«العمال الكردستاني» وإعادة إنتاج الحرب الأهليّة

«العمال الكردستاني» وإعادة إنتاج الحرب الأهليّة

ازدادت في الآونة الأخيرة حدّة الخلافات الداخليّة الكرديّة بين حزب العمال الكردستاني وجناح من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني من جهة، والحزب الديموقراطي الكردستاني وجناح آخر من حزب الاتحاد الوطني من جهة أخرى.

لقد وصل التوتر في بعض المناطق إلى مستوى إهانة العلم-الرمز الكردي مرّات عدّة من قبل القوى المتحالفة مع حزب العمّال الكردستاني، وحرق مكاتب القوى السياسيّة المتحالفة مع الحزب الديموقراطي الكردستاني واعتقال ونفي قادتهم من روجآفا كردستان، كما وصل إلى قتل عنصرين من البيشمركة على يد القوات التابعة لذات الحزب في إيران، والقيام بمحاولات فصل قضاء سنجار عن كردستان العراق عبر تغذية الخلافات الدينيّة بين المسلمين والإيزيديّين الكرد، إضافة إلى تعزيز الانقسام بين منطقتي السليمانيّة وأربيل، وهو انقسام كان يبهت شيئاً فشيئاً منذ توقيع اتفاقية السلام في واشنطن بين البارزاني والطالباني وحتى الأزمات الصحيّة المتتاليّة التي أصابت الأخير وتسبّبت بتشتّت قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني.

إنّ ربط الوقائع السابقة بعضها ببعض، ومع التصعيد الإعلامي الذي تشنّه الآلة الدعائيّة للحزب المذكور، يوحي بأنّ الصراع السياسي الذي يخوضه حزب العمّال ضدّ الحزب الديموقراطي لم يعد يعرف «حدوداً». غياب هذه الحدود ينذر بأن ينحدر الصراع إلى حربٍ أهليّة حين لا تكون هناك موانع تعيق هذا الانحدار.

وبعيداً من إصدار أحكام قيميّة على الحروب عموماً، والحروب الأهليّة خصوصاً، فإنّ الطرف الأساسي الذي يسعى إلى اندلاع هذه الحرب يملك دوافع حقيقيّة، بغض النظر عن المبرّرات الوهميّة التي يقدّمها.

فاتّفاقيّة واشنطن التي قسّمت السلطة بين الاتحاد الوطني والحزب الديموقراطي في كردستان العراق تجاهلت حينها حزب العمّال الكردستاني، نتيجة أسباب موضوعيّة منها الموقف الأميركي من الحزب وصراعه في تركيا، ونتيجة أسباب تخصّ الحزب نفسه، حيث دخل تلك الحرب كحليف للاتحاد الوطني خلال معظم مراحل الصراع، وليس كطرف ثالث. أمّا اليوم فقد تغيّرت المعطيات، حيث أصبح حزب العمّال الكردستاني قائداً للجبهة، التي ينضوي تحتها جناح من الاتّحاد الوطني وحركة التغيير التي تعارض رئاسة إقليم كردستان. كذلك تغيّر الموقف الأميركي جذرياً، إلى الحد الذي ربّما لن يستطيع ترامب التراجع عنه، من القوّات الكرديّة في سورية على الأقل. هذا ما يسمح للعمال الكردستاني باعتبار نفسه «مغبوناً» من حيث موقعه في الوضع القائم بنتيجة الاتفاقيّة السابقة، ومحقّاً في المطالبة بوضع جديد يتّسق مع الموازين الجديدة للقوّة في عموم أجزاء كردستان. وحين تواجه بالرفض مطالب الحزب بتغيير الوضع القائم سلميّاً، فإنّ ذلك يدفعهم إلى اتّخاذ خيار أكثر تشدّداً قد يصل إلى إعلان الحرب، والتهديد بردٍ لا يقتصر فقط على التضييق السياسي على نفوذ البرزاني في روجآفا، ولا على عدم الاعتراف بنفوذه في كردستان العراق، بل يمتدّ عمليّاً إلى محاولة تهديد وجوده فيها من سنجار إلى مخمور وكركوك والسليمانيّة، وحتّى أربيل، عاصمة الإقليم، نفسها.

في المقابل، فإنّ الحزب الديموقراطي والقوى المتحالفة معه تملك أيضاً مخاوف حقيقيّة من الاعتراف بنفوذ حزب العمّال والقوى المتحالفة معه في روجآفا. فالدعم الذي قدّمه البرزاني في بداية صعود حزب الاتحاد الديموقراطي في روجآفا كان محورياً في تقوية نفوذ الحزب وإحكام سيطرته على المنطقة. وعلى رغم أنّ تقديم الدعم يعبّر عن علاقة «إيجابيّة» أكثر بكثير من مجرّد «اعتراف»، فإنّ مطالبات الحزب المذكور استمرت في التزايد وباتت تطالب القوى الأخرى بالاعتراف بسلطتها الشموليّة كما هي على روجآفا، وهو ما يتجاوز «المساواة» التي يُفترَض أنّهم يريدون الوصول إليها مقارنة مع طرفي اتّفاق واشنطن.

فبموجب الاتفاق الأخير، اضطرّ طرفا الصراع إلى قبول الديموقراطيّة، ولو بحدّها الأدنى، كوسيلة وحيدة لحل الصراعات السياسيّة، واضطرّوا إلى قبول دفع أثمان مرّة مقابل ذلك ومن دون أن يحاولوا الإخلال بالاتفاق، وكان منها صعود حركة التغيير وصعود الإسلام السياسي على حساب الحزبين الرئيسين، فيما تلك المنظومة تريد الحصول على سلطة كاملة ومطلقة، وتريد اعترافاً بها لا يحتكم للديموقراطيّة ولا يترك أيّ احتمال لمشاركة الطرف الآخر في حكم روجآفا، وذلك عبر التهديد بالتسبّب بحرب أهليّة جديدة.

هذا ما تعتبره القوى الأخرى ابتزازاً قد لا ترضخ له إلا بحدود ما تسمح به الاعتبارات الأخلاقيّة في السياسة، وهي حدود متدنيّة وهشّة عموماً، إن كانت موجودةً أصلاً في الحقل السياسي الكردي.

يمكننا منذ الآن رؤية جياد الحرب تلوح في الأفق، ويمكننا رؤية غبارها يخنق قيمنا وأرواحنا، ولا يبدو أنّ بديلاً سيتوفّر عن طحنها لنا إلا تنازلات يقدّمها الطرفان واحدهما للآخر، والأهم، تنازلهما للشعب الكردي عن قواهم المسلحة وتحييدها عن الصراع السياسي. فإن لم يكن هناك مصلحة حقيقيّة، وبالتالي «اهتمام» فعلي، للشعب في إيقاف الحرب فإنّها… ستندلع.

داريوس الدرويش

صحيفة الحياة اللندنية