عالم أكثر ثراء وشعوب أكثر فقرا.. لماذا تتسع الفجوة الطبقية في العالم من جديد؟

عالم أكثر ثراء وشعوب أكثر فقرا.. لماذا تتسع الفجوة الطبقية في العالم من جديد؟

الفوارق الصارخة بين فئات المجتمعات، سواءً في العالم المتقدم أو في طريق النمو، تُنذر بمواجهات عنيفة إن لم تُتدارك وتُعالج بشكل موضوعي ومُنصف، خاصةً بعد أن تفاقمت هذه الهوة، وأصبحت مُستفِزة إلى حد تأجيج الغضب والدفع بملايين المواطنين إلى الشارع تعبيرًا عن تذمرهم، مثلما جرى في دول الربيع العربي، قبل أن تنتقل إلى بعض عواصم العالم من الولايات المتحدة إلى إسبانيا، على غرار حركة «احتلوا وول ستريت»، المنددة بسطوة المال والداعية  إلى احتلال وول ستريت، رمز الثراء، ثم عولمة المظاهرات في أكثر من ألف مدينة في 25 دولة قبل أن تتعرض لقمع من السلطات.

يُلقي جاك غولدستون، عالم الاجتماع الأمريكي والباحث في الحركات الاجتماعية والثورات، الضوء على هذا التطور الحاصل في المجتمعات، ويشير إلى القسم المشترك بين فئات مختلفة، وهو تذمرها من سطوة المال، ومعاناة باقي مكونات المجتمع.

غضب عارم من  نيويورك إلى مدريد

111

رغم التناقض الصارخ بين حركات مثل «احتلوا وول ستريت»، و«15 مايو» الإسبانية من جهة، والحركات الشعبوية مثل «تي بارتي» والجبهة الوطنية في فرنسا، وبيغيدا في ألمانيا من جهة أخرى، يُسجل غولدستون اشتراكها جميعًا في موجة الغضب تجاه من تعتبره هذه الحركات المستفيد الأوحد على حساب باقي المجتمع، وبينما يوجه يسار هذا الطيف السياسي غضبه إلى أرباب الثراء الفاحش. لم يجد اليمين الغاضب سوى المهاجرين ليُحمِّلهم مسؤولية سلب العمال المحليين مناصب عملهم ومنافستهم عليها.

رغم أن العالم اليوم أصبح أفضل حالًا مما كان عليه من قبل، من تحسن في مستوى معيشة الناس في كل أنحاء العالم تقريبًا، وارتفاع متوسط العمر ومستوى تعليمي أفضل، إلى جانب شبكة الإنترنت، التي مكَّنت معظم الناس من الاستفادة بكلفة قليلة من معلومات غير محدودة، يسأل غولدستون: ما السبب في هذا الغاضب المتعاظم؟ قد يفسر هذه الموجة من السخط معدلات الهوة بين فئات المجتمع.

تقلص الهوة بين فئات المجتمع داخل  العالم المتقدم

112

في الثمانينيات كان العالم مُنقسمًا إلى دول «متقدمة» أو غنية مثل اليابان وأوروبا وشمال أمريكا، ودول «متخلفة» أو فقيرة، أي باقي دول العالم. وقد كشف كريستوف لاكنر وبرانكو ميلانوفيتش من البنك الدولي أن متوسط الدخل في الدول المتقدمة في 1988 كان 20 إلى 30 مرة أعلى من معدل الدول الأكثر فقرًا. وفي الوقت نفسه، تقلص الفارق بين الأثرياء والفقراء في الدول الغنية إلى حد كبير، ما ساهم في ولادة مجتمعات متساوية نسبيًا، بفضل النمو الصناعي الذي خلق وظائف تُدِّر على أصحاب المهارات اليدوية المتوسطة أجورًا جيدة، خاصة بين نهاية الحربة العالمية الثانية 1945 وحرب فيتنام في 1975.

في كندا، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، ارتفعت حصة نادي الواحد في المائة الأغنى من الدخل القومي من 10 إلى 16% قبل الحرب العالمية الثانية، ثم انحدرت إلى 8% في أواخر السبعينيات، أما في أوروبا واليابان، فقد انخفضت حصة نادي الواحد في المائة الأغنى بصورة أكثر خطورة، من 11 إلى 18%  قبل الحرب العالمية الثانية إلى 4-9% بحلول أوائل الثمانينيات.

انقلاب مسار الفوارق

بعد هذا العصر الذهبي للطبقات الوسطى في العالم المتقدم، انقلب اتجاه مسار الفوارق بين الفئات بانخفاض- هذه المرة- مستوى التفاوت بين البلدان المتقدمة والنامية منذ الثمانينيات، بينما تعمَّق الفارق داخل الدول الغنية ذاتها. لقد شهدت الثمانينيات أيضا انفتاح الصين، ثم الهند نحو الاقتصاد العالمي، ما ساهم في انتشار سلاسل التوريد العالمية التي وفرَّت سلعًا وخدمات غير مكلفة بفضل عمالة آسيوية رخيصة، كما أصبح منتجو السلع الأساسية مثل البرازيل وإندونيسيا وجنوب إفريقيا من أكبر المُصدرين العالميين، فضلا عن ارتفاع أسعار النفط من قِبل دول أوبك، ما حوَّل الدخل من العالم الغني إلى الدول المنتجة للنفط.

وقد تلا ذلك ارتفاع سريع في الأجور في العالم النامي، وخروج مئات الملايين من دائرة الفقر في الصين والهند وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وحتى أجزاء من إفريقيا. ونتيجة لهذه التغيرات، أصبح الانقسام بين الدول «الغنية» و«الفقيرة» أقل وضوحًا، وبحلول عام 2011، لم يعُد هناك فرق صارخ في متوسط الدخل بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية كما كان في 1988؛ بسبب نهوض «الطبقة الوسطى العالمية» الجديدة في العالم النامي، وجمود الدخول لدى الطبقات المتوسطة في الدول الغنية.

113

في 1980، كان اقتصاد الولايات المتحدة يتجاوز عشرة أضعاف حجم اقتصاد الصين، وفقًا لصندوق النقد الدولي، وكان الناتج المحلي الإجمالي للصين يعادل حوالي 8% من ناتج الولايات المتحدة، وبحلول 2014، أصبح اقتصاد الصين يتجاوز قليلًا نظيره في الولايات المتحدة، فيما شهد معدل نمو الهند في السنة ذاتها ارتفاعًا ملحوظًا في حدود 40% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، و20% بالنسبة للبرازيل.

أما مقارنة بالاقتصاد الأوروبي، فقد شكَّلت التغييرات في العالم النامي مستوىً أكثر لفتًا للأنظار، ففي 1975كان الاقتصاد الفرنسي يفوق ضعف حجم اقتصاد الصين وحوالي ثلاث مرات نظيره في البرازيل. وبحلول 2014، بلغ حجم الاقتصاد الصيني ما يقرب من أربعة أضعاف اقتصاد فرنسا، فيما اقترب حجم الاقتصاد البرازيلي من نظيره الفرنسي، مع الإشارة إلى أن هذه التغييرات الهائلة وقعت خلال جيل واحد فقط.

وفي غضون 40 سنة، أصبح عدد كبير من البلدان النامية السابقة ضمن قائمة 20 دولة الأكثر ثراء في العالم، مثل الصين، والهند، والبرازيل وإندونيسيا والمكسيك، وكلها تتمتع باقتصادات أقوى من إيطاليا التي تُشكِّل رابع أكبر اقتصاد في أوروبا.

وفقًا لصندوق النقد الدولي، كان متوسط دخل الفرد في دول مثل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة يساوي بين 20-30 مرة دخل الفرد في الصين والهند في 1980. وبحلول عام 2014، تقلَّصت الفجوة بين 6 إلى 10 أضعاف بالنسبة للهند، وفقط 3 إلى 4 مرات بالنسبة للصين. وفي الوقت نفسه، شهدت الدول الغنية ارتفاعًا كبيرًا في مستوى التباين داخل مجتمعاتهم، كما ساهم إدماج العمالة الآسيوية وسلاسل التوريد العالمية للسلع في نقل الثروة باتجاه مدراء الشركات العالمية، ففي أستراليا، وكندا، وأيرلندا، ونيوزيلندا، والمملكة المتحدة، ارتفعت حصة نادي الواحد في المائة الأغنى من 1.5 إلى الضعف منذ أوائل الثمانينيات، وفي معظم البلدان الإسكندنافية وأوروبا الجنوبية، تضاعفت حصة نادي الواحد في المائة الأغنى في العقود الثلاثة الماضية.

كان للنشاط الحثيث على الإنترنت، حيث تتداول تريليونات من الدولارات، دون الحاجة إلى فيالق العمال، دورًا كبيرًا في تحوّل مسار توزيع الثروة والدخل، فشركة «ألفابت» مالكة جوجل، توظف 61 ألف عامل في الولايات المتحدة، و«أبل» التي تليها مباشرة، توظف 76 ألف عامل داخل البلاد، بالمقابل، كانت جنرال موتورز توظف 618365 من العمال الأمريكيين، في حين تستأثر شركة Airbnb التي توظف 1600 عامل، على قيمة سوقية تتجاوز 25 مليار $، ليتضح أنه لم يعُد من الضروري توظيف أعداد كبيرة لجني ما قيمته المليارات من الدولارات.

هجرة شركات التصنيع  نحو البلدان ذات الأجور المنخفضة

114

يُشير غولدستون إلى هجرة التصنيع العالمي باتجاه دول ذات الأجور المنخفضة، كسبب للضرر الذي لحق بالعمال في الدول المتقدمة، وحرمان الكثير منهم من سبل عيشهم، إذ تُقدر دراسة، أجراها خبراء اقتصاديون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أن تحوُّل التصنيع إلى الخارج أفقد الولايات المتحدة 2.4 مليون منصب شغل، كما كشفت الدراسة أنه على مدى السنوات الـ30 الماضية، تركزت ثمار النمو العالمي في البلدان الغنية بين أيدي مدراء المؤسسات والمديرين التنفيذيين، والممولين، بينما عانت الطبقات الوسطى والدنيا ضغوطًا أفقدها وضع الطبقة الوسطى، الذي كانت تنعم به من قبل، مثلما تبينه دراسة لمركز بيو للأبحاث من انخفاض نسبة البالغين في الولايات المتحدة الذين كانوا ينتمون لأسر الطبقة المتوسطة من 61% في 1971، إلى 50% بحلول 2014.

ورغم كل المؤشرات الدالة على أن المهاجرين ليسوا سببًا في فقدان الأمريكيين مناصب شغلهم، تظل الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة تنظر إلى ارتفاع وتيرة الهجرة كسبب في معاناتهم وتغيير عالمهم، بينما يعود سبب وضعهم الصعب إلى التغييرات في العولمة والتكنولوجيا.

هناك شعور بالاستياء من تعميق الفوارق بين الطبقات داخل الدول النامية أيضًا، إذ يُعاني أهالي القرى والأحياء الفقيرة، أو الذين يعملون في المناجم وغيرها من الأعمال الخطرة، من الفقر، والشعور بالحنق أمام مشاهد الثروات الفاحشة المُستفِزة، وليس غريبًا أن يتسبب مثل ذلك الوضع المجحف في اندلاع الربيع العربي، الذي كان بمثابة أحد أعراض الضيق الاقتصادي العميق، مثلما تُعبِّر عنه صرخة المنطلقة من شوارع دول الثورات العربية منذ 2011. ويشير تقرير حديث للأمم المتحدة أن ما بين 1990 و2010 تعمقت الهوة في معدلات الدخل في البلدان النامية بنسبة 11%، والأهم من ذلك، أن أكثر من 75% من السكان في المجتمعات النامية يعيشون في أماكن تفاقَم فيها الفارق حاليًا في الدخول بين الطبقات أكثر مما كان عليه في 1990.

صدى هذا الإحباط وصل إلى المستوى العالمي أيضًا، إذ تشعر الدول ذات الاقتصادات الكبيرة الناشئة في آسيا وأمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط بالغضب؛ بسبب استبعادها حتى الآن من الأدوار القيادية في المؤسسات العالمية الكبرى التي أنشأتها الدول المتقدمة، حيث لا يزال صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومجلس الأمن للأمم المتحدة حكرًا على نادي أوروبا وأمريكا.

يرى الكاتب أنه ليس من السهل ولا الواقعي تقديم حلول بسيطة لمعالجة هذا الخلل المتزايد، لكن باستطاعة الدول أن تبدأ بتبني قوانين محلية؛ لتوفر المزيد من فرص العمل والخدمات الأساسية، فضلا عن الرعاية الصحية الأساسية بأسعار معقولة، والسكن اللائق، والضمان الاجتماعي، للحد من نطاق ولسعة هوة عدم المساواة داخل مجتمعاتها، مثل نقل بعض أعباء الضمان الاجتماعي ليتحمله أصحاب الدخل المرتفع. ويعتبر غولدستون أن عدم المساواة في الدخل لا يُشكِّل في حد ذاته أمرًا مُضِرًّا، لو اقتصر الفارق على نوع السيارة أو مستوى العطلة التي يقضيها صاحبها، لكن عندما يتجاوز الأمر ليفرض عراقيل ومضايقات في تعليم الأبناء أو الحصول على مساكن لائقة، وتحمل نفقات الرعاية الصحية، والحصول على وظيفة جيدة الأجر، عندئذ يُثير هذا التباين المُستفز الغضب والقلق وفقدان الثقة.

وعلى الصعيد العالمي، يستدعي الوضع مراجعة شاملة لمؤسسات الحكم العالمية، بما في ذلك ضرورة إنشاء مؤسسات أفضل للتعامل مع تعاظم تدفقات المهاجرين واللاجئين، أما في حالة عدم الاعتراف بهذه التغيرات والتعامل معها بشكل مناسب، محليًا وعالميًا، فما من شك أن السياسة الداخلية في دول العالم والعلاقات الدولية ستتعقد أكثر وتصير أكثر تطرفًا وخطورة من أي وقت مضى.

الكشك – التقرير