هل سيبقى العراق عام 2017؟

هل سيبقى العراق عام 2017؟

في السابع من يناير عام 2002 نشرتُ مقالة في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية عقّبت فيها وانتقدت السيناريو الذي رسمه خبير الاستخبارات الأميركي غراهام فولر عام 1992 والذي توقع فيه نهاية العراق في ذلك العام. واليوم أكرر ذات الفرضية: هل سيبقى العراق عام 2017 بعدما حصل من معطيات ووقائع سياسية ولوجستية محلية، التقت عندها مصالح إقليمية تدعم فرضية اختفاء العراق من الخارطة السياسية والجغرافية لتحل محلّه كيانات طائفية وعرقية كل كيان له حكمه الخاص. صحيح أن مثل هذا السيناريو يبدو غير مقبول من العراقيين المخلصين لعراق موحد مستقل، لكن هناك وقائع صارخة تراكمت، وتتراكم كل يوم، لقبول هذه النتيجة التي يتعاطى بها كبار القادة الأميركان من مفكرين وسياسيين وخبراء استخبارات واستراتيجيا.

ومن دون ردود الأفعال الإنشائية التي تتوقف عند وصف الأميركان بأوصاف سلبية وأنهم يقولون كلاما غير واقعي، في حين أن البعض من هؤلاء المنتقدين ينبهرون بأحاديث صغار الموظفين في الدوائر الأميركية المتعددة حين يجلسون أمامهم. وعلينا عدم التسليم بالكلام الدبلوماسي الذي يطلقه موظفو الخارجية أو البيت الأبيض. برصد استقصائي سريع نجد غالبية رؤساء الاستخبارات وهيئات الأركان الأميركان بعد خروجهم من المسؤولية الرسمية يتحدثون عن الحل الأمثل للعراق وهو نهاية كيانه. إن غراهام فولر ومعه تيار اليمين الأميركي المتشدد كانوا يُنظّرون منذ أربعة عقود لدولة العراق على أنها قامت عام 1921 على أكتاف العرب السنة وأن الحل الطبيعي، بحسب نظريتهم وبرامجهم، هو عودة الغالبية الشيعية لحكم العراق، أي قلب الهرم السياسي وجعله قائما على حكم الشيعة وتحول السنّة إلى تابعين للسلطة.

لقد تحققت مقدمات الحلم الأميركي والإيراني بإزالة نظام صدام حسين وفق الحل العسكري الأميركي عام 2003، وبدأت عملية التفتيت والتفكيك الطائفي (سنة وشيعة وأكراد) وتحريك الصراع السياسي حول السلطة وتحويله إلى صراع اجتماعي بين المكونات. كان الهدف إشعال الصراع وزرع الفوضى وإدامتها حتى تصبح فكرة العزلة بين الطوائف والأعراق بداية لقبول فكرة الانفصال حلا لا مفر منه.

بعد فشل الأميركان في إنجاز مشروعهم بجعل العراق قاعدة انطلاق للشرق الأوسط بعد عام 2003، فقد رحّلوا مأزقهم هذا إلى الحالة العراقية التي صنعوها. في مقدمة هؤلاء الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب الذي أصر ابنه على الاحتلال العسكري بدعم رفيقه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير. قال بوش الأب “إن تقسيم العراق هو المخرج الوحيد من هذا المأزق”، واقترنت التصريحات الكثيرة بإجراءات عملية لاحقة، حيث وافق الكونغرس على مشروع بايدن لتقسيم العراق عام 2007 وبعده وافقت لجنة القوات المسلحة بالكونغرس بتاريخ 29 أبريل 2016 على اتخاذ إجراءات عملية لتوزيع المعونات الأميركية لكل من إقليم كردستان والأنبار على أساس دولتين مستقلتين من دون العودة لمركز بغداد.

تركّزت الفكرة الأميركية لتفكيك العراق من داخل جسمه السياسي والاجتماعي على بناء معمار سياسي طائفي تغيب فيه قيم الوطن، وتصبح العشيرة والطائفة ملاذا وحيدا بديلا عن المواطنة، ويتصاعد الصراع وتتمزق فكرة الولاء للوطن ليحل محلها الولاء للخارج أيا كان، وتسويق مقولات غريبة على المناخ السياسي التقليدي لتحل قصة “التسيّد الطائفي كوليد شرعي للمظلومية الطائفية”، وإباحة هيمنة رجال الدين وأنصافهم على السياسة، وتحريم المشاركة السياسية إلا للموالين لهذه الزعامة الطائفية أو تلك، والترويج للمال السياسي وتبييضه في حقل المنافسات الانتخابية ليخرج المال المنهوب من خزائن الحكومة والمنتقل بانسيابية إلى بطون الأحزاب وقادتها المتجبّرين بكهنوت الزعامات المقدسة، مقابل حماية مافيات الفساد ووضع أهل العراق للسنوات الأربع عشرة الماضية تحت مرجل الشحن الطائفي الممنهج لدرجة تحول فيها الفرد منزوع الثقة بنفسه وبمن حوله من محيط العائلة والعشيرة، ويتصارع الناس على المصالح والمنافع حتى تغيب قيم التكافل والتعاضد الاجتماعي، في ظل انعدام تام للأمن، ولبناء المناخ الملائم لطرح المشاريع والأفكار والدعوات والرسائل الأميركية بالمصير المقبل لنهاية العراق، خصوصا بعد إتمام هيمنة الأحزاب الطائفية على حكم العراق وتنفيذ السلطة لسياسات التهميش غير العادلة ضد العرب السنة.

تعاون المحتل الأميركي مع الأحزاب الشيعية الحاكمة في تشريع قوانين “اجتثاث البعث” وحل الجيش الوطني العراقي لتلبية مقتضيات تلك الحرب الطائفية ضد العرب السنة بأغطية منها أنهم من التابعين لرئيس النظام السابق صدام حسين، مع أنه لم يفرّق بين شيعي وسني في قضية أمن سلطته، وأعدم من العرب السنة عددا أكبر من السياسيين الشيعة. وتم تشريع الدستور عام 2005 والذي كان للمستشار اليهودي الأميركي نوح فيلدمان الدور الرئيسي في صياغته وفق أهداف التقسيم، حين شرعن إقامة أقاليم ذات حكم ذاتي على غرار إقليم كردستان.

لقد أصبح كل منتسب لطائفة غير الطائفة الحاكمة مشروعا لأخطر الاتهامات والتشكيكات، حتى أولئك المشاركين في العملية السياسية ومؤيدوها من العرب السنة لم يسلموا من هذا التخوين. كان المطلوب الإذعان المذل لهيمنة الأحزاب الشيعية، مما ولّد الكراهية والحقد وعدم الثقة بين تلك الأحزاب والكتل الأخرى. ونفذت سياسات عزل عرب العراق عن امتدادهم العروبي، وجعل هذا الامتداد الطبيعي تهمة تضاف إلى اتهامات الإرهاب والتبعية لداعش. سياسة العزل مطلوبة لتحقيق الإذلال ولدفع الناس إلى التشبث بأي خيار حتى لو كان قيام كيان مستقل. هذا الشغل سهّل على تنظيم داعش مشروعه التخريبي حيث استظل زورا وبهتانا بالعرب السنة، كان المطلوب أن تبدو فكرة تقسيم العراق ليست مقبولة فحسب، وإنما حاجة للأمن الاجتماعي والسياسي لكل من السنة والشيعة في العراق بعد أن أصبحت حقيقة سياسية واقعة للضلع الكردي من معادلة الحكم الطائفي في العراق، وتتهيأ القيادة الكردية هذه الأيام للدخول في عالم الدولة المستقلة الصديقة لأميركا والغرب وإسرائيل والتي ستلقى اعترافا سريعا منهم.

لقد تم تضخيم قضية الصراع الشيعي السني في العراق من قبل جهات عدة داخلية وإقليمية لتسهيل الصدام “السني الشيعي” ليس على مستوى الداخل العراقي فحسب وإنما أيضا على المحيط العربي، ولتعزيز فكرة التصادم الطائفي السني الشيعي في المنطقة العربية، والهدف الأول هو سحق العراق مركز النهوض والثقل الكبير في موازين منطقة الشرق الأوسط. ولهذا أصبحت مقولة “نهاية العراق” ذات مقبولية وحاجة مطلوبة.

لا يهم الأحزاب العراقية الشكل النهائي للكيان القادم. المهم أن يكون في بطن الأرض النفط وعلى سطحها المراقد المقدسة

وبعيدا عن مشاعر العاطفة، نتساءل ما هي مقومات البلد الموحد، أليست الدولة المركزية القوية والنظام والقانون والقضاء العادل والأمن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الفردي والجماعي والإرادة الوطنية المستقلة؟ وهل هذه المعطيات متوفرة بالعراق؟

الجواب يعرفه العراقيون بالنفي، فإذن أليست هذه المعطيات الواقعية تؤكد غياب العراق إلا على خارطته الجغرافية الحالية، والكلام عن العراق الموحد أصبح شعارا يمارسه قادة الحكم وغيرهم من السياسيين لتسويق شعاراتهم المبطّنة وممارساتهم التي تقود إلى نتيجة التقسيم حتى وإن تم الدفاع الإعلامي عن “العراق الموحد”، فبعد هزيمة داعش في الموصل والعراق سيتم الشغل على إزالة العراق الحالي، فالأحزاب ومن خلفها الأجندات الإقليمية الطامعة لا تدافع عن عراق موحد من أجل الهوية الوطنية لأنها تعمل يوميا على تفكيك المجتمع، وإنما من أجل الحفاظ على هذه الملكية التاريخية “العراق الطائفي” بزعامة تلك الأحزاب ما عدا الأكراد الذين اختاروا مصيرهم، ولا يهم تلك الأحزاب الشكل الجغرافي النهائي للخارطة الجديدة للكيان القادم. المهم أن يكون في بطن تلك الأرض النفط وعلى سطحها المراقد المقدسة، أما البشر فليسوا من اهتمام السياسيين.

لقد سبق لمروجي مشروع “التسوية التاريخية” أن طالبوا قبل سنوات بإقليم البصرة والجنوب، والمقصود اليوم بهذه التسوية هو إعادة إنتاج السلطة لخارطة العراق من دون الأكراد وبزعامة الأحزاب الموالية لإيران، وإذا ما قبل رهط من العرب السنة فلا ضير في ذلك، وقد يقبل البعض حفاظا على مكاسبه الشخصية، أما الباقون فليذهبوا إلى الجحيم. وسيتم ابتداع عناوين عدوانية جديدة تطاردهم بعد نهاية داعش. وإذا ما أراد السنة قيام كيان خاص لهم فيعتقد زعماء الحكم أنه سيولد كسيحا، خصوصا إذا ما تم تقسيم الموصل، وبعد الذي حصل من عمليات التغيير الديموغرافي الممنهج داخل المحافظات العربية السنية التي تم تحريرها وقبلها العاصمة بغداد التي سيتم التمسك بها حتى وإن امتلأت شوارعها بالدم.

الكيان العربي السني إذا ما تحقق لا يخيف الحكم حتى وإن استند على العمق العربي السني. لا نستغرب كثيرا في الأيام المقبلة وفي ظل قيادة دونالد ترامب، صاحب سياسة العواصف والمفاجآت، أن يقتنع بفكرة زوال خارطة العراق الحالية وقيام الكيانين الطائفيين الشيعي والسني. المهم لديه استحواذه على النفط من هذه البقعة التي اسمها اليوم العراق، والفكرة ليست تنجيما أو خيالا نظريا بل هي أحد معطيات ما تم العمل عليه طيلة عقود وأصبح ناضجا هذه الأيام.

د. ماجد السامرائي

صحيفة العرب اللندنية