة المصالحات “التقليدية” وتلك “الصامتة” في كون الأخيرة لا تحتاج إلى العناصر الثلاثة سالفة الذكر، خاصةً حينما يكون الصفح أو الإدماج أو التنازل السياسي أو الاقتصادي أو العقائدي غير وارد، أو يحمل كلفة عالية لأحد الأطراف المتصارعة أو الطرفين معًا. كذلك قد يكون رفض الأطراف المتنازعة الدخولَ في عملية مصالحة علنية تقليدية ليس بدافع حسابات المكسب والخسارة فقط، بل كنتيجة لاتساع نطاق العداء والخصومة المجتمعية، وحالة عدم الثقة والحضور الطاغي لسلبيات الماضي.

بينما يكون لجوء أطراف النزاعات الداخلية العنيفة -ذات الدوافع المختلفة- إلى المصالحة الصامتة مدفوعًا بتصور متبادل حول أُفق النزاع وتبعات استمراره، فإن اللجوء إلى المصالحة الصامتة قد يكون نابعًا من أمرين:

أولا- قرار داخلي: ويكون نابعًا من إدراك أطراف النزاع الداخلية لصفرية المعادلة العنيفة، وعدم قدرة أي طرف على إلحاق الهزيمة بالخصم بشكل نهائي. وإدراك آخر وهو أن استمرارية النزاع تعني تواصل عملية استنزاف متبادل بما تخلفه تلك الاستمرارية من وقوع المزيد من الخسائر البشرية والمالية والعسكرية وربما السياسية التي تلحق بقادة الأطراف المتنازعة نتيجة عدم قدرتها على تحقيق مكتسبات أو تجنب المزيد من الخسائر، في ظل غياب أي أفق أو تصور لحسم قريب، وفي ظل صعوبة الإقدام على مصالحة تقليدية معلنة.

وحينما يكون الصراعُ الداخلي صراعًا سياسيًّا في المقام الأول، أي مقترنًا بصراع مباشر على السلطة أو شرعية الحكم، فإن اللجوء إلى المصالحة قد يكون مدفوعًا بإدراك براجماتي من الطرف المهيمن باستحالة أو صعوبة استقرار النظام السياسي الذي يهيمن عليه في ظل استمرارية الصراع، وإدراك الخصم باستحالة أو صعوبة إيجاد مساحة سياسية له عبر استمراره في ممارسة العنف.

ثانيًا- الضغط الخارجي: حيث قد تكون المصالحة الداخلية الصامتة نتاج تأثير وضغوط من أطراف خارجية تملك من النفوذ -بالمكافأة أو العقاب- ما يكفي للتأثير على الأطراف الداخلية، لا سيما إن كان لهذا النزاع الداخلي انعكاسات سلبية خارجية، أو كان تعبيرًا عن نزاع إقليمي أو دولي أكبر. وبالتالي، فإن ضغط الخارج على أطراف الداخل في سبيل تجميد النزاع قد يكون معبرًا عن رغبة القوى الخارجية في تفادي التداعيات الإقليمية والعالمية لاستمرار النزاع الداخلي، أو في إطار توافق أو تسوية مرحلية أو دائمة ما بين أطراف النزاع الخارجي الداعمة وصاحبة النفوذ على أطراف الداخل.

أنماط المصالحة الصامتة:

يُمكن اعتبار المصالحة الصامتة حالةً أدنى من فكرة المصالحة التقليدية المعلنة، أو خطوة تمهيدية لها عبر تجميد النزاع ووقف العنف. وكما يصنف مايكل لند السلام إلى سلام إيجابي وآخر سلبي، فإن المصالحة الصامتة -وفقًا لأنيلا أفزالي ولورا كوليتون- قد تأخذ هي الأخرى نمطين أحدهما سلبي والآخر إيجابي وفقًا لمدى ودرجة التعايش، وذلك على النحو التالي:

أولا- مصالحة صامتة سلبية: وهي تقوم على توقف أطراف النزاع عن ممارسة العنف والاستهداف المتبادل عبر اتفاق ضمني أو سري أو معلن، وقبول التعايش والوجود الاضطراري في نفس المساحة دون التحرك إلى ما هو أبعد من ذلك. وهكذا فقد تبدو المصالحة الصامتة السلبية أشبه بحالة سلام بارد بين أطراف الصراع أو هدنة مؤقتة أو وقف اعتداء، وقد تمتد لفترة قصيرة أو طويلة، أو قد تكون مجرد مرحلة لالتقاط الأنفاس يعمد فيها كل طرف إلى إعادة ترتيب أوراقه وبناء قدراته تحسبًا أو تجهيزًا للحظة اندلاع النزاع مجددًا.

وتُعد الحالة اللبنانية نموذجًا لفكرة المصالحة الصامتة السلبية والممتدة. فبعد سنوات طويلة من الحرب الأهلية التي استمرت قرابة 15 عامًا نجح المجتمع اللبناني وبرعاية خارجية في الوصول إلى اتفاق لتعايش الأطراف المتنازعة داخله، عبر محاصصة سياسية طائفية، وهو اتفاق لتعايش سارٍ حتى الآن، دون حركة بأطراف الصراع لما هو أبعد، حيث إعادة بناء العلاقات بشكل إيجابي، أو السعي لتحقيق العدالة في مواجهة ما مضى أو اعتراف بالحقيقة أو تعويض لضحايا الصراع. وهكذا، وإن كان المجتمع اللبناني -اليوم- لا يعاني من حالة نزاع عنيف مستمر، إلا أنه لطالما كان ساحة لتغذية الصراع عبر أطراف خارجية، وكثيرًا ما يُنظر إليه على أنه مجتمع مرشح للانفجار في أي لحظة حال احتدام الصراعات الإقليمية حوله.

ثانيًا- مصالحة صامتة إيجابية: حيث يكون الاتفاق بين الأطراف بوقف الاعتداء والإيذاء المتبادل خطوة نحو بناء علاقات إيجابية مستقبلية، تتسم بالتفاعل والاحترام والثقة والسعي لتطوير علاقات أكثر تجانسًا. وهكذا فقد تكون المصالحة الصامتة بمثابة خطوة أولية لبناء الثقة، وإعداد بيئة حاضنة تتيح لأطراف الصراع مساحة للمراجعة والتفكير في صياغة علاقة إيجابية أبعد، عبر مساحة للانضباط الشعوري والتفكير العقلاني من قبل أطراف الصراع، وإدراك عملي لجدوى السلام وما قد يترتب عليه من تعافٍ وازدهار مقارنةً بما يخلفه النزاع من أعباء وكلفة تدميرية باهظة. وهنا تبدو حالة رواندا نموذجًا، حيث النزاع الدموي الأشهر بين أغلبية الهوتو وأقلية التوتسي، والذي قُتل فيه 800 ألف شخص في مائة يوم عام 1994، ثم انتهى بوقف النزاع شهورًا أخرى بعد إدراك من أطراف الداخل -في ظل ضغوط خارجية- استحالة حسم النزاع عبر الاستمرار في ممارسة العنف. وقد أعقب وقف النزاع الداخلي أو تجميده مراحل أخرى لاحقة أُضيفت بعد الاستدامة على فكرة المصالحة وتحقيق السلام، عبر السعي لتحقيق العدالة، وكشف الحقيقة، والاعتراف بها، وعملية التعويض والمداواة. وهو مسار تم عبر مراحل لاحقة اعتمدت على النظام القضائي المؤسسي الداخلي والدولي، وآخر قضائي يحمل صورة عرفية عُرف باسم Gacaca court، وتأسيس لجان داخلية للمصالحة والوحدة، وهي إجراءات امتدت عبر عقدين تقريبًا، أغلبها في الفترة ما بين نوفمبر 1994 إلى يوليو 2012.

إشكاليات مصالحات الحد الأدنى:

تبدو أزمة المصالحات الصامتة في كونها عملية قد تكون مهددة بالهشاشة وعدم القابلية للاستمرار لافتقادها العناصر الرئيسية اللازمة لخلق حالة من السلام الممتد عبر تأسيس جديد للعلاقات بين أطراف النزاع. ولهذا فقد تصف بعض أدبيات حل الصراع هذا النوع من المصالحات بـ”المفرغة” مثلما عبر عنها الباحث ديفيد بلومفيلد، والتي لا تقود إلى عملية بناء سلام ممتد، وهو الجوهر الحقيقي لعملية المصالحة، إلى أن يتم ملؤها من قبل مستخدميها بمضمون يضعها على أول الطريق الصحيح. فيما تصفها أدبيات أخرى بـ”مصالحات الحد الأدنى Minimal Reconciliation”، أو بالنوع الرقيق “Thin” من المصالحات، كونها تشبه حالة تعايش غير قاتل “Non-lethal coexistence” وفق ديفيد كروكر، طالما لم تكن تلك المصالحات خطوة أولية تليها عملية بناء للثقة.

وتبدو أزمة المصالحات الصامتة في عرضتها الكبيرة للانحسار واستعادة حالة النزاع العنيف مجددًا نتيجة ما يلي:

(*) عدم القدرة على تجاوز سلبيات الماضي: فلما كانت عملية المصالحة تستهدف بالأساس الانتقال من حالة الماضي إلى مستقبل مشترك عبر تسويات قائمة على فكرة العدالة، والاعتراف والمداواة والتعويض لضحايا الصراع، فإن عدم تحقق تلك الشروط يترك الباب مفتوحًا أمام تجدد النزاع مرة أخرى في أي وقت تحت إرث سلبي من الماضي، حينما يكون صوت الضحايا والرغبة في الانتقام عاملا حاسمًا ومهددًا رئيسيًّا لتجدد الصراع في أي وقت.

(*) عدم اتفاق المتنازعين حول المصالح: فبينما تقوم فكرة المصالحة التقليدية على اعتراف وقبول متبادل معلن للمصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأطراف الصراع، فإن اللجوء إلى حالة تكيف أو تعايش دون وجود تسوية تضمن هذا الاعتراف تجعل من حالة التعايش بين الأطراف التي أنهكها الصراع لا تعدو أن تكون حالة هدنة مؤقتة غير قابلة للصمود حال تغير موازين القوة. إذ إن سعي أو امتلاك أحد الأطراف وسيلة تفوق جديدة تُصوِّر له أنه قادر على حسم الصراع باستخدام العنف أو الاستهداف، أو اعتقاد الطرف الآخر بأنه صار واقعًا تحت تهديد وشيك، تجعل أطراف الصراع في حالة تأهب وتسابق دائم لإعادة بناء القدرات من أجل تحقيق المزيد من المكتسبات أو صد الهجمات المحتملة، وهكذا يكون أقل مصدر للتوتر سببًا في تجدد النزاع في أي وقت.

(*) الامتداد الخارجي للنزاع، فحينما تكون النزاعات الداخلية ذات امتدادات خارجية، تبقى احتمالية التعايش الصامت بين أطراف النزاع الداخلي محل تهديد. ذلك أن هذا النوع من التعايش وفق منطق براجماتي نتيجة الإنهاك والاستنزاف المتبادل قد يتحول بين عشية وضحاها إلى مرحلة نزاع جديد، حال الدعم أو التحفيز الذي يمكن أن تقدمه الأطراف الخارجية لطرفي الصراع أو أحد أطرافه في إطار صراع إقليمي أو دولي أكبر، بما يُتيح تجدد الصراع، ويعزز طموح القوى المتصارعة الداخلية في إمكانية تحقيق مكاسب عبر العودة لحالة النزاع كوسيلة للحسم أو تطوير المكتسبات.

(*) غياب التجذر المجتمعي للمصالحة: لا يمكن الحديث عن مصالحات دون وجود ظهير أو قناعة مجتمعية لفكرة المصالحة، أو عمل من قبل النخبة على إيجاد هذا الظهير أو خلق تلك القناعة لدى المجتمعات المنقسمة، بما يوفر غطاءً شرعيًّا للنخب التي تتولى عملية التفاوض لتقديم التنازلات الضرورية لوجود مصالحة حقيقية ممتدة لاحقًا، ويحمي النخب المفاوضة من العزلة عن جمهورها وقواعدها، وبما يضمن كذلك تطبيقًا فعليًّا لفكرة المصالحة وإمكانية استمراريتها وتمتعها بحماية شعبية لا فرضًا نخبويًّا من أعلى.

غير أن الحالة الوسط التي تقوم عليها فكرة المصالحات الصامتة، وما تعبر عنه من حد أدنى للمصالحات التقليدية، قد لا تنتج بالضرورة تجذرًا أو قبولا مجتمعيًّا لوقف النزاع، كونها لا تتيح تسويات تضع في اعتبارها سلبيات الماضي ومصالح الحاضر، وهو ما يترك الباب مفتوحًا لتجدد الصراع في أي وقت من قبل قواعد وجمهور الأطراف المتصارعة مسبقًا حتى لو اتفقت النخب على العكس.

هل الفكرة ممكنة في الشرق الأوسط؟

في أعقاب الثورات العربية، خاضت بلدان الشرق الأوسط مسارات انتقالية شديدة التعقيد، جعلتها عرضة لحالة من عدم الاستقرار، وانزلقت ببعضها نحو حالة من الاقتتال والاحتراب الأهلي مثلما الحال في الساحات السورية والليبية واليمنية. وقد شهدت بعض هذه الساحات -خصوصًا الليبية واليمنية- محاولات الوصول إلى مصالحات وطنية علنية عبر أشكال مختلفة، من بينها إطلاق مؤتمرات للحوار الوطني، سواء تم ذلك بمبادرات داخلية أو بوساطة دولية.

غير أن هنالك مجموعة من العوامل التي عرقلت إمكانية الوصول إلى مصالحات وطنية حقيقية بناءة وشاملة، ومنها شكلية بعض المبادرات، والإخفاق في التوافق حول صيغ تشمل مصالح جميع الأطراف المنخرطة في الصراع السياسي، والظهور القوي للجماعات الإرهابية (مثل: تنظيم داعش، وفروع تنظيم القاعدة)، بالإضافة إلى الامتداد الخارجي للصراعات الداخلية، وتعبيرها عن صراع إقليمي ودولي أكبر، ومساعي القوى السياسية التقليدية أو الدينية لاستعادة النفوذ، وإقصاء الأطراف الأخرى، فضلا عن التجذر المجتمعي لحالة الاستقطاب السياسي والديني.

وما بين استمرار النزاع والإخفاق في الوصول إلى مصالحة وطنية، تأتي أهمية الحديث عن إمكانية إعطاء مساحة لفكرة “المصالحات الصامتة” كمرحلة وسيطة في نزاعات الشرق الأوسط، بما يقتصر عليه هذا النوع من المصالحات من وقف الاعتداء والتدمير المتبادل بين الفصائل المتنازعة، وكخطوة أولية دون الاضطرار الآني إلى الإقدام على خطوات أبعد، أو تقديم تنازلات سياسية كبيرة، في ظل تشدد مواقف الأطراف المتنازعة، وتعقد حدة الصراعات.

كما قد يُعطي ذلك مساحة لبناء الثقة بين الأطراف المتنازعة، بل وإعطاء فكرة المصالحة طابعًا مجتمعيًّا بما يمهد الطريق أمام إجراءات المصالحة التقليدية العلنية البناءة عبر عملية تفاوض وتوافق أو ربما مقايضة حول عناصر العدالة والتقصي، والكشف عن جرائم الماضي وعملية التعويض الحقيقي أو الرمزي لضحايا النزاع، والتعامل مع الأنظمة السابقة، وإجراء إصلاحات مؤسساتية.

ومن بين العوامل الميسرة لأن يأخذ خيار المصالحات الصامتة بُعدًا عمليًّا في منطقة الشرق الأوسط، استمرار النزاعات والاقتتال الأهلي في بلدان مثل سوريا واليمن وليبيا خلال السنوات الماضية، كاشفًا عن إنهاك أطراف الصراع المختلفة، واستنزافها دون أي إشارات لقدرة أي طرف منفرد على الحسم حتى لو حظي أحد أطراف النزاع بمكاسب مرحلية أو مؤقتة، وهو ما قد يخلق إدراكًا لدى أطراف الصراع الداخلي حول صعوبة الاستمرار في النزاع طمعًا في عملية حسم سياسي لصالح أي منها بشكل نهائي.

يأتي ذلك بالتوازي مع أزمات اقتصادية تواجهها القوى الإقليمية والدولية، ورغبات بعض الدول في سياسات انعزالية كما هو الحال مع صعود دونالد ترامب للرئاسة الأمريكية، بما قد يحد من قدرة الخارج على استمرار تغذية الصراع ماليًّا وعسكريًّا في بعض مناطق النزاع، وبما قد يدفع أطراف الداخل إلى أخذ خطوات نحو تجميد النزاع عبر الخوض في عملية أقل كلفة من المصالحة العلنية الشاملة بما تفرضه الأخيرة من صعوبات وتحديات واعتراف بتنازلات سياسية مكلفة.

لكن في المقابل، هنالك عراقيل للمصالحة الصامتة كمقاربة لوقف عنف الشرق الأوسط، وتجميد نزاعاته، ومنها أن حالة الانقسامات المجتمعية التي تشهدها بلدان المنطقة خلقت هويات اجتماعية متضادة دينية أو قومية أو قبلية تغذي استمرار الصراع، وتعيد إنتاج نفسها من خلاله، كما هو الحال في العراق وسوريا وليبيا واليمن، في ظل طموحات إقليمية ودولية قد تدفع دولا إلى أن تحافظ على تغذية الصراع حتى لو كان الأمر أكبر من طاقتها، بالإضافة إلى نجاح تنظيمات مثل داعش وفروع القاعدة في فرض وجود مؤثر داخل مناطق النزاعات.

عمرو صلاح

مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة