“مراجعة كتاب “خونة الثورة، رحلة في قلب الربيع العربي

“مراجعة كتاب “خونة الثورة، رحلة في قلب الربيع العربي

يعرض لنا كتاب “خونة الثورة: رحلة في قلب الربيع العربي” Les cocus de la révolution. Voyage au coeur du Printemps arabe” للخبير الفرنسي في الدراسات الجيو-إستراتيجية والتاريخ الراهن للعالم الإسلامي والعربي “ماثيو جيدير” -” ” Mathieu Guidère” (الأستاذ في جامعة تولوز بفرنسا، وصاحب العشرات من الكتب حول التحولات السياسية والاجتماعية في العالم العربي الراهن- مختلف تحولات موازين القوى الإقليمية، التي أعقبت حركات الربيع العربي مند سنة 2011.

بعد انهيار نظام بن علي بتونس، أخذ ماثيو جيدير، على عاتقه مهمة النبش في البنيات الموضوعية، والشروط السوسيو-سياسية المحيطة بإنتاج الحدث الثوري بالمنطقة العربية. بدءًا من المغرب، ومرورًا بتونس، ووصولا إلى قطر، انطلقت رحلة الباحث لملامسة الميدان والاحتكاك المباشر بالفاعلين في إنتاج الحدث الثوري، وتوثيق شهادات حيّة ومعيشة، حول مختلف النقاط الغامضة التي أعقبت الثورة في المجتمعات العربية.

وضع الباحث نصب عينيه مهمة التدقيق في مجموعة من المتغيرات السوسيو-سياسية، المؤطّرة لمسلسل الانتقال السياسي بالدول العربية، ما بعد الربيع العربي: صعود الإسلاميين إلى السلطة (تونس، مصر، المغرب…)، وضعية المرأة[1]، وموقع “الشريعة” ضمن مرحلة ما بعد الربيع العربي، إضافة إلى حالة ودينامية الانتقال الديمقراطي في الدول العربية، مستثمرا في ذلك درايته الواسعة بالثقافة العربية الإسلامية، وخبرته الميدانية بهذه الدول، ما أعطى لهذه الدراسة غنى ودقة أكبر، ميزتها عن باقي الدراسات الاجتماعية والسياسية التي كرست لما بعد الربيع العربي.

ما يميز هذا المؤلف عن معظم الدراسات المهتمة بالوضع السياسي في الدول العربية ما بعد [2]2011، هو اهتمامه بالتتبع الموضوعي لإعادة تشكيل موازين القوى الاجتماعية والسياسية خلال مرحلة ما بعد الربيع العربي، ليس في الدول التي عرفت حركية ثورية اجتماعية انتهت بإسقاط رموز النظام (تونس، مصر، ليبيا) فحسب، بل حتى في الدول التي أجهض فيها الحلم الثوري بتغيير النظام أو إسقاطه (المغرب، الجزائر، قطر). يمكن أن نقول إن ماثيو جيدير، واحد من الباحثين القلائل الذين أتيحت لهم الفرصة للوجود في المكان المناسب وفي الوقت المناسب. ففضلًا عن إلمامه الدقيق بالثقافة العربية الإسلامية وباللغة العربية[3]، استفاد ماثيو جيدير من شبكاته الاجتماعية[4] والسياسية الأكاديمية، من أجل توفير قاعدة بيانات عميقة حول خبايا الثورات العربية؛ أو بالأحرى بمن باع الثورات العربية، وأجهض حلم الشعوب العربية في التغيير، وتحقيق الانتقال الديمقراطي الموعود بعيدًا عن جميع أنماط التطرف والإرهاب التي تتخبط بها المنطقة[5].

في سبعة فصول موزعة على أزيد من 157 صفحة من الحجم الكبير، يحاول ماثيو جيدير أن يلفت الانتباه إلى مجموعة من النقاط الأساسية، والمرتبطة بالفجوة الحاصلة بين تصور واستقبال الأحداث في الدول الغربية من جهة، والواقع المعيش الذي تتخبط فيه الدول العربية المتضررة ممّا سمي بـ “الربيع العربي” من جهة أخرى. لقد أدى صعود الأحزاب السياسية الإسلاموية إلى سلطة القرار السياسي بمجموعة من البلدان العربية (مصر، تونس، ليبيا والمغرب) إلى الكشف عن قاعدتها الجماهيرية الخفية، وفاعليتها في تنظيم الجماهير الشعبية وتأطيرها، لكن برامجها الأيديولوجية وضعف خبرتها في الحقل السياسي، وتغيرات موازين القوى الاقتصادية على الصعيد العالمي والمحلّي، عجلت بتراجع الدعم والمساندة الشعبية لها. إذا كانت القوى الإسلاموية قد انتصرت على الأنظمة القديمة، فإن انتصارها في المستقبل غير مضمون، بل من الممكن أن “تخون” مبادئ الثورة، وتعرقل مسلسل الانتقال الديمقراطي بالمجتمعات العربية (داعش نموذجًا).

ينظر جيدير، إلى “خونة الثورة” بوصفهم أولئك الذين واجهوا الأنظمة الديكتاتورية وعجلوا في انهيارها، وتكمن خيانتهم لحركيات الربيع العربي، في كونهم ممثّلين للديمقراطية المدنية التابعة للنظام القديم، وخُدّامًا أوفياء للأحزاب والحركات الإسلاموية القائمة، والمعتمدة على الدين والشريعة في إدارة نظم الحكم الجديدة. لا يمكن في أي حال من الأحوال حصْرُ “خونة الثورة” ضمن فئة أو طبقة أو شريحة اجتماعية معينة، إنهم بِنية متعددة وغير متجانسة؛ فهم الشباب الذين قادوا الاحتجاجات في الشوارع، وهم الذين يؤمنون بالتغيير الجذري دون أن يكون قائمًا بالضرورة على مرجعيات إسلاموية، وهن النساء المتعلمات اللواتي قدن حملات تعبئة في الإنترنيت ضد النظام السابق، وهم المثقفون والفنانون واليساريّون والليبراليون وممثلو المجتمع المدني الذين قاموا بدور حيوي في التعبئة الشعبية ضد النظام السابق. لقد وجدوا أنفسهم مهمّشين من طرف المجتمع ومقصيين من طرف الحكومات الجديدة. أظهرت أولى الانتخابات انقسامهم، وضعف -أو انعدام- الدعم الشعبي لهم، وضعف تنظيمهم الواضح، وقصور أنساقهم الأيديولوجية في مواجهة الإسلاميين والقوى المحافظة.

يضعنا جيدير، في قلب الوضع السياسي والاجتماعي لسبع دول عربية بعد أحداث الربيع العربي. يتعلق الأمر بدول نجحت في إشعال فتيل الثورة، وإسقاط النظم الديكتاتورية (مصر، وليبيا وتونس) لمصلحة المتعطشين للسلطة (خونة الثورة)، ودول أخرى أجهض فيها الحلم الثوري في مراحله الأولى (المغرب والجزائر، وقطر) وأخرى أشعل فيها فتيل الثورة نار الطائفية والتعصب الديني، مخلّفًا آلاف القتلى وملايين النازحين (سوريا).

يأتي الفصل الأول تحت عنوان “مصر: الديموقراطية إن شاء الله!“ ليسلّط الضوء على خيبة الأمل الشعبية التي أعقبت الثورة المصرية. تكشف تقارير الباحث، والشهادات الحية التي جمعها، الوضع المتأزم للنسيج الاجتماعي المصري بعد أحداث الربيع العربي. يرصد جيدير بتحسر كبير الوضع المتناقض لبنية النظام السوسيو-سياسي من خلال التركيز على وضعية المرأة بعد الثورة؛ فقد كثر النقاش العام حول العلمانية، واستمرار ظاهرة ختان البنات، وارتفاع معدلات التحرش بالنساء، وكلّها مؤشرات كشفت غموض المشروع المجتمعي المصري. استنادًا إلى شهادات حيّة. يدرس جيدير، مستقبل الوضع السياسي المصري بعد صعود النظم الإسلاموية إلى الحكم، من منطلق عرقلتها للانتقال الديمقراطي، وتشكيكها في مفهوم الديمقراطية نفسه وتعويضه بـ”الديمقراطية الإسلامية” (ديمقراطية الشريعة). بهذا المعنى، يمكن أن نعدّ تغير موازين القوى السياسية المصرية –صعود السيسي إلى الحكم- نتيجة طبيعية لتناقض رهانات الحركات الإسلاموية، وعدم وضوح إستراتيجيات تدبيرها لمرحلة ما بعد الثورة، فضلًا عن محاولة إجهاض حلم الانتقال الديمقراطي، وتعويضه بالشريعة و”الديمقراطية الإسلامية”.

في الفصل الثاني –تحت عنوان (الله أكبر) – ينتقل جيدير إلى الجارة ليبيا ليكشف لنا عن واقع الليبيين، بعد سقوط نظام معمر القذافي. شاءت الصدفة أن يلتقي الباحث مع أحد السائقين اللبيبين في طريقه نحو بنغازي، ليتجاذب معه أطراف الحديث حول الحالة الفوضوية التي ما زالت تتخبط فيها الدولة الليبية. يقوم هذا الفصل، في حقيقة الأمر، على حوار مطول بين الباحث والسائق الليبي، ويركّز في مقام أول على الجوانب الأمنية للرحلة، وعبور المدن المضطربة في اتجاه بنغازي، حيث أن مسألة الأمن البرّي أصبحت مطروحة بقوة، في ظل غياب قوة حقيقة للسلطة المركزية على عموم التراب الليبي –وهو ما سهّل إلى حد كبير اجتياح كتائب تنظيم الدولة الإسلامية لمجموعة من المناطق الليبية الحساسة خلال السنة الأخيرة. كما أن هذا الفصل يوضّح بجلاء العلاقة التاريخية والمركبة التي جمعت القذافي بالمرأة، ومختلف الصور والترسيمات التي روّجت اجتماعيا عنه. يمكن أن نعدّ عدم الاستثمار في تعليم المرأة الليبية –والنظرة السياسية الدونية لها- وتمكينها من المشاركة في صنع القرار الاجتماعي والثقافي قبل السياسي، أحد الأسباب غير المباشرة التي حفزت البنيات الذهنية والبنيات الموضوعية الليبية على الرفض الخفي –قبل أن تشعل فتيل الثورة الليبية- لنظام القذافي. لقد أضحت ليبيا اليوم مرتعا للإرهاب والتمرد الطائفي في ظل التدخل الفرنسي، وما أعقبه من تشتت الوحدة الوطنية الشعبية وسيطرة منطق القبيلة (والقبلية) على منطق الدولة الوطنية.

وفي الفصل الثالث، ينتقل بنا الباحث إلى مهد الربيع العربي (تونس)، معنونًا الفصل بعودة الله. لم تكن تونس حلقة مركزية ضمن نسيج الثورات العربية بالنسبة إلى الباحث فحسب، إنما شكّلت من وجهة نظر “نوستالجية” فرصة للمصالحة مع الذات، والغوص في شجون الإنسان التونسي وهمومه، وقراءة حاضره بماضيه. يركز ماثيو جيدير، على مختلف الصعوبات الموضوعية/ الذاتية، والداخلية/الخارجية التي تعوق تحقيق الانتقال الديمقراطي في تونس، مثل سلبيات الثورة (انعدام الأمن وارتفاع معدلات الجريمة)، وغياب الأطر الضامنة لسلطة الدولة؛ ما سمح بظهور القوى الإسلاموية الطامحة إلى تأسيس دولة إسلامية[6].

يحلل الباحث بتفصيل الشروط السياسية والاجتماعية التي دفعت إلى ظهور حركة النهضة، وإمساكها بزمام الأمور، من منطلق الفراغ السياسي الذي أعقب الثورة. في لحظة زمنية معينة فقدت تونس مشروعها المجتمعي، وحلمها في تحقيق الانتقال الديمقراطي، من خلال تنامي حدة النقاشات حول مستقبل الدولة التونسية بعد بن علي: هل يمكن أن نتحدث عن دولة إسلامية (حركة النهضة والحركات السلفية الصاعدة) أم دولة مدنية وديمقراطية (القوى التقدمية)؟ انعكس هذا النقاش الأيديولوجي المفرّغ من الحمولات الوطنية والتنموية سلبًا على المواطن التونسي الذي ما زال ينتظر تحقيق حلم الثورة (إنهاء الاستبداد بجميع تلويناته).

ويركز الفصل الرابع على التجربة الثورية الجزائرية المجهضة. لم تشهد الجزائر حركة ثورية أو تمردية حقيقة –وفقا للتطلعات- بالموازاة مع التجربة التونسية والمصرية، حيث أن أحداث التسعينيات ما زالت تؤثر -بشكل مباشر وغير مباشر- على البنيات الموضوعية والبنيات الذهنية للفاعل الاجتماعي والسياسي الجزائري، ما جعل القوى الفاعلة في المشهد السياسي الراهن تحاول جاهدة إجهاض الحلم الثوري لتفادي -ما أمكن- التوترات السياسية في سياق الظرفية العصيبة التي أعقبت حركة الربيع العربي لما بعد 2011. يمكن عدّ بطء الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبنية المجتمعية الجزائرية، قد ساهم بشكل كبير في تكسير الإيقاع الاحتجاجي والمجالي للحركيات الاجتماعية والسياسية المتنامية. لا يتعلق الأمر بغياب إرادة شعبية واجتماعية للتغيير، ووعي بضرورة تحقيق الانتقال الديمقراطي، بقدر ما هناك إرث تاريخي وسياسي من القمع والعنف السياسي والإسلاموي، يؤثّر سلبًا على الشروط الموضوعية لإنتاج الفعل الاحتجاجي والاجتماعي، ليظل سؤال الجزائري أي إله يحمينا.

وقبل مغادرته لحالة المغرب العربي، يفرد ماثيو جيدير الفصل الخامس لحالة المغرب. يحاول الباحث تسليط الضوء على مسألة صعود الإسلامويين إلى الحكم عقب الانتخابات التشريعية لسنة 2011 بالمغرب –بعد تعديل الدستور وإقرار “الملكية البرلمانية”- وما أعقب ذلك من تغيرات بنيوية في التركيبة السياسية لمغرب اليوم. عنون الفصل بـ “الله، المخرن، الملك[7]“ في إشارة إلى النقاشات العمومية، والتي أعقبت حركة 20 فبراير، حول شرعية الملك وضرورة الفصل بين السلطة الدينية للملك “إمارة المؤمنين” وسلطته الدنيوية “حامي الوطن”. لقد سمحت أحداث الربيع العربي لعموم المغاربة بمساءلة الانتقال الديمقراطي في ضوء السلطة الملكية، وفي إطار البحث عن صيغة تفاوضية –خاصة واستثنائية- تنتقل الدولة بموجبها إلى ملكية دستورية، لكن مع المحافظة على القدسيّة والوظيفة الدينية للملك “أمير المؤمنين وحامي حمى الوطن والدين” وتقليص عدد من سلطاته السياسية، وتفوضها لرئيس الحكومة. إن التاريخ الطويل للقمع المخزني (في أشكاله السياسية والاجتماعية المتعددة) الذي تعرض له الشعب المغربي في إطار ما يسمى بسنوات الرصاص، قد جعل المغاربة يتبنون موقفًا متناقضًا ومركبًا بخصوص مسايرة أحداث الربيع العربي، سببه الخوف من عدم الاستقرار، وحقيقة أنه لا شيء قد تغير (على جميع المستويات).

ينتقل جيدير إلى منطقة الخليج العربي، هذه المرة مع النموذج القطري الذي لم يحظ بدراسات سياسية وسوسيولوجية كافية فيما يتعلق بتأثير أحداث الربيع العربي على استقرار البلد. يعنون الباحث الفصل الخامس بعبارة “الله كريم” في إشارة إلى طبيعة العلاقة المركبة التي تجمع قطر بمعظم الدول العربية. صحيح أن قطر قد عرفت مدًّا احتجاجيًّا قويًّا خلال سنة 2011، والذي تمت مواجهته بقمع شديد، إلا أن التعبئة النظامية قد عجلت هي الأخرى بإجهاض التجربة القطرية، في تحقيق الانتقال الديمقراطي، وتبنّي الإصلاحات الشاملة، من خلال توظيف ورقة الضغط الشيعي لمواجهة أي تمرّد اجتماعي ممكن وتحفيز التعبئة الشعبية المضادة.

لعبت قطر دورًا كبيرًا في إعادة تشكيل الخريطة الجيو-سياسية لمجموعة من الدول العربية، بعد أحداث الربيع العربي، من خلال تفاعلها مع الدبلوماسية الفرنسية في المنطقة (ليبيا) وأيضا سيطرتها على وسائل الإعلام العربية (قناة الجزيرة)، وهو ما أثر بطريقة أو بأخرى على النسق العام للاحتجاج العربي بالشكل الذي يخدم المصالح الإقليمية للدولة القطرية من جهة، ومن جهة أخرى يجهض الرغبة الشعبية للقطريين (خاصة الشباب) في تحقيق الانتقال الديمقراطي في البلد.

ويركز الفصل الأخير على الجبهة السورية، من خلال مقارنتها مع الوضع السياسي والاجتماعي في لبنان بعد أحداث الربيع العربي، حيث الصراع مع حزب الله وإيران. يقدم جيدير، تحليلًا معمّقًا لعلاقة الثورة السورية، بالانقسام الإقليمي والصراع السياسي بين دول الجوار (السنّة والشيعة) وعودة روسيا إلى الواجهة، وسعيها نحو تعزيز نفوذها الإستراتيجي والسياسي في الشرق الأوسط. يتعلق الأمر بإحياء الصراع التاريخي بين المعسكر الشرقي، والمعسكر الغربي فوق الأراضي العربية (الثروات النفطية). إنّ العمل على ربط الصراع السوري بما يقع في لبنان، وتدخل دول المنطقة في الشأن السوري، وتزايد حدّة العنف في المنطقة، كلها عوامل متداخلة تعجّل بإمكانية قيام “حرب باردة” في المنطقة في ظل الحرب الأهلية السورية، وما رافقها من قلب إستراتيجي لموازين القوى الإقليمية.

يمكن أن نعدّ تعارض المصالح الدولية بالمنطقة، وغياب إستراتيجية حقيقة لتحقيق الانتقال الديمقراطي، وهيمنة الصراع الديني على المشهد السياسي والاجتماعي الإقليمي، أهم العوامل المباشرة لبروز تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بعد سنة 2014، وسيطرته على جزء كبير من الأرض، وعلى نظمها السياسية والاجتماعية (بخاصة العراق[8] وسوريا). إن الصراع بين القوى التقدمية، والمد الإرهابي للقوى الإسلاموية[9] (داعش) وحلفائها وعودة الصراعات الإثنية التاريخية إلى الواجهة، سيؤثر لا محالة على المستقبل السياسي للمنطقة، وسيجهض أي محاولة لتحقيق حلم الوحدة الديمقراطية العربية، بل إن هذه التنظيمات الجديدة قد اكتسبت قوتها من خيانة أعضائها، واستغلالهم ثورات الربيع العربي.

يشكل كتاب “ماثيو جيدير” أحد أهم المؤلفات التحليلية التي ترصد عن كثب تحول موازين القوى في المنطقة العربية بعد أحداث الربيع العربي، اعتمادا على الخبرة الميدانية والاستنطاق الواقعي لتحولات المشهد السياسي العربي، من وجهة نظر الفاعلين الاجتماعيين. لقد أثبت الكتاب نجاعة التقنيات الكيفية في رصد العميق والخفي في المجتمعات العربية، والكشف عن الأسباب الموضوعية والذاتية التي عجّلت بفشل معظم الثورات العربية، وخيانتها من جانب فاعليها.

في الختام، يظل كتاب “خونة الثورة” لـ “ماثيو جيدير” مرجعًا متكاملًا، من حيث المعطيات الميدانية والتاريخية والسياسية لوضعية الدول العربية بعد أحداث الربيع العربي، من منظور تركيز الباحث على التقنيات الكيفية، سندًا أساسيًّا لفهم التركيبة السياسية والاجتماعية للمجتمعات العربية. لذلك فهو يقرّ بصعوبة اختراق البنيات الموضوعية والشروط الاجتماعية للمعيش العربي، بالاعتماد على التقنيات الماكرو-سوسيولوجية والتاريخية، بل وجب التركيز على المعيش نفسه وفهم الكيفية التي بموجبها ينتج من جانب الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين في سياق الشرط الثوري والاحتجاجي المعاصر، الأمر الذي يجعل الكتاب واحدًا من أهم الدراسات العلمية المقارنة في حقل العلوم الاجتماعية والسياسية، التي سعت نحو فهم الشرط الخفي لإنتاج الفعل الاحتجاجي العربي، في شموليته واقترانه بالشرط البنيوي لإنتاج المشهد السياسي بالمجتمعات العربية. لا يمكن في أيّ حال من الأحوال، تحقيق حوار بناء بين العلوم الاجتماعية والعلوم السياسية في دراسة الظواهر السياسية المستجدة بالعالم العربي (بعد أحداث الربيع العربي) من دون وعي الفاعل الأكاديمي بالرسالة والغاية الأبستيمولوجية للعلم من جهة، وعلاقة العلم بالفاعل السياسي والاقتصادي من جهة أخرى، في إطار تنمية عقلنة صنع القرار السياسي بالدول العربية وتعزيز قيم وحدة الوعي الفكري والعلمي العربي ووعي الوحدة الفكرية والعلمية العربية في ظل تأزم الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة

[1] – للمراجعة النقدية انظر:

Mathieu Guidère, Les femmes esclaves de l’État islamique Dans Le Débat 2016/1 (n° 188),p: 106-118.

[2]– انظر:

Mathieu Guidère, Histoire immédiate du « printemps arabe » Dans Le Débat 2012/1 (n° 168), p: 129-145.

[3] – حصل ماثيو جيدير على الدكتوراه في التاريخ العربي الراهن من جامعة السوربون بفرنسا سنة 1998.

[4] – من مواليد تونس سنة 1971.

[5] – انظر: Mathieu Guidère, Daech ou le Califat pour tous Dans Outre-Terre 2015/3 (N° 44), p : 149-160.

[6] – للمراجعة النقدية انظر: Mathieu Guidère, Al-Qaïda au Maghreb islamique : le tournant des révolutions arabes Dans Maghreb – Machrek 2011/2 (N° 208), p: 59-73.

[7] – معوضًا شعار المملكة المغربية القائم على ثلاثية: الله، الوطن، الملك.

[8] – انظر : Mathieu Guidère, L’Irak ou la terre promise des jihadistes Dans Critique internationale 2007/1 (no 34), p: 45-60.

[9] – للمراجعة النقدية انظر: Mathieu Guidère, Petite histoire du djihadisme Dans Le Débat 2015/3 (n° 185), p: 36-51.

Mathieu Guidère, Daech ou le Califat pour tous Dans Outre-Terre 2015/3 (N° 44), p: 149-160.

مراجعة: محمد الإدريسي

مركز حرمون للدراسات المعاصرة