خطاب كيري: استمرارية تارةً وانقطاع طوراً

خطاب كيري: استمرارية تارةً وانقطاع طوراً

في الأيام الأخيرة لإدارة أوباما، ألقى وزير الخارجية الأمريكي جون كيري كلمة وداع حول عملية السلام في الشرق الأوسط. وقد تضمن الخطاب الذي وجّهه في 29 كانون الأول/ديسمبر – وانتقد فيه بشكل لاذع إسرائيل، وحثّها على وقف الانزلاق نحو حلّ الدولة الواحدة – ستة مبادئ لتوجيه دفة عملية السلام الاسرائيلية الفلسطينية والتوصّل في النهاية إلى حلّ الدولتين. ودافع كيري عن كلمته بقوله أن الحاجة تدعو لقول الحقائق الصعبة حول ما يجب على إسرائيل أن تفعله للحفاظ على طابعها اليهودي والديمقراطي. لكن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لم يتوانَ عن مهاجمة الخطاب باعتباره “غير متوازن”، قائلاً إن إسرائيل ترفض أن “يملي عليها” قادة أجانب ما يجب أن تفعله. ونظراً إلى الغضب الذي أعرب عنه الإسرائيليون حول امتناع الولايات المتحدة عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334 وتوقعاتهم حول رئاسة ترامب القادمة، يبدو أن نتنياهو عازماً على مهاجمة إدارة أوباما وانتقادها بلهجة أكثر حدةً من أي وقت مضى.

ولتوقيت الخطاب، ولهجته العالية الهمّة، وطبيعته المثيرة للجدل يمكن أن تكون تداعيات متعددة على سياسة الولايات المتحدة وعلاقات واشنطن مع إسرائيل. ولكن في هذه المرحلة، يبدو من المفيد للغاية التركيز على مبادئ التفاوض الأساسية التي نسّقها كيري، ومقارنتها مع الأطر التي وضعتها الإدارات الأمريكية السابقة.

ما هو الجديد في الخطاب؟

يُعدّ خطاب كيري المسعى الأمريكي الرئيسي الرابع خلال هذا القرن لتحريك عجلة المفاوضات وإنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. ففي تموز/يوليو 2000، عقد الرئيس بيل كلينتون اجتماع قمة في كامب ديفيد مع كلا الطرفين، تُوّجت نهايته باقتراح أطر خطة كلينتون في كانون الأول/ديسمبر من ذلك العام. وبُذلت جهود مماثلة من قبل وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس في الفترة 2007-2008 وكيري نفسه بين عامي 2013-2014.

وسيجادل البعض بأن الخطاب الأخير لا يكتسي أهمية كبرى لأن الرئيس المنتخب دونالد ترامب قد أوضح أن وجهات نظره حول القضية تختلف بشكل حاد عن آراء أوباما. غير أن أطر خطة كلينتون بقيت القاعدة الأساسية للمفاوضين منذ عام 2000، وخلال إدارات مختلفة جداً، لذلك يمكن أن يكون لأفكار كيري تأثيراً محلياً ودولياً على مدى أطول مما يتوقّعه البعض.

وفي الواقع، سيقارن المحللون حتماً بين مبادئ كيري وكلينتون. وهناك نقاط مرجعية ذات صلة أيضاً – مثل خطابات أوباما حول هذا الموضوع في أيار/مايو 2011، ورسالة جورج دبليو بوش لشارون في نيسان/أبريل عام 2004 – على الرغم من أنها لم تعالج جميع القضايا الجوهرية على نحو شامل كما فعلت أطر كلينتون وخطاب كيري. وقد أعلن الأخيران مبادئهما وسط شعور بأنه لن يتمّ تحققيها في أي وقت قريب؛ وفي الواقع، أشار كلينتون صراحةً إلى أن أطره ستنقضي عند انتهاء ولايته. لكن هناك اختلافات جوهرية في السياق والمضمون على حد سواء. ففي حالة كلينتون، وضع الأخير الخطوط العريضة لأطره بعد مرور نحو ثمانية أعوام من المفاوضات الإسرائيلية -الفلسطينية العالية المستوى والواعدة  على ما يبدو لكلا الجانبين والتي كانت تهدف إلى تحقيق اتفاق الوضع النهائي. وقد جاء خطاب كيري في أعقاب ثماني سنوات لم تشهد الكثير من المحادثات المباشرة على مستوى عالي حول قضايا المرحلة النهائية، على الرغم من أن إدارة أوباما بذلت كل ما في وسعها في هذا الشأن، وخصوصاً خلال الحملة الدبلوماسية المكثفة التي قام بها كيري في الفترة 2013-2014.

وبالتالي، على الرغم من أن أوجه التشابه بين أطر كيري وكلينتون تفوق أوجه الاختلاف، إلا أن هناك اختلافات هامة:

دولة يهودية. دعا كيري صراحةً إلى الاعتراف بإسرائيل “كدولة للشعب اليهودي” تبقى قائمة إلى جانب “دولة للشعب الفلسطيني”، من دون انتقاص حقوق عرب إسرائيل. ولم يركّز كلينتون على مثل هذه اللغة، ربما يعود السبب في ذلك إلى أن أسئلة الشارع الفلسطيني حول الطابع اليهودي لإسرائيل لم تكن شديدة بهذا القدر في ذلك الوقت. وقد دعا الرئيس أوباما صراحة إلى الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية في خطبه في أيار/مايو 2011، مثله مثل الرئيس بوش.

القدس. دعا خطاب كيري إلى أن تكون “القدس عاصمة معترف بها دولياً للدولتين”. وهي المرة الأولى التي تدعو فيها الولايات المتحدة علناً إلى وجود عاصمة فلسطينية في القدس، على الرغم من أنه لم يحدد ما إذا كانت ستشكل جميع القدس الشرقية أو أحياء عربية محددة تحيط بالمدينة القديمة. كما لم يتم تحديد مستقبل البلدة القديمة نفسها أيضاً. من جهتها، قدّمت أطر كلينتون تفاصيل حول السيادة على “جبل الهيكل/الحرم القدسي الشريف ” لكنها لم تذكر ما إذا كان الفلسطينيون سيحظون بعاصمة في المدينة (على الرغم من أنه لم يَذكر فكرة عاصمتين في خطابه في كانون الثاني/يناير 2001 قبل أيام من مغادرته منصبه). ولم يذكر أوباما القدس الشرقية في خطاباته خلال عام 2011، حيث اعتبر على ما يبدو أن القضية مثيرة للجدل لدرجة فضّل عدم التطرق إليها عشية حملة إعادة انتخابه.

اللاجئون. ذكر كيري أن أي حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين لا بد أن تكون متسقة مع فكرة “دولتين لشعبين”، مما يشير إلى أن المقترحات المستقبلية يجب ألا تهدد الطابع اليهودي لإسرائيل. وهذه اللغة هي أكثر تقييداً ​​من الموقف العام الفلسطيني حول “حق العودة” غير المحدود لإسرائيل، ولكنها ليست مقيّدة ​​بما فيه الكفاية بالنسبة لإسرائيل، التي تريد استيطان جميع اللاجئين في دولة فلسطينية أو في بلدان ثالثة عوضاً عنها، ومع تعويض مالي دولي وإسرائيلي على الأرجح. ولم يتطرق أوباما إلى فكرة اللاجئين على الإطلاق في عام 2011. وقدم كلينتون قائمة من الخيارات المفصلة للغاية حول اللاجئين، وجميعها “تتسق مع حل الدولتين.” وقال بوش بأنه من غير الواقعي الاعتقاد بأن اللاجئين سيعودون إلى إسرائيل، مما يشير إلى أنهم يجب أن يذهبوا إلى الدولة الفلسطينية.

الحدود. أشارت أطر كلينتون إلى أنه ينبغي على الإسرائيليين والفلسطينيين الاتفاق على تبادل الأراضي، الأمر الذي يُشير إلى أن هذه المقياضة لن تُحسب انطلاقاً من خط أساس قدره 100 في المائة من مساحة الضفة الغربية. ودعا أوباما أيضاُ إلى تبادل الأراضي،  لكنه استند إلى الحدود القائمة قبل عام 1967. وقد ركّز خطاب كيري بشكل خاص على أن كافة مقايضات الأراضي ستجري بالتساوي مستخدماً عبارة “مقايضات متكافئة متفق عليها بصورة متبادلة”. ولا ترتقي هذا العبارة إلى معايير الفلسطينيين في صياغة مقايضات “متساوية”، التي تدخل في المزيد من القضايا التقنية مثل نوعية الأراضي. وقد قبِلت رسالة بوش لشارون فكرة ضم إسرائيل في النهاية لـ “المراكز السكانية الكبرى” (أي الكتل الاستيطانية) بالقرب من “خطوط الهدنة لعام 1949” (المتطابقة تقريباً مع خطوط ما قبل عام 1967)، وأضافت أن أي اتفاق نهائي سيتطلب إجراء “تغييرات متفق عليها بصورة متبادلة تعكس هذه الحقائق”. وتفسّر إسرائيل رسالة بوش بالسماح بالبناء في تلك الكتل قبل أن يتم التوصل إلى اتفاق سلام، ولكن هذا ليس ما نصّت عليه الرسالة فعلاً.

الأمن. بينما تحدث كيري على نحو مطوّل عن المخاطر الأمنية المحدقة بإسرائيل، إلا أنه صرّح بأن “إنهاء الاحتلال بشكل كامل هي قضية أساسية للفلسطينيين. عليهم أن يعرفوا أن الاحتلال العسكري بحد ذاته سينتهي بالكامل”. بدوره، فضّل كلينتون، الذي سبقت جهوده اندلاع القوة الكاملة للانتفاضة الفلسطينية الثانية و”الربيع العربي” الأكثر حداثة، وضْعْ جدول زمني محدّد لانسحاب القوات الإسرائيلية ودعا إلى استبدالها بقوات دولية. أما كيري فلم يأتِ على ذكر القوات الدولية أو جدول زمني، على الرغم من أنه أشار إلى ضرورة منح الفلسطينيين إحساس عام عن الموعد التقريبي الذي يمكن أن يتوقعوا خلاله انسحاب آخر جندي إسرائيلي. ونظراً إلى الاضطرابات السائدة حالياً في المنطقة، أوضح نتنياهو أن إسرائيل لا تعتزم ترك وادي الأردن لعقود قادمة، هذا إن انسحبت أساساً. وقد قال كيري بالفعل أنه يتعيّن على الدولة الفلسطينية أن تكون “منزوعة السلاح”، كما أوضحت ذلك الإدارات الأمريكية الأخرى.

إنهاء الصراع. في ظل الإشارة إلى أنه على الطرفين السعي إلى “إنهاء الصراع وكافة المطالبات العالقة”، لفت خطاب كيري إلى أنه لن يتمّ تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية قبل انتهاء العملية. ويأتي هذا المبدأ تمشياً مع “مبادرة السلام العربية” التي اقتُرحت للمرة الأولى من قبل المملكة العربية السعودية في عام 2002 (أشارت “مبادرة السلام العربية” أيضاً بأنه يتعيّن على إسرائيل التنازل عن هضبة الجولان إلى سوريا كشرط مسبق إضافي لتطبيع العلاقات، رغم أنه لا أحد يعتقد أن هذا ممكن اليوم أو حتى مرغوب فيه نظراً للوضع السائد هناك). بالإضافة إلى ذلك، ذكر كيري أن السلام بين إسرائيل والفلسطينيين قد يؤدي إلى قيام “شراكة أمنية” جديدة مع الدول العربية. وبالفعل تقيم إسرائيل علاقات أمنية متنامية (لكن سرّية) مع بعض هذه الدول، لذلك ربما كان كيري يعني أنه بإمكان إضفاء الطابع الرسمي على هذه العلاقات.

لماذا الان؟

سيكون الوقت وحده كفيلاً بإظهار الدافع وراء توقيت خطاب كيري. وقد قال البعض أن طرح هذه الأفكار في وقت تنهي فيه الإدارة ولايتها هو بمثابة طلقة وداع موجهة إلى نتنياهو بعد فترة طويلة من العلاقات المتوترة، رغم أن هذا التفسير يبدو فظاً إلى حدّ كبير.

وفي المقابل، ربما كان القصد من الخطاب عرض مقدمة لمؤتمر السلام الدولي المزمع عقده في باريس في 15 كانون الثاني/يناير. وتجدر الملاحظة أن إسرائيل ستقاطع هذه القمة، لذلك قد يقرّر بضع عشرات من وزراء خارجية الدول المشاركة نقل أطر كيري وصياغتها في قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي قبل تنصيب ترامب في 20 كانون الثاني/يناير. وسترفض إسرائيل بشدّة مثل هذه الخطوة باعتبارها حلاً مفروضاً عليها، كما قد لا يتقبّله الفلسطينيون على حد سواء إذ يُفترض أن يضمّ عبارة دولة يهودية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل تمتنع الولايات المتحدة عن الموافقة على مثل هذا القرار؟ لقد قال كيري إن واشنطن لا تريد فرض حلول، كما أعلن البيت الأبيض أنه لن يصوّت لصالح أي إجراء يتخذه مجلس الأمن يقوم على فرض حلّ. لكن عملياً، سيكون امتناع الولايات المتحدة بمثابة تصويت لصالح القرار، لذلك قد لا يكون خطاب كيري الكلمة الأخيرة في الفصل الأخير من هذه الدراما. على سبيل المثال، إن غضب نتنياهو من الخطاب – إلى جانب اعتماد القرار 2334 وخطوات أخرى قد تتخذها الأمم المتحدة – قد يدفع به إلى أن يطلب من ترامب القيام بخطوة ملموسة بعد تنصيبه من شأنها قلب الأوضاع بشكل واضح للغاية، على غرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.

ويتمثّل تفسير آخر أكثر حيادية لتوقيت خطاب كيري بأن الإدارة الأمريكية لم تعتبر الفرص الماضية لوضع أطرها مجدية حقاً. ويقول البعض إنه كان على الرئيس أوباما القيام بذلك في نيسان/أبريل 2014، عندما انهارت آخر جولة من المفاوضات، لكن واشنطن كانت منغمسة في ذلك الوقت في أزمات كبرى في أماكن أخرى (شبه جزيرة القرم، تنظيم «الدولة الإسلامية»، وما إلى ذلك). ويجب أيضاً عدم استبعاد الاعتبارات السياسية المحلية، إذ كان يمكن النظر إلى الإعلان عن أطر السلام قبل موسم الانتخابات الرئاسية أو خلاله بأنه يشكل عبئاً سياسياً لأي مرشح ديمقراطي.

فشل مقاربة كل شيء أو لا شيء

استثمر كيري الكثير من الوقت والجهد في شرح الكيفية التي تقوّض فيها أنشطة الاستيطان الإسرائيلية التوصّل إلى حلّ الدولتين، حتى بعد قوله إنها ليست العائق الأكبر أمام عملية السلام. (ولم يأتِ على ذكر ماهية العائق الرئيسي، إلا أنه استشهد [بسياسة] الرفض التي تتبعها «حماس» وعمليات الإرهاب والتحريض الفلسطينية بوصفها المشاكل الرئيسية). وقد اكتسى خطابه أهمية كبرى عندما انتقد البناء الإسرائيلي في مستوطنات خارج الجدار الأمني للضفة الغربية، مشيراً إلى أن نحو 90 ألف إسرائيلي يعيشون الآن في هذه المناطق.

مع ذلك، تؤدي هذه النقاط إلى طرح السؤال التالي: في الوقت الذي يعيش نحو 75 في المائة من المستوطنين الإسرائيليين داخل الجدار، والغالبية العظمى من الفلسطينيين تعيش خارجه، ولا يستعد أي من الطرفين تقديم التنازلات الضرورية لإبرام اتفاق سلام شامل، فلماذا لا يتم تعديل السياسة الأمريكية وفقاً لذلك؟ على سبيل المثال، كان بإمكان كيري التركيز على الهدف الأكثر تواضعاً المتمثّل بإقناع إسرائيل بعدم البناء في المساحة البالغة 92 في المائة من الضفة الغربية الواقعة خارج الجدار الأمني – في خطوة أولى جيدة باتجاه جعل سياستها الاستيطانية تتماشى مع نموذج الدولتين. وفي الوقت نفسه، كان بإمكانه الدعوة إلى اتخاذ خطوات ملموسة لإنهاء التحريض الفلسطيني، مثل إغلاق الجمعية التي تقدّم مساعدات إلى عائلات الانتحاريين. ورغم أن هذين الإجراءين أكثر تواضعاً بكثير من الأطر الكبرى، إلا أنهما يوفران على الأقل إمكانية تحقيق تقدم تدريجي نحو حل الدولتين.

خلال معظم الأعوام الثمانية الماضية، شددت إدارة أوباما على مقاربة كل شيء أو لا شيء. وعلى الرغم من أن كيري أيّد أفكاراً أكثر تحديداً في السنوات الأخيرة (على سبيل المثال نفاذ الفلسطينيين اقتصادياً إلى مناطق خارج الجدار الأمني)، إلا أنه لم يعرض أي مقابل فعلي على إسرائيل من حيث التفرقة بين المستوطنات. ويبدو الجواب بمثابة مقاربة أكثر مرونة تطبّق مبادئ مختلفة على بعض الكتل الاستيطانية الإسرائيلية داخل الجدار – لا سيما تلك التي أشار إليها الرئيس الفلسطيني محمود عباس نفسه سابقاً بأنها ستصبح جزءاً من إسرائيل بموجب اتفاق سلام نهائي.

وربما تكون علاقات البيت الأبيض المتوترة مع نتنياهو السبب الرئيسي وراء استمرار الإدارة الأمريكية في نهجها المتشدد. وربما يكون أوباما قد رغب في تفادي التفرقة بين المستوطنات لأسباب إيديولوجية. وعلى الرغم من أن خطاباته عام 2011 أوضحت أن أي اتفاق نهائي سيتطلب ضمّ إسرائيل لبعض المستوطنات، إلا أن سياسته اليومية لم تعكس هذا المبدأ – وقد يعود السبب إلى الشكوك بأن نتنياهو لن يطبّق فعلياً أي تفرقة بين المستوطنات داخل الجدار وخارجه على الإطلاق. ولا شك في أن انعدام الثقة هذا متجذّر في استخدام إسرائيل ثغرات البناء المثيرة للجدل خلال فترة تجميد النشاط الاستيطاني بين 2009 و 2010. مع ذلك، لا تغيّر هذه الشكوك المحصلة النهائية: إن اعتماد نهج أكثر تواضعاً وعمليّاً كان يستحق المحاولة إذ إنه كان سيقدّم على الأقل فرصة لوقف الانزلاق الذي لا تحمد عقباه نحو الدولة الواحدة والذي كان كيري قد حذّر منه.

ولكي نكون منصفين، تحتاج إسرائيل إلى شيء من التقييم الذاتي بشأن هذه المسألة بالقدر نفسه الذي تحتاجه واشنطن. وربما أن ائتلاف نتنياهو كان سيسمح بمقاربة أكثر تمايزاً بشأن المستوطنات لو كان هو نفسه وغيره من الشخصيات أكثر استعداداً لتحمّل مخاطر سياسية معينة. وكان يمكن لمثل هذه المقاربة أن تفصل إيديولوجية الاستيطان عن مخاوف إسرائيل الأساسية المتمثلة بضمان الأمن في الضفة الغربية وحولها طالما أن الشرق الأوسط غارق في حالة الفوضى الراهنة. كما تحتاج إسرائيل إلى تبرير عمليات البناء المتواصلة لتي تقوم بها خارج الجدار الأمني وانحدارها نحو نتائج قائمة على حلّ الدولة الواحدة.

الخاتمة

عكسَ خطاب كيري الاعتقاد بأن على إسرائيل اتخاذ خطوات ملموسة نحو حل الدولتين إذا أرادت المحافظة على مكانتها كدولة ديمقراطية للشعب اليهودي. غير أن تصريحاته لم تجب على السؤال الجوهري التالي: بما أن الولايات المتحدة وغيرها من الدول خلُصت بوضوح إلى أن القيادتيْن الحاليتين الإسرائيلية والفلسطينية غير قادرتين على التوصّل إلى اتفاق شامل، فلماذا لا تسعى إذاً إلى اتباع نهج أكثر واقعية يحافظ على الأقل على قابلية تطبيق نموذج الدولتين إلى أن تصبح الظروف أكثر ملاءمة لعملية سلام تحدّد الوضع النهائي لكل منهما؟ ربما من الأفضل طرْح هذا السؤال على الرئيس أوباما أكثر منه على وزير خارجيته جون كيري.

ديفيد ماكوفسكي

معهد واشنطن