الحرب على الإرهاب تجعله أكثر سوءا فقط

الحرب على الإرهاب تجعله أكثر سوءا فقط

نفسه في رد فعلهم على المجزرة التي وقعت في برلين في معرض عيد الميلاد، والتي أسفرت عن مقتل 12 شخصاً، كما كانوا قد فعلوا خلال هجمات إرهابية سابقة في باريس وبروكسل. وثمة إفراط في التركيز على إخفاقات الأجهزة الأمنية، والتي تمثلت في عدم تحديد واحتواء الجاني التونسي الصغير، أنيس العامري؛ حيث تبين أنه يشكل تهديداً. وثمة القليل من التركيز على جلب الحربين في سورية والعراق إلى نهاية، مما يجعل هذا النوع من الأعمال العدائية غير قابل للإيقاف.
في أعقاب عمليات القتل، فإن ظهور العامري الذي قتل في ميلان قبل أيام، كتهديد محتمل، يبدو مضللاً بوضوح. كما أن لوم أولئك الذين لم يروا هذا الأمر قادماً، يبدو أكثر سطوعاً مما كان فعلاً. وتجدر الإشارة إلى أن عدد المشكوك فيهم المحتملين -المشتبه بهم قبل أن يرتكبوا أي شيء- هو كبير جداً بحيث لا يمكن ضبطهم بفعالية.
يستطيع أي سياسي أو مسؤول أمني يرغب في الاحتفاظ بوظيفته أن يقول لجمهور خائف وغاضب أنه من المستحيل الدفاع عنهم. ويصبح هؤلاء المسؤولون هدفاً سهلاً للمنتقدين الذين يستغلون أعمال الإرهاب بصورة انتهازية لتوجيه اللوم لعدم الكفاءة الحكومية أو للمطالبة بإنزال عقوبة مجتمعية بالساعين للحصول على لجوء أو المهاجرين أو المسلمين. وفي هذه الأوقات، تكون وسائل الإعلام في أسوأ حالات الأداء؛ حيث تنثر الهستيريا وتصور حوادث مرعبة -لكنها صغيرة- وكأنها تهديدات وجودية. وكان هذا صحيحاً دائماً، لكن تغطية الأخبار 24 ساعة في اليوم طيلة أيام الأسبوع تجعل الأمر أسوأ؛ حيث تنفد جعبة الصحفيين من الأشياء التي يقولونها، ويضيغ كل إحساس بالنسبية. وكما يقول الشعار الصحفي الأميركي القديم: “إذا كان الخبر ينزف، فإنه يتصدر”.
لكن الإفراط في رد الفعل يوقع الحكومات ووسائل الإعلام في قبضة الإرهابيين الذين يريدون صناعة شعور الخوف واستعراض قوتهم، والذين تتحقق أكبر مكاسبهم عندما يتسببون في رد فعل مبالغ فيه ومدمر للذات. وكان هجوم 11/9 الإرهابي أنجح هجوم إرهابي في التاريخ، ليس لأنه أسفر عن تدمير البرجين التوأمين وحسب، وإنما لأنه حمل إدارة بوش على غزو أفغانستان والعراق. ثم جاءت لاحقاً حوادث غوانتنامو وأبو غريب وتسليم السجناء والتعذيب “وعمليات القتل المستهدفة” التي كانت تعرف قبل ذلك بعمليات الاغتيال، والتي بررتها كلها هجمات 11/9، وكانت تعمل كوكلاء تجنيد لصالح التنظيمات على غرار القاعدة.
لقد فشلت الحرب على الإرهاب بطريقة أكثر وضوحاً من فشل معظم الحروب: كان تنظيم القاعدة يضم المئات في العام 2001، لكنه أصبح يضم اليوم -سوية مع “داعش”- عشرات الآلاف من المقاتلين والداعمين الذين ينتشرون في عشرات من البلدان.
وفي الأثناء، لا يستثنى القادة السياسيون من اللوم، لكنهم يلامون غالباً على الشيء الخطأ. فعلى عكس الحديث عن إرهاب “الذئاب المنفردة”، يتبين أن لمعظم الناس مثل العامري صلات تعاطفية أو داعمة مع تنظيمات الإرهاب. وفي حالته، يقول مسؤولون أميركيون إنه كان قد اتصل بـ”داعش”، وكان على اتصال مع واعظ سلفي. وكان يحتاج لما هو أكثر قليلاً من الإيحاء والتشجيع، نظراً لأن قيادة شاحنة ودهم حشد من الناس الذين يحتفلون بعيد الميلاد لا يتطلب خبرة خاصة.
يظل “داعش” حاسماً بالنسبة للموجة الحالية من الهجمات الإرهابية في أوروبا لأنه يوفر محركاً وتبريراً أيديولوجيين، ويستطيع ضبط وإدامة خلية إرهابية، كما حدث في باريس وبروكسل. وطالما كان هناك “داعش” القائم والمنظم جيداً والقادر على تقديم هذه الأمور، فإنه لا يمكن إلحاق الهزيمة بالإرهاب؛ وسيكون هناك دائماً “خلل في الأمن” يتم استغلاله.
يقف الوجود المستمر لهذا الوضع ليكون دليلاً على فشل القيادتين الأميركية والأوروبية. فهما اللتان خلقتا الظروف الأصلية لصعود “داعش” عبر غزو العراق في العام 2003. وهما من سمح لسورية بأن تتمزق إرباً بفعل الحرب الأهلية بعد العام 2011، واعتقدتا بأن الفوضى اللاحقة يمكن أن تكون مقصورة على العراق وسورية. ولم يأخذ الساسة والمسؤولون على محمل الجد الخطر المحتمل سوى في العامين 2014 و2015 -بعد خلق “داعش” وفيضان المهاجرين الهاربين إلى أوروبا الوسطى والهجمات الإرهابية في فرنسا وبلجيكا.
ولكن، بعد عامين ونصف العام من الإعلان عنها لأول مرة، ما تزال “الدولة الإسلامية” تعمل. وكان حوالي 2.885 عراقيا قتلوا في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي وحده، معظمهم نتيجة للقتال بين “داعش” وقوات الأمن العراقية. وخلال الشهر الأخير، انصب التركيز الدولي على سقوط شرق حلب بينما أعطي القليل من الانتباه لحقيقة أن “داعش” ما يزال يتشبث بالموصل، وأنه أعاد احتلال تدمر في سورية.
هناك عدم ربط خطير في عقول الحكومات ومنظمات الأخبار بين ما يحدث في الحرب في العراق وسورية وبين التداعيات طويلة الأمد التي تتركها على الشوارع في أوروبا. وعندما بدأت القوات المسلحة العراقية وحلفاؤها الأكراد تقدمهم نحو الموصل في 17 تشرين الأول (أكتوبر)، وهي أكبر مركز حضري تسيطر عليه أي مجموعة سلفية جهادية، ساد اعتقاد على نطاق واسع بأن “داعش” أصبح على حافة الانهيار.
لكن ذلك لم يحدث. بل إن وحدات النخبة في القوات المسلحة العراقية، وخاصة “الفيلق الذهبي” المكون من 10.000 جندي قوي، منيت بخسائر وصلت نسبة 50 في المائة بين صفوفها. وقد وقعت هذه القوات في شرك تكتيكات ماهرة في شرق الموصل، حيث غيرت وحدات “داعش” المنقولة مواقعها بسرعة في مناطق معدة، باستخدام فتحات حفرت في أسوار المنازل وشبكة من الأنفاق. وهم يتجنبون شغل مواقع ثابتة حيث يمكن تحديدها واستهدافها من جانب المدفعية والائتلاف الجوي الذي تقوده الولايات المتحدة. وهم يكمنون لقوات الجيش العراقي في عرباتها أثناء مرورها في الشوارع الضيقة. وتقول الأمم المتحدة إن 2.000 عنصر من القوات الأمنية العراقية، بما في ذلك وحدات شيعية شبه عسكرية ووحدات بشمرغة كردية، قتلوا في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) وحده.
لقد توقف الهجوم المضاد في جزئه الضخم ولما يصل إلى الجزء الرئيسي من مدينة الموصل على الضفة الغربية من نهر دجلة بعد. ويترتب على ذلك ضرورة استعادة مناطق في شرق الموصل كانت قد استعيدت قبل أسابيع. وكان الزخم الرئيسي من هجوم القوات الحكومية العراقية على الموصل يعني القدوم من الجنوب، لكن هذه الجبهة لم تتحرك لستة أسابيع -حتى أن “داعش” ذكر أنه أرسل 500 مقاتل عبر الصحراء لاستعادة تدمر، في أول مكسب مناطقي مهم للتنظيم في 18 شهراً.
ليست هذه منظمة يمكن أن تخرج من العمل بسرعة، أو حتى تخرج منه مطلقاً. ربما يفضي فشل جبهة النصرة وأحرار الشام وغيرهما من المجموعات المتمردة الأخرى في الدفاع عن شرق حلب بنجاح إلى نزيف المقاتلين الأكثر خبرة والأشد مراساً وذهابهم إلى “داعش”. وستتوافر لديه مزية أن يكون أقل اعتماداً من المجموعات الثائرة الأخرى على الدعم الخارجي من تركيا والسعودية وقطر، التي أصبحت قريبة من القبول بالهزيمة في سورية. ولن ينقذ هذا الحال “داعش” على المدى البعيد بسبب العدد الكبير من أعدائه، لكنه أظهر مرة أخرى أنه أكثر عناداً مما افترضت وزارة الدفاع الأميركية.
ثمة تداعيات خطيرة هنا في أوروبا: يستطيع “داعش” الاستمرار لسنوات عدة من خلال شن هجمات إرهابية منخفضة الوتيرة مثلما حدث في برلين. ولا يترتب عليه فعل الكثير عن طريق التحريض أو المساعدة المادية لتحقيق هذا الأمر. وعندما يقع حادث إرهابي، فإنه يكون قادراً على نقل الأجندة السياسية في بلد بمثل ضخامة ألمانيا. ويدرك “داعش” هذا الأمر، ولن يتوقف عن الإرهاب ما دام على قيد الوجود.

باتريك كوبيرن

صحيفة الغد