نظرية ماركس للأزمات الاقتصادية

نظرية ماركس للأزمات الاقتصادية

 

ستيوارت إيسترلينغ

إنّ الرأسمالية نظامٌ اقتصادي ميّالٌ – في جوهره – إلى الوقوع في الأزمات، وتدفعه قوىً تجعله غير مستقر، وفوضوي، ونازعًا للتدمير الذاتي؛ هذا الأمر ينطبق عليه اليوم كما انطبق عليه قبل 150 عامًا، حين وصف كارل ماركس ومُعاوِنه فريدريك إنجلز، الرأسمالية في «البيان الشيوعي» بأنها مجتمعٌ «أبدع، كما في السِّحر، وسائل الإنتاج والتبادل الضخمة، يُشبه المشعوذ الذي فقد سيطرته على القوى الجهنمية التي استحضرها».

حقًا، فمجتمعنا الحاضر ذو طفرات وانهيارات سوق الأسهم، والتسريح المتواتر والبطالة طويلة المدى، وفضائح الشركات وانقطاع الكهرباء، يبدو مماثلًا لوصفهما أكثر من أي وقتٍ سبق. والانكماش الاقتصادي الحالي ليس استثناءً.* فالولايات المتحدة، اليوم، في وسط أطول مدة خسارة وظائف منذ الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي. حقيقةً، الاقتصاد الأمريكي اليوم يقلّ عمّا كان عليه قبل عامين بحوالي 2،6 مليون وظيفة. في المقابل، خسر مليون شخصٍ تغطية التأمين الصحي، وأما الإفلاس الشخصي فقد وصل لمستوى قياسي قدره 1،5 مليون منزل خلال عام 2002. باختصار، الأزمات الاقتصادية، الركود والكساد، كانت جزءًا من الرأسمالية منذ ولادتها، ورغم الوعود القائلة بالعكس، لا تزال هذه الأزمات تشوب النظام حتى يومنا هذا.

أهمية نظرية الأزمة

إنّ فهم الاندفاع نحو الأزمات لهو أمرٌ مركزي في تحليل ماركس للرأسمالية وحججه لإمكانية وضرورة التغيّر الثوري. فبالنسبة لماركس، وجود عدم المساواة والفقر وحده ليس ما يقلب العمّال على النظام الرأسمالي، فهذه المشاكل طالما كانت جزءًا من المجريات الروتينية لأي اقتصادٍ رأسمالي «معافى». فالأمر ذو الأثر الاجتماعي والأيديولوجي الأكبر هو انعدام الأمن والاستقرار، والخراب الذي تحضره الأزمات، دوريًا، على حياة المنتمين للطبقة العاملة. وبهذا يجادل ماركس في «رأس المال» أنّ الرأسمالية «تبدّد كلّ الثبات والأمن في وضع الشغّيل…تهدّد دائمًا…بأن تنزع من يده وسائل كفائه، وأن…تجعله زائدًا عن حاجتها. لقد رأينا…كيف يقوم هذا الخصام [الطبقي] بالترويح عن غضبه…في الضحايا البشرية المتتالية من صفوف الطبقة العاملة، في تبذيرٍ لقوة العمل بالغٍ في تهوّره، وفي الدمار تسببه الفوضى الاجتماعية التي تحوّل كلّ تقدّمٍ اقتصادي لكارثة اجتماعية».

باختصار، تعني الأزمات أن سير النظام الرأسمالي ذاته لا يضمن حتى الفتات الذي يرمى للعامل.

وللأزمات أثرٌ على ثروات الرأسماليين أيضًا. فهي تدمّر ما أسماه ماركس بـ «الأخويّة التشغيلية للطبقة الرأسمالية» وتنتج صراعًا مفتوحًا للبقاء بين الرأسماليين أنفسهم، وصراعًا يخوضه رأس المال ضد الطبقة العاملة. وبسبب هذا الأمر، حتى الأزمات الاقتصادية الصغيرة نسبيًا من الممكن أن تؤدي لانعدام الاستقرار السياسي، والحيرة الأيديولوجية في صفوف الطبقة الحاكمة، واحتداد الصراع الطبقي والحروب. يجادل ماركس أن الأزمات «تحمل في قطارها دمارًا مريعًا، وتجعل، كالزلال، المجتمع البورجوازي يزعزع ذات أساساتِه». وبالتالي، فإنه من أثر الأزمة الرأسمالية هذه تنبع احتمالية التغيّر الثوري، ليس كأمرٍ محتوم، وإنما كشيءٍ ممكن في يد الطبقة العاملة. وكما أشار الماركسي الروسي فلاديمير لينين مرّة: «الاضطهاد وحده، مهما كانت شدّته، لا يؤدي دائمًا لانبثاق وضعٍ ثوريّ في البلاد المعنية. في أغلب الحالات، لا يكفي لتحقّق الثورة ألّا ترغب الطبقات الدنيا بأن تعيش بالطريقة القديمة. من الضروري أيضًا ألّا تكون الطبقات العليا قادرةً على الحكم بالطريقة القديمة». هذا الشرط تخلقه وتفاقمه الأزمة الاقتصادية، ومعها انعدام الاستقرار، والاستقطاب، والصراع الذي تولّده.

وزد على ذلك أنّ ديمومة الأزمات في ظل الرأسمالية لا تجعل من التغيّر الثوري أمرًا ممكنا وحسب، بل وضرورةً ملحّة أيضًا. وكما جادلا ماركس وإنجلز في «البيان الشيوعي»، كان الصراع الطبقي، تاريخيًا، «قتالًا انتهى كل مرة، إما في إعادة تشكيلٍ ثورية للمجتمع بمجمله، أو بالدمار المشترك للطبقات المتنازعة». وكون الرأسمالية بإمكانها إنتاج «الدمار المشترك» لجميع المنخرطين فيها لهو واقعً بارزٌ للعيان. و«أكثر الخرابات إرهابًا» التي يصفها ماركس، المتسببة بالفقر، والجوع، والدمار البيئي والحروب، ازدادت، ليس إلا، منذ عصره. ولهذا السبب، جادل كلٌ من ماركس وإنجلز أن هذه الطبيعة الميالة للأزمات الخاصة بالرأسمالية تخلق الحاجة للاشتراكية، ليس فقط من أجل إلغاء الفقر وانعدام المساواة، بل لإلغاء الكوارث الاقتصادية والاجتماعية المتكررة، المتوطّنةَ النظامَ الرأسمالي.

هذه المقالة ستحاول رسم العناصر الأساسية لنظرية الأزمة الموجودة في كتابات ماركس حول الاقتصاد، بادئةً بمراجعة لبعض أسس تحليل ماركس.

طريقة ماركس

كان هدف ماركس هو «تعرية قانون الحركة الاقتصادية للمجتمع الحاضر». بماذا تختص طريقته الاقتصادية كي تتمكن من توضيح كيفية سير الرأسمالية؟

جادل آدم سميث، وهو عالم اقتصاد بورجوازي عاصر القرن الثامن عشر، أن الرأسمالية والسوق الحر قدما من «ميلٍ في الطبيعة البشرية…إلى مقايضة ومبادلة شيءٍ مقابل شيءٍ آخر». وزعم عالم اقتصادٍ رأسمالي آخر، ليونيل روبنز، أن الرأسمالية تتكون من «سلسلة من العلاقات المستقلة بين الرجال والبضائع الاقتصادية». في رأيهم، العلاقات الاقتصادية بين الأشخاص المختلفين ليس ما هو مهم، بل العلاقة بين الناس والمنتجات. بعبارة أخرى، علاقتك مع علبة صابون «تايد» للغسيل أكثر أهمية لفهم الرأسمالية من علاقتك برئيسك.

في المقابل، يجادل ماركس في «رأس المال» أن «العلاقة بين العمل المأجور ورأس المال تحدد الطبيعة الكلية لنمط الإنتاج [الرأسمالي]». كان هدفه هو تجاوز الدراسة المحصورة بعملية التبادل (البيع والشراء)، التي تخفي ما يحدث تحت السطح. وعلى حد تعبير ماركس: «العامل الذي يشتري رغيف خبز والمليونير الذي يقوم بالفعل ذاته يبدوان في هذا النشاط كمجرد مشتريين، مثلما…يبدو البقّال كمجرّد بائع. كل أوجه [الاقتصاد] الأخرى هنا تُدثَر». عن طريق التركيز فقط على قواعد وآليات التبادل، سيزعم علماء الاقتصاد البورجوازيون أننا جميعًا نساهم كأفرادٍ متكافئين في الاقتصاد الرأسمالي؛ الجميع، سواءً أكانوا أغنياء أم فقراء، لديهم حق شراء رغيف خبز (أو يخت) بسعرٍ معين. ولكن، وعن طريق تحليل مجال الإنتاج وبجواره «العلاقة بين العمل المأجور ورأس المال»، يتمكن ماركس من كشف التناقضات الطبقية الكامنة داخل النظام التي يتجاهلها علماء الاقتصاد الرأسماليون.

كما أن علماء الاقتصاد البورجوازيين يرون العلاقات الرأسمالية بصفتها الترتيب الطبيعي للأمور، نابعةً عن «ميلٍ في الطبيعة البشرية»، كما زعم آم سميث. والنتيجة، بالنسبة لهم، هي، كما يشير ماركس، أن «السوق العالمي، وأحواله، وحركة أسعار السوق، وفترات الدَين، والدورات الصناعية والتجارية، وتقلبات الطفرات والأزمات، تبدو…كقوانين طبيعية غالبة تفرض، بصورة لا تقاوم، إرادتها عليهم، وتواجههم كضرورةٍ عمياء». جادل ماركس، بدلًا عن ذلك، أن «عملية الإنتاج الرأسمالية هي شكلٌ مُحدّد تاريخيًا لعملية الإنتاج الاجتماعية عمومًا». وسعى لتحليل الرأسمالية والسوق تاريخيًا، ليس كنتيجة غير متغيّرة لـ «قوانين طبيعية»، إنما كنظام ديناميكي ينبثق إلى الوجود، مثله مثل مجتمعاتٍ طبقية أخرى، في مرحلة معيّنة من التاريخ البشري، وتقوّضه تناقضاته بشكل منتظم.

وِفْق ماركس، وقع الإنتاج في قلب كل المجتمعات البشرية: تحويل الطبيعة لإنتاج الأمور اللازمة للحفاظ على بقاء ذلك المجتمع. في المجتمعات الطبقية، العنصر المفتاحي هو أن إحدى طبقات المجتمع تأخذ جزءًا من منتجات عمل طبقة أخرى وتحتفظ بها لنفسها. ففي ظل النظام الإقطاعي، على سبيل المثال، يأخذ اللوردات جزءًا من منتجات عمل الأقنان: قضى الأقنان جزءًا من أسبوع عملهم لإنتاج بضائع لأنفسهم، وجزءًا من عملهم استُنفِذ لإنتاج بضائعٍ للورد؛ بإمكان القن أن ينتج أكثر مما يستهلك، والزائد يذهب إلى النبلاء. سمّى ماركس هذا العمل الزائد بـ «فائض العمل»، واستخراج الفائض هذا سمّاه بالاستغلال.[1]

في ظل الرأسمالية، النقيضان ليسا اللوردات والأقنان، إنما الرأسماليون والعمال. وعنصرٌ مركزي في تحليل ماركس للرأسمالية هو كيفية تمكن الرأسماليين من الحصول على فائض العمل من العمّال. وبسبب كيفية سير السوق، يتخذ الاستغلال في ظل الرأسمالية صورة أكثر تقنّعًا من أنماط الإنتاج السابقة. وإن «نظرية القيمة» أو «نظرية العمل للقيمة» الخاصة بماركس لهي أداةٌ مهمة في كشف هذه العملية.

دور قانون القيمة

كل منظومة إنتاج عليها ضبط مقدار عمل الفرد المبذول في إنتاج شيءٍ ما مقابل آخر، كي لا يستنفذ المجتمع عمله على أشياء لا حاجة لها.[2] وبشكلٍ عام، في المجتمعات السابقة للرأسمالية أنتج الناسُ الأشياء، مباشرةً لأجل أفرادٍ آخرين، وليس من أجل البيع في سوق، أي، في صياغة ماركس، كانت غاية الإنتاج هي الاستعمال، لا التبادل. وبالتالي أنتجوا من أجل حاجات ورغبات أنفسهم، أو مجتمع الصيد وجمع الثمار الخاص بهم، أو وحدة عائلتهم، أو لوردهم، أو مُستَعبِدهم وما إلى ذلك. أنتجوا لأن «القبيلة بحاجة إلى غزال» أو لأن «اللورد بحاجة إلى بطاطا» أو لأن «المنزل بحاجة إلى حطب».

إنّ الرأسمالية مختلفة للغاية عن أنماط الإنتاج السابقة. ففي ظل الرأسمالية، كل منتجات العمل البشري تقريبًا تصبح سلعًا، أي أنها تُنتَج بغاية بيعها. سمّى ماركس ذلك بـ «إنتاج السلع المُعمَّم»؛ يقتني الناس حاجاتهم ورغباتهم عن طريق شرائها في السوق، وينتج الناس ما يحتاجه ويرغب به الناس الآخرون عن طريق بيع الأشياء في سوقٍ ما. ولكن إنتاج الأشياء بغاية البيع (بغاية الاستبدال) يخلق دينامية جديدة مختلفة عن المجتمعات التي أنتجت بغاية الاستعمال المباشر. وتخصيص العمل في هذا النوع من الاقتصاد يضبطه قانون القيمة، وستساعدنا بعض الأمثلة على توضيح كيفية عمل هذا القانون.

بإمكاننا أن نبدأ بمثالٍ بسيط: أحد أولى أشكال التبادل هي «حِرَف» الفلّاحين، أو الإنتاج المرتكز على المنزل. غير أن هذه المنازل كانت غالبًا مكتفية ذاتيًا، من الممكن أن تُستبدَل الشموع المُنتَجة عند عائلة فلّاحية معيّنة، مثلًا، مقابل سلّة مُنتَجة لدى عائلة أخرى. ويمكن لسكّان قرىً مختلفة استبدال هذه البضائع في السوق المحليّة. بإمكان الفرد أن يتخيل سوقًا كهذه يستبدل فيها صنّاع الشموع بضائعهم مع أولئك الذين ينسجون السِلّال. واضعين بعين الاعتبار تكنولوجيا ذلك الزمن، دعنا نقل أن نسج سلّة يتطلب ما قيمته ثمان ساعات من العمل، وإنتاج شمعة يتطلب ساعةً واحدة. حين يذهب الفلّاح إلى السوق، يرغب الجميع بالحصول على أقصى ما يمكن مقابل وقت عملهم، ولن يقوم أي شخص عاقل باستبدال دزّينة شموع مقابل سلّة، لأنه حينها سيستبدل ما استلزمه/ا إنتاجه اثنا عشرة ساعة مقابل شيءٍ بالإمكان إنتاجه في ثماني ساعات. ومن الناحية الأخرى، لا يمكن لناسج سلال أن يفلت بمحاولة الحصول على اثني عشرة شمعة مقابل سلّته أو سلّتها، مهما كان الوقت الذي اتخذه نسجها. سيحصل الشاري، حينها، على سلة من شخصٍ آخر (أو لربما سينسجها بنفسه).[3]

إذًا، فمحصول استبدال البضائع (السوق) هو أن مقدار وقت العمل الضروري لإنتاج شيءٍ ما يُصبح مفروضًا. سمّى ماركس ذلك بـ «وقت العمل الضروري اجتماعيًا»: الوقت الاعتيادي المعتقد أنّه ضروري لإنتاج سلعة باستخدام أفضل الوسائل والتقنيات المتاحة آنيًّا على مستوىً واسع. و«قيمة» سلعةٍ ما، في وصف ماركس، كانت ببساطة مقدار وقت العمل الضروري اجتماعيًا لإنتاجها. وفي هذا المثال، قيمة ثمانية شموع مساوية لقيمة سلة واحدة.

ولكن ماذا لو رغب الناس بسلعة ما أكثر من أخرى؟ بإمكاننا أن نأخذ هنا مثالًا أكثر تعقيدًا. أنظر مثلًا لمجتمعٍ من الحِرفيين أصحاب المهن الحرّة الذين ينتجون لبعضهم البعض في سوقٍ ما. وبذلك هنالك خيّاطون وأساكفة وحدّادون وما إلى ذلك، ولكن ليس هنالك رأسماليّون بعد. أشار ماركس لهذا النوع شبه الخيالي، السابق للرأسمالية، بـ «الإنتاج السلعي البسيط».[4] والمنتجون في هذا المجتمع يتبادلون البضائع مع بعضهم البعض عن طريق المقايضة أو باستخدام نوعٍ من أنواع النقود. يصبح استخدام النقود ضروريًا مع زيادة تعقيد الاستبدال، حين يرغب صانع الشموع باقتناء سلة، ولكن ناسج السلال لا يريد اقتناء شموع، على سبيل المثال. ونتيجة لذلك، تُستخدم سلعةٌ متفقٌ عليها (كالذهب) كنقود، أو «كمقياسٍ عمومي للقيمة» بعبارة ماركس. وبالتالي تُستخدَم النقود في السوق لتمثل مقدارًا من قيمة السلعة التي بعتها، وأيضًا مقدار قيمة السلع الممكن لك شراؤها.

وكما في السابق، يرغب كل مُنتِجٍ بالحصول على أكبر مقدار مقابل وقت عملهم. دعنا نقل أن زوجَ أحذية يملك القيمة ذاتها التي تملكها كنزة صوف حاكها الخياط (أي أن إنتاجهما يتطلب نفس وقت العمل). بالتالي ستتم مبادلة هذين المنتجَين مقابل بعضهما البعض، أي: مقابل مقدار النقود ذاته.[5] ولكن إن زاد الطلب على الأحذية، سيرتفع سعرها، وبالتالي ستحصل على مقدارٍ من النقود مقابل بيع زوج أحذية أكثر مما ستحصل عليه لو بعت كنزة صوف. سيلاحظ الخياط ذلك، أن الإسكافي يحصل على مقدارٍ من النقود أعلى مما يحصل عليه الخياط مقابل وقت العمل ذاته. وبذلك سينتقل خيّاطون حاليّون ومستقبليّون أكثر لصناعة الأحذية، مما سيخفض السعر إلى نقطةٍ يكون فيها سعر بيع المنتجات المستلزمة وقت العمل ذاته متساويًا. وبهذه الطريقة، لا يضبط قانون القيمة عملية التبادل وحسب، بل حتى الإنتاج الاجتماعي، أي: ما يُنتَج والطرق التي يُبذَل فيها عمل الناس.[6] ومع أن الأسعار قد تتذبذب مع السوق، فالعامل الرئيسي في كيفية تبادل البضائع هو مقدار وقت العمل المبذول في إنتاجها. وكما كتب ماركس: «لا يضبط العرض والطلب إلّا التذبذبات المؤقتة في أسعار السوق. سيشرحان لك لماذا سعر السوق لسلعةٍ معيّنة يزداد أو ينخفض عن قيمته، ولكن ليس بإمكانهما احتساب القيمة ذاتها».

في نقطة معينة من التاريخ، يفسح الإنتاج السلعي البسيط (ومعه أشكال المجتمع الأخرى) المجال للرأسمالية. تُنتَج الكنزات لأجل السوق، ولكن عملية الإنتاج يتحكم بها رأسماليّون الآن. وأما الكنزات ذاتها فيحيكها عمّال: أناسٌ لا يملكون خيارًا سوى العمل لدى شخصٍ آخر من أجل العيش. (وكجزءٍ من صعود الرأسمالية، يتم تجريد الناس الداعمين أنفسهم تاريخيًا بأرضهم أو أدواتهم من هذه الأدوات والأراضي، بغاية خلق طبقةٍ من العمال). الرأسمالي لا يحيك الكنزات، ولكنه يملك النقود، وبذلك يفتح مصنع ملابس: يشتري الأدوات ويوظّف بعض الخيّاطين. والكنزات التي أنتجها الخيّاطون ملكٌ للرأسماليّ وهو من يبيعها. هذا العمل وهذه الأدوات التي اشتراها الرأسمالي هي ما يسميه ماركس بـ «رأس المال»، ألا وهو: المال المُستثمَر لخلق المزيد من الأموال. وهذا الأمر مختلفٌ عن الإنتاج السلعي البسيط، حيث هدف التبادل هو بيع الأشياء التي صنعتها للحصول على الأشياء التي تحتاجها ليس إلا.

ولكن لماذا يستغرق الرأسماليون في خلق أموالٍ أكثر مما بدأوا به؟ الأمر ليس متعلقًا بجشعهم فحسب، بل سببه التنافس. التنافس يُجبِر الرأسماليين على «مراكمة رأس المال»، أي: عليهم شراء المزيد فالمزيد من قوّة العمل وشراء آلاتٍ أكثر وأسرع.[7] بإمكاننا استخدام مثال صاحب مصنع الملابس لتفسير هذه العملية. مثل كل الرأسماليين، لدى هذا الشخص الدافع لإنتاج بضائعِه بصورةٍ أسرع من متوسط وقت العمل الضروري اجتماعيًا، كي يتمكن من بيع سلعته بسعر أقل من منافسيه ويزيد حصته في السوق. فلنقل إنه قد تم اختراع منوالٍ جديد يسمح للخياطين بإنتاج الكنزات بصورة أسرع وبأقل من سعرها الحالي؛ المنوال، إذًا، أداةٌ تزيد الإنتاجية. صاحب مصنع الملابس يبدأ باستخدام المناويل لأنها تمكن موظّفيه من إنتاج كنزاتٍ أكثر في اليوم الواحد.

صنع الكنزة يتطلب الآن وقت عمل الخياط، ووقت عمل الشخص الذي صنع المنوال. ولهذا السبب يقول ماركس أن الآلات «تمرّر قيمتها» إلى السلع الأخرى، وهو تعبيرٌ مجازي لوصف وقت العمل المعني. ولا تقوم الآلات بهذا التمرير دفعةً واحدة، فهي تُستنفد، بالاستهلاك والتلف الناتج عن الاستعمال، خلال فترةٍ طويلة أو قصيرة من الوقت. وتُمرَّر جزئيّةٌ محددة من القيمة المتجسّدة في الآلة، المنوال في هذه الحالة، إلى كلِّ كنزة مُنتَجة، وبجانبها كلّ العمل المُضاف حديثًا بواسطة الخيّاط المشغِّل للمنوال. (المواد المستخدمة لإنتاج الكنزة، مثل الصوف القادم من راعي الأغنام، تُمرَّر قيمته أيضًا إلى المنتج النهائي. فصنع الكنزة، إذًا، يتطلب عمل راعي الأغنام أيضًا). وأكثر الأمور أهميّة هو أنه مع إدخال المنوال كالتقنية المعيارية، ينخفض وقت العمل الضروري لصناعة الكنزات لوتيرة الآلة الجديدة، وإن أراد رأسمالي ما مواكبة هذه الوتيرة، فعليه شراء بعض المناويل.

إن لم يعيد الرأسماليون استثمار أموالهم بهذه الطريقة، وبالتالي يراكمون رأس المال، لن يتمكنوا من إنتاج بضائعهم نظرًا لمقدار الوقت الضروري اجتماعيًا والمتناقص، وبالتالي ستتوقف نشاطاتهم. فالرأسمالي بالتالي، وفقًا لماركس، «يشاطر المكتنز حبه المطلق للإثراء. ولكن ما يظهر عند المكتنز كهوسٍ في المزاج الفردي، يظهر عند الرأسمالي كفعلٍ لآلية اجتماعية، ليس هو إلّا واحدًا من تروسها…[إن] نمو الإنتاج الرأسمالي يحتم، دومًا، المضي في زيادة مقدار رأس المال الموظف في أي مشروعٍ صناعي، أما المنافسة فتجعل كل رأسمالي منفرد خاضعًا للقوانين الكامنة في نمط الإنتاج الرأسمالي كقوانين قسرية مفروضة من الخارج. فهي ترغمه على توسيع رأسماله باضطراد، بغية الحفاظ عليه، لكن توسيع رأسماله متعذر بغير تراكم تصاعدي».

بالتالي، الهدف المحرِّك للرأسمالية ليس الإنتاج من أجل الاستعمال، أو، ببساطة، الإنتاج من أجل زيادة الاستهلاك الشخصي. بل هو الإنتاج من أجل الأموال، كوسيلةٍ لزيادة المراكمة، فعلى كل رأسمالي أن يراكم رأس المال وإلا سيُفلِس.[8] فكما أعلن أحد المدراء التنفيذيين لشركة «يو إس ستيل» (U.S. Steell) في عبارته الشهيرة: «ليس هدفنا صناعةَ الفولاذ. بل هو جني المال».*

ولكن، كيف ينتهي الرأسمالي بنقودٍ أكثر من التي بدأ بها؟ تفسّر ذلك حقيقة أنه، في ظل الرأسمالية، تصبح قدرة العمّال الذاتية على العمل سلعة، أي: شيئًا للبيع.[9] ويقوم ماركس بتمييزٍ مهم بين مصطلح «العمل» و«قوة العمل» بغيّة شرح نتيجة هذا الأمر، فقوّة العمل هي ما يبيعه العامل على السوق: قدرته أو قدرتها على العمل. وأما العمل فهو النشاط والجهد الفعلي الذي يبذله العامل حال وصوله مكان العمل، أي: مقدار وقت العمل الممارَس والضروري اجتماعيًا، أو بالأحرى: قيمة البضائع المُنتَجة. ويصبح الربح ممكنًا للرأسمالي حين تكون قيمة البضائع التي أنتجها العامل بعمله، في فترة معيّنة من الزمن، أكبر مما يدفع له في أجره. فمن أجل أن يجني أموالًا أكثر مما بدأ به، سيحاول الرأسمالي تسديد أقل راتبٍ ممكن مقابل قوة عمل العامل، وسيحاول الحصول على أكبر قدر ممكن من العمل (عن طريق زيادة شدّة وسرعة العمل، أو عن طريق تمديد طول يوم العمل، على سبيل المثال). وفي يوم عملٍ معطىً ما، إنْ أنتج العامل ما يعادل أجره أو أجرها في أربع ساعات، فباقي العمل الممارَس في ذلك اليوم هو «عمل غير مأجور» حسب ماركس. وبعبارة أخرى، بإمكان العامل أن ينتج قيمةً أكبر مما يستهلك، ويمكن للرأسمالي أن يحصل على الزائد.

هكذا يحصل الاستغلال في ظل الرأسمالية؛ هكذا يُستخرج فائض العمل وما يسميه ماركس بـ «فائض القيمة». وإن نظرنا للاقتصاد فقط في حدود التبادل (البيع والشراء) سنغفل هذه الحقيقة. فعلى كل حال، يبيع الرأسمالي بضائع في السوق بأفضل سعرٍ ممكن، بينما يحاول العامل الحصول على أفضل سعرٍ مقابل قوة عمله أو عملها. ولكن تحليل ماركس يساعد على تفسير العلاقة بين العمل ورأس المال في اقتصادٍ رأسمالي بطريقة لا يقوم بها علم الاقتصاد البورجوازي. وما يتجلى حين يُنظَر للإنتاج في سياق القيمة هو أن الرأسمالي عليه دائمًا أن يسعى لزيادة فائض القيمة، الذي يخلقه العامل في موضع الإنتاج، إلى أقصى حدٍ ممكن، مهما كان سعر بضاعته. فحين يحدِّث الرأسمالي موظَّفه أو موظَّفته، لا يكون ذلك عادةً حول سعر منتجهما، بل حول مقدار الوقت اللازم لإنتاجه.

علاوة على ذلك، لا تُنتِج آلات وأدوات الرأسماليين فائض قيمةٍ كما يقوم العمّال. تمرّر المطرقة قيمتها إلى المنتج، ولكن ليس بإمكان الرأسمالي أن يأمر المطرقة بأن تثابر في عملها أكثر وأن تنتج قيمةً (وقت عمل) أكثر مما دخل في إنتاجها. فقوة عمل العامل هي المُدخَل الوحيد في عملية الإنتاج الممكن أن يعطي الرأسمالي أكثر مما دفع له، نظرًا للفارق بين قوة العمل المأجورة والعمل المُمارَس. (بعبارة أخرى، لا ينتظر الرأسمالي الذي يملك مطعمًا من الأفران والأواني والمقالي أن تحقق له أرباحًا، بل يترقب ذلك من الطباخ الذي يعمل لديه. ولهذا السبب سمى ماركس الأدوات والآلات بـ «رأس المال الثابت»، بينما «رأس المال المتغير» هو قوة عمل العامل المُشغَّلة لأجل الرأسمالي).

أضف على ذلك أنه في اقتصاد سوقٍ تنافسي، لا يمكن للرأسماليين، بصورةٍ عامة، زيادة ثروتهم، ببساطة، عن طريق «الشراء بسعرٍ أقل والبيع بسعرٍ أعلى»، فليست هذه الوسيلة التي استخدمتها شركاتٌ مثل «بوينغ» أو «جنيرال إلكتريك» أو «مايكروسوفت» لتوليد ثرواتها الضخمة. باختصار، مقدار القيمة التي يتحكم بها الرأسمالي (وبالتالي مقدار المال الذي يجنيه الرأسمالي) يولّده الاستغلال: استخراج فائض القيمة من العمال. ولهذا السبب يجادل الماركسيّون والماركسيّات أن استغلال العمال هو مصدر ربح الرأسمالي.[10] وأكثر الأمور أهميةً في هذا السياق هو أنه بدون هذا الربح ومراكمة رأس المال، وتدريجيًا، يتوقف نشاطه. وهذا يقودنا إلى الأزمات.

الشكل الذي تتخذه الأزمات في ظل الرأسمالية

في ذروة كلّ طفرة، سيعلن المدافعون عن الرأسمالية أن الكساد لن يأتي أبدًا، وأن «الدورة الاقتصادية» الرأسمالية قد أبطلت، وحتى الآن، دائمًا ما تبرهن خطأهم. فبسبب الاستغلال، يصبح الربح وتراكم رأس المال أمرين ممكنين في ظل الرأسمالية، ولكنه لا يضمنهما. فإن لم يكن هنالك أرباحٌ وتراكم (أو لو انخفضا فحسب)، ستُغلَق المشاريع التجارية، وسيخسر الناس وظائفهم، ولن تُسدَّد الديون، وستنهار المصارف، وستفلس الحكومات. باختصار، سيكون هنالك أزمةٌ اقتصادية.

إذًا، ماذا يجب على الرأسماليين القيام به من أجل أن يحققوا أرباحًا ويراكموا رؤوس الأموال؟ أولًا، عليهم أن ينجحوا في استخراج فائض القيمة من العمال، أي: الحصول على وقت العمل الزائد. وفي المجتمعات الطبقية السالفة، كانت هذه الخطوة الأولى كافية، ففي ظل النظام الإقطاعي، استحوذ السيد الإقطاعي على الحبوب والبيض والبطاطا التي أنتجها الأقنان وفعل بها ما يشاء؛ أكلها، أعطى بعضها لأتباعه، والبعض الآخر لسادةٍ إقطاعيين آخرين أو للكنيسة وهلم جرًّا. ولكن في ظل الرأسمالية هنالك خطوة إضافية، وذلك لأن الرأسمالي، بصورةٍ عامة، لا يستهلك المنتجات التي يصنعها العمال. فعوضًا عن ذلك، يجب أن تُبَاع السلع التي ينتجها العامل. وعلى حد قول ماركس في «رأس المال»:

يكتمل إنتاج فائض القيمة حالما تتشيأ في السلع الكمية المعتصرة من العمل الفائض. غير أن إنتاج فائض القيمة هذا لا ينهي سوى الفصل الأول من عملية الإنتاج الرأسمالية، أي عملية الإنتاج المباشرة. لقد امتص رأس المال مقدارًا معينًا من العمل غير مدفوع الأجر…ويأتي الآن دور الفصل الثاني من هذه العملية. فالكتلة الإجمالية من السلع، أي المنتوج الكلي…ينبغي أن تباع. فإن تعذّر ذلك، أو تحقق جزئيًا ليس إلا، أو بيعت السلع بأسعارٍ دون أسعار الإنتاج، فإن العامل قد استُغلّ حقًا، ولكن هذا الاستغلال لم يتحقق، بما هو عليه، بالنسبة إلى الرأسمالي…إن شروط الاستغلال المباشر لا تماثل شروط تحقيق هذا الاستغلال.

إذًا، فالشكل الذي تتخذه الأزمات الاقتصادية في ظل الرأسمالية يقع تحت تصنيفين اثنين: الأزمات الناتجة عن العجز عن استخراج فائض قيمة كافي، والأزمات الناتجة عن عدم القدرة على تحقيق فائض القيمة. كثيرًا ما سيعاني الرأسماليّون المنفردون من أحد هذين الاثنين، ولكن، حين يتأثر الاقتصاد بمجمله، فالطريقة الرئيسية التي تندلع بها أزمات التحقيق ناتجة عن ظاهرة تسمى بـ «فيض الإنتاج» أو «القدرة الفائضة». وأما الأزمات الناتجة من العجز عن استخراج فائض قيمة كافي يُنتجها قانون اسماه ماركس بـ «ميل معدل الربح للانخفاض». سنستعرض كلًّا من هاذين الاثنين على التوالي، بادئين بمناقشة أزمات التحقيق.

أزماتٌ في تحقيق فائض القيمة

ينبغي تحويل فائض القيمة إلى نقودٍ من أجل مراكمة رأس المال، أي أن «الكتلة الإجمالية للسلع، أي المنتوج الكلي…ينبغي أن تباع». ولكن بسبب فوضى السوق، أن تتمكن من بيع مُنتجِك ليس أمرًا مسلّمًا به، ولذا جادل ماركس في المجلد الثالث من «رأس المال» أن «التقلبات العنيفة في الأسعار تؤدي إلى انقطاعاتٍ، وتصادماتٍ كبيرة، بل وحتى كوارث في مجرى» العملية. والطريقة الرئيسية لتطور هذا النوع هو «فيض الإنتاج»، أي أنه قد أنتِج عددٌ من الأشياء تزيد عن قدرة الرأسماليين على بيعها بصورة مربحة.

وفي جذر هذه المشكلة يقع في الاندفاع الرأسمالي للمراكمة مهما كلف الأمر. فهو يخلق ميلًا كامنًا لدى الرأسماليين للإنتاج دون الاهتمام بمن قد يستهلك. كما يجادل ماركس: «بما أن هدف رأس المال ليس إشباع الحاجات، بل إنتاج الربح…فلا بد أن ينشأ باستمرار انعدام تناسب بين الأبعاد المقيَّدة للاستهلاك في ظل الرأسمالية، وإنتاجٍ يسعى أبدًا إلى تجاوز هذه القيود الملازمة له». يحصل هذا الأمر أثناء كل طفرة: هنالك صراعٌ بين الاندفاع لتوليد أكبر قدر ممكن من فائض القيمة بغيّة مراكمة رأس المال، والحاجة لتحقيق فائض القيمة هذا من خلال البيع. في عام 1999، مثلًا، لم يتم بيع نصف محصول القمح الأمريكي، مقدارٌ معادل لمليار بوشل (أو 35،2 مليار لتر). ومؤخرًا، وفق الـ «وول ستريت جورنال»، «وصل استخدام المصانع في الولايات المتحدة إلى أدنى مستوياته خلال 20 عامًا، وأوقفت مئات الطائرات النفاثة عن العمل بينما تطير البقية الطائرات وأكثر من ربعها خالٍ من الركاب. وبينما تزايدت أعداد الشقق الشاغرة، أُجبِر أصحاب العقارات على تخفيض الإيجارات، والبطالة وصلت لأعلى مستوياتها منذ ثمانية أعوام. باختصار، إن العرض المفرط يلاحق طلبًا منخفضًا جدًا». وهذا النسق نفسه ينطبق على بلدانٍ أخرى، في الصين، مثلًا، في عام 1977، «صُنِع مليون قميصٍ رجالي يوميًا، ملتحقةً بتخمةٍ قدرها مليار ونصف مخزّنةً مسبقًا في المستودعات. كان هنالك أيضًا عشرة ملايين ساعةً لم تُباع، وعشرين مليون دراجةٍ هوائية زائدة، ومئة ألف سيارةٍ ومركبة مخزّنة».

في ظل الرأسمالية، بالتالي، هنالك ميلٌ كامن لتجاوز الإنتاج حاجةَ السوق. غير أنّ هذا الأمر لا ينجم عن إنتاج أشياءَ زائدة عن حاجة الناس، بل زائدة عما يتمكن الناس من شرائه.[11] بإمكان النظام أن «يفرط في إنتاج» الملابس والقمح، ويظل، رغم ذلك، هنالك أناسٌ يقاسون البرد ويتضورون جوعًا لعدم قدرتهم على تسديد قيمتيهما. ووفقًا لماركس:

فالمسألة لا تتلخص في إنتاج وسائل عيش أكثر مما ينبغي نسبةً إلى السكان الموجودين. على العكس، فإنها تنتج بأقل ما ينبغي لكي تحيا جمهرة السكان حياة لائقة وإنسانية.

والمسألة لا تتلخص في إنتاج وسائل أكثر مما ينبغي لتشغيل ذلك القسم من السكان القادر على العمل. بالعكس…إن ما يُنتَج من وسائل الإنتاج لا يكفي من أجل أن يشتغل مشمل السكان القادرين على العمل على نحوٍ أكثر إنتاجية، بحيث يتقلص وقت عملهم المطلق…ولكن يجري دوريًا إنتاج قدرٍ كبير من وسائل العمل ومتطلبات المعيشة أكثر مما يسمح لها بأداء وظيفتها كوسائل استغلال للعمال بمعدل ربح معين…أي لا يمكن إنجاز هذه العملية من دون وقوع انفجاراتٍ متكررة دومًا.

المسألة لا تتلخص في إنتاج قدر من الثروات أكثر من اللزوم. ولكن يجري دوريًا إنتاج قدرٍ من الثروات أكثر من اللزوم بأشكالها الرأسمالية، المتناقضة.

باختصار، وكما يشير ماركس في «نقد الاقتصاد السياسي»، «هنالك حدود، ليست كامنة في الإنتاج بصورة عامة، بل في الإنتاج المبني على أساس رأس المال»، وذلك لأن توزيع البضائع لا يعتمد على حاجات الناس، بل على قدرتهم على شرائها، أي طلبهم.

ما يزال العديد من علماء الاقتصاد البورجوازيين يجادلون أنه، نظريًا، سيكون هنالك دومًا طلبٌ للأشياء المُنتَجة، بسبب مبدأ يسمّى بقانون ساي. يصرّح قانون ساي أن كل من يبيع شيئًا ما سيستخدم تلك النقود لشراء شيءٍ آخر لقاء ذلك. إذًا، إن باع العامل/ة عمله أو عملها، أو باع الرأسمالي منتجاته، سيستخدمون تلك النقود بغية الشراء. وبسبب هذا الأمر، دائمًا ما سيكون هنالك طلبٌ كافٍ بصورة عامة.

وجد ماركس إشكالاتٍ عديدة في هذه النظرية. أولها هي حالة رأسمالي، أو قطاعٍ صناعي، ينتج عددًا فائضًا من مُنتجٍ معين في سوقٍ معيّن، وهذا الأمر يحصل مرارًا وتكرارًا، وذلك لأن الطلب يتذبذب ليس إلا، وكل رأسمالي يرغب بالاستحواذ على أكبر حصة ممكنة من السوق. جادل ماركس أن فيض الإنتاج في صناعاتٍ معيّنة قد يسبب اندلاع أزمة فيض إنتاجٍ عامة في بقية الاقتصاد. وعلى حد تعبيره: «في أوقات فيض الإنتاج العام، يكون فيض الإنتاج في بعض المجالات دومًا نتيجة، وعاقبة، فيض الإنتاج في الأصناف التجارية الرئيسية». في اقتصادنا الحاضر، تشير «الأصناف التجارية الرئيسية» إلى الفولاذ أو السيارات أو الحواسيب، وليس المظلّات. لو كان هنالك فيض إنتاجٍ في هذه القطاعات الصناعية الرئيسية، سيستلزم الأمر أن تبيع منتجاتها بخسارة، هذا إن تمكنت من بيعها إطلاقًا. وقد تضطّر هذه القطاعات لتخزين منتجاتها، وبالتالي ستعاني عملية تراكم رأس المال في هذا القطاع الصناعي المعني، وسيشتري القطاع رأس مالٍ ثابت ومتغيّر أقل. وكل القطاعات الصناعية الأخرى المعتمدة على تزويد هذه القطاعات الرائدة ستكون هي الآن، أيضًا، واقعة في فيض إنتاج. ونتيجةً لذلك، ستنقطع «سلسلة التزامات الدفع الواجبة في آجالٍ محددة، في مئة موضع». ومن هنا يمكن للأزمة أن تتفاقم وتنتشر.

وهنالك حالةٌ أخرى ينهار فيها قانون ساي، في رأي ماركس. يحدث ذلك حين يبيع الرأسماليون بضائعهم ومن ثم يحجمون عن الشراء، أي أنهم يجنون أموالًا ولا يصرفونها. (أو، بدلًا من ذلك، حين يبيع العمال قوّة عملهم ويحجمون عن الاستهلاك). أحد العوامل المسببة لذلك هي دور الائتمان، حيث أن الرأسماليين مُدانون دومًا: وصل مستوى الاقتراض للشركات، في عام 2000، 74 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقمٌ قياسي. يقترض الرأسماليون من حصة أرباح وأجور المجتمع المودعة في البنوك، على أمل تسديدها لاحقًا من أرباحهم الخاصة، بالإضافة إلى الفوائد. ولكن بإمكان دور الائتمان أن يزعزع استقرار الإنتاج الرأسمالي، إذ أن معناه، أثناء الطفرة الاقتصادية، أنْ «يبدأ فرسان الربح في هذه اللحظة بالذات بلعب دور ملحوظ حيث يدبرون العمل بلا رأسمال احتياطي أو عمومًا بلا أي رأس مال، ناشطين، بالتالي، بالائتمان النقدي وحده». ونتيجةً لذلك، يشير ماركس،

يتفادى كل فردٍ صناعي أو تاجر ضرورة الاحتفاظ برأس مال احتياطي كبير، مثلما يتفادى الاتكال على عائداته الفعلية. من جهة أخرى تزداد العملية برمتها تعقيدًا…بحيث يمكن إسباغ مظهر مشروعٍ رصين جدًا يتصف بتدفق سلس للعائدات على مشروعٍ يواصل جهوده بهدوء خلال وقتٍ طويل حتى بعد ألا يعود هذا التدفق إلا على حساب مُقرِضي نقودٍ مخدوعين، جزئيًا، وعلى حساب مُنتِجين [عمّال] مخدوعين، جزئيًا. لذا يبدو المشروع، دومًا، موفور العافية على نحو مفرطٍ تقريبًا، عشية الانهيار مباشرة.[12]

أشهر الأمثلة الحديثة على ذلك هي شركة «إنرون».

يمكن لرأسماليٍّ مستدين بالتالي أن ينتهي به المطاف في وضعٍ عصيب. فقد يكون قد أنتج كومةً من السلع المحتوية مقدارًا كبيرًا من فائض القيمة، ولكن المصرف لا يهمه مقدار فائض القيمة أو المنتجات التي يملك، ما يرغب به المصرف هو النقود، ولذا على الرأسمالي أن يبيع منتجاته على أيّما سعر للحصول على تلك النقود، ولو عنى ذلك بيعها بأقل من قيمتها، ولو كان ذلك بخسارة.[13] فكما جادل ماركس، يهيمن على الاقتصاد الرأسمالي «سلسلةٌ إجمالية للمدفوعات تعتمد على بيع…السلع في إطارٍ زمني محدد»، بسبب الديون، وأنّ «هذه المبيعات القسرية تلعب دورًا مهمًا في الأزمات». حصيلة هذه المبيعات القسرية هو أن الرأسمالي لا يحقق كامل فائض قيمته، وسيكون لديه مالٌ أقل يمكن له إعادة استثماره، وسيشتري رأس مالٍ ثابت ومتغير أقل. ويمكن للأزمة أن تتفاقم من هنا وتنتشر.

عاملٌ آخر في بيع الرأسماليين وإحجامهم عن الشراء هو ميل معدل الربح للانخفاض (سنسهب في نقاشه أدناه). حتى لو انخفضت مستويات الأرباح، طالما يتمكن الرأسماليون الكبار من توسيع استثماراتهم بصورة معتبرة، بإمكانهم الحفاظ على مجمل ربحهم، ما أسماه ماركس بـ «كتلة الربح»، وزيادته. على سبيل المثال، إن جنى رأسماليٌّ ما ربحًا قدره 10 بالمئة على استثمارٍ قدره مليون دولار، و8 بالمئة فقط على استثمارٍ قدره مليوني دولار، فسوف يحقق فعلًا نموًا في كتلة ربحه من مئة ألف دولار إلى مئة وستين ألف دولار. ولكن في نقطةٍ ما سيصل لها أثناء فترة الطفرة، حيث لا يعود لدى الرأسمالي الحافز لمراكمة المزيد. تخيّل لو أن ذلك الرأسمالي ذاته قد جنى ربحًا قدره 10 بالمئة على استثمارٍ قدره مليون دولار، ثم لم يجني بعد ذلك إلّا ربحًا قدره 5 بالمئة على استثمارٍ قدره مليونا دولار. ستظل كتلة ربحه هي هي، عند مئة ألف دولار، رغم استثماره مليون دولار إضافية. فكما يشير ماركس، «إن لم يقم رأس المال المتزايد، إلا بإنتاج نفس الكتلة من فائض القيمة أو أقل مما كان ينتجه قبل تزايده، فإن فيض الإنتاج المطلق لرأس المال يكون قد وقع». ورأس المال المتوفّر في السوق الآن فاض في إنتاجه، إذ أن الرأسماليين الآن يزدادون حذرًا في استثمار أموالهم دون ضمان عائداتٍ أكبر. يمكن لرأس المال هذا «الفائض في إنتاجه» أن يعني، بالتالي، أن تظل المعدات الطبية من غير استخدام ويظل الممرضون/ات عاطلاتٍ عن العمل، لمجرد أن المعدات والممرضين/ات لا يمكن تشغيلهم بصورةٍ مربحة للرأسمالي.

وتفسيرٌ أبسط لظاهرة البيع وعدم الشراء هي وجود ميلٍ عام لدى الرأسماليين والمصرفيين (الرأسماليين الماليين) لتخزين الأموال أثناء الأزمات. في عام 2002، على سبيل المثال، كانت شركة مايكروسوفت جالسةً على ما يقدّر بـ 5 مليار دولار من السيولة النقدية. يصف ماركس هذه الظاهرة كالتالي: «أثناء الأزمات، بعد لحظة الهلع، وأثناء جمود الصناعة، تشلّ حركة النقود في أيدي المصرفيين، ووسطاء الأوراق المالية [المضارِبون]، إلخ. ومثلما يصرخ الظبي لأجل الماء العذب، تصرخ النقود لأجل حقل توظيفٍ بالإمكان تحقيقها فيه كرأسمال». بعبارةٍ أخرى، في فترات الأزمات الرأسمالية يشحّ المال في اللحظة التي تبلغ فيها الحاجة له أقصاها. ولهذا السبب، يحجم الرأسماليّون عن استثمار أموالهم، وبالتالي يشترون رأسمالٍ ثابت ومتغيّر أقل، و، مرة أخرى، يمكن للأزمة أن تتفاقم من هنا وتنتشر.

عوضًا عن أن يوفر مبدأ إنتاج العرض والطلب، بالتالي، مسارًا سلسًا يحدد الأسعار والمبيعات، إنه مسارٌ يملأه عدم الاستقرار، تملأه «ظروفٌ ثابتة في اضطرابها» كما وصفها إنجلز. كثيرًا ما تكون حصيلة هذه العملية هي فيض الإنتاج والأزمة، ومعها عبثيّة جبال البضائع غير المستهلكة، بجوارها أناسٌ بأمسّ الحاجة لها.

أزماتٌ في استخراج فائض القيمة

عرّفَ ماركس «معدّل الربح» الخاص بالرأسمالي كمقدار فائض القيمة المستخرَج نِسبةً لمقدار رأس المال المُستثمَر في الآلات والعمل. ووفق ماركس، يُعصَر معدل الربح بواسطة عملية الإنتاج الرأسمالي ذاتها، وحين ينخفض معدل الربح للإنتاج الرأسمالي أو الاقتصاد، يصبح اندلاعُ الأزمات ممكنًا.

ولكن كيف يحدث ذلك؟ أحد جوانب تراكم رأس المال هو أنّ على الرأسمالي أن يستثمر أكثر فأكثر في الآلات والأدوات من أجل زيادة الإنتاجية والتقدم على منافسيه. وبالتالي يصبح رأس المال الذي يستثمره متكوّنًا أكثر فأكثر من الآلات («رأس المال الثابت») عوضًا عن قوة العمل («رأس المال المتغير»). مثلًا، في صناعةٍ معينة، ومع مرور الوقت، قد يتجه 50 بالمئة، ومن ثمّ 55 بالمئة، وبعدها 60 بالمئة من مجمل رأس المال إلى الآلات. سمّى ماركس ذلك بـ «التركيب العضوي لرأس المال».

دعنا نستخدم مثالًا من الواقع لنفهم تداعيات هذا الأمر. فلنأخذ حالة مختبر فحص دم تجاري: السلعة التي يبيعها هي فحص الدم. العمّال في هذا المختبر يمزجون عينات الدم التي يتلقونها في «أحواضٍ» تحتوي 500 عينة للفحص. كل من في هذا القطاع يقومون بذلك يدويًا، وهي عملية بطيئة جدًا. وبالتالي، هنالك قيمة كبيرة (وقت عملٍ ضروري اجتماعيًا) تدخل في هذه السلعة. وبالتالي، يشتري مختبرٌ ما آلة جديدة اسمها «تيكان جنيسيس 200»، وتقوم هي بجمع الأحواض أوتوماتيكيًا. هنا، يمكن لذات العدد من العمّال أن يجمّعوا عددًا أكبر بكثير من عيّنات الدم، في المقدار الزمني نفسه. يمكن لهذا المختبر إذًا أن ينتج بأقل من الوقت الضروري اجتماعيًا (الذي يلتزم به كل منافسيه)، وبالتالي يحقّق المالك أرباحًا طائلة. ولهذا السبب يستثمر الرأسماليّون في رأسمالٍ ثابت مثل آلة «تيكان»، ولكن في آخر المطاف، يلتحق المنافسون بركب هذا المختبر ويستثمرون هم أيضًا في آلات «تيكان»، وسرعان ما ينخفض معيار وقت العمل الضروري اجتماعيًا للوتيرة التي أسست لها الآلة الجديدة.

ولأجل مثالٍ مختلف، بإمكاننا أن نستخدم قطاع صناعة الأحذية. دعنا نفترض أن وقت العمل المعياري الضروري اجتماعيًا هو ست دقائق، وبالتالي تُنتَج 10 أحذية في الساعة. وَيُباع الحذاء بقيمة 10 دولارات. إن أصبح بإمكان رأسماليّ واحد، بآلة جديدة غالية، إنتاج 20 حذاءً في الساعة، سيكون لديه أفضلية على منافسيه، وذلك حتى يحصل كلٌّ منهم على الآلة الجديدة ويمكن لكلٍّ منهم إنتاج 20 حذاءً في الساعة. أصبح وقت العمل المعياريّ لإنتاج حذاءٍ واحدٍ الآن ثلاثَ دقائق، وبالتالي فهو يعادل نصف القيمة التي استلزمها سابقًا، وينخفض سعر الحذاء إلى 5 دولارات للواحد.

في نهاية هذه العملية، يعود المتنافسون إلى مستوى فرصٍ متكافئ، بينما يصبح عمّالهم أكثرَ إنتاجية، أي أنه بإمكانهم صنع منتجاتٍ أكثر في ذات مقدار وقت العمل. ولكن ينتهي المطاف بالرأسماليين بأن أصبح لديهم استثمارٌ أكبر بكثير في رأس المال الثابت مما كان لديهم سابقًا، مقارنةً بفائض القيمة الذي ينتجه العمال. وهذه مشكلة بالنسبة للرأسماليين. أغلبهم استثمروا استثماراتٍ ضخمة لمواكبة منافسيهم لا أكثر، وهذا الأمر أيضًا من مسببات استثمار الرأسماليين في رأسمالٍ ثابت مثل آلة «تيكان». (تكلّف آلة «تيكان جنيسيس 200» فعليًا ما يتجاوز 100 ألف دولار). ولكن لا يمكن لهم جعل آلة «تيكان» ذاتها تنتج فائض قيمة من أجل تعويض المبلغ المُنفَق. بينما كلّ عاملٍ في القطاع بإمكانه أن يُنتج عددًا أكبر من البضائع كلَّ يوم، فما زالوا يعملون المقدار ذاته من وقت العمل الفائض غير مدفوع الأجر كل يوم. باستخدام معادلة ماركس، سيكابد معدل الربح الخاص بالرأسماليين انخفاضًا وذلك لأن مقدار مجمل رأس المال المُستثمَر ازداد، دون ازديادٍ في مقدار فائض القيمة المولَّد.[14]

سمّى ماركس ذلك بمسمى «قانون ميل معدل الربح للانخفاض»، وشعر أنه ضروريّ لفهم الرأسمالية. جادل ماركس أن هذا القانون كان «في كل الاعتبارات، أكثر قوانين الاقتصاد الحديث جوهريّة، وأهمها لفهم أكثر العلاقاتِ عُسرًا. إنه أهم القوانين من وجهة نظرٍ تاريخية». سببُ أهمية هذا التحليل هو أن ماركس يأسس أنّ «العائق الحقيقي للإنتاج الرأسمالي هو رأس المال نفسه». أي أن الحافز المتأصل للاستثمار وزيادة الإنتاجية يشكّل العملية ذاتها التي تقود النظام إلى الأزمة.

في ذات الوقت، هذا القانون ليس مطلقًا في رأي ماركس، فقد جادل في كتاب «رأس المال» أن ميل معدل الربح للانخفاض «يتعرض تحققه المطلق إلى تأثير ظروف معارضة تكبحه وتبطئه وتضعفه». بعض الظروف المعارِضة يسردها ماركس: «رفع درجة استغلال العمال» (أي جعل العمّال يكدحون أكثر)، و«خفض الأجور دون قيمة قوة العمل» (أي تقليص مرتبّات العمال وفوائدهم/ن)، و«التجارة والاستثمار الخارجيّيَن» (البحث عن أسواق محتكرة وعمالة رخيصة في الخارج)، «تخفيض الضرائب» و«الحط من قيمة رأس المال الثابت» (وسيتم مناقشتها أدناه).[15] وبالتالي، فالقانون لا يدعي القدرة على توقع مقدار معدل ربح رأسماليٍّ معيّن أو صناعةٍ معينة بعد عقدٍ أو عقدين من الزمن. يتمظهر هذا القانون، في العالم الحقيقي، كعملية تتضارب مع الظروف المعارِضة في مكانٍ محدد ووقتٍ محدد. على سبيل المثال، يُجبَر الرأسماليون على محاربة القانون برفع درجة الاستغلال وخفض الأجور دون قيمتها. يمكن لهذا الأمر أن يعوض عن هبوط معدل الربح، إن كانت جهود الرأسماليين ناجحة في إكراه العمال والعامِلات على العمل لمدة أطول وشدّة أكثر وبأجرٍ أقل. هذه العملية هي السبب وراء حالات تزامن إدخال تقنياتٍ جديدة مع استياء حياةِ العمال عوضًا عن تحسّنها، فبصورةٍ ما، يُجبَر العمال على التعويض عن هبوط الربح الناتج عن استثمار الرأسمالي الجديد.

ولكن ماركس لم يؤمن أن الظروف المعارضة جعلت من هذه القانون غير ذي أهمية. رغم آثار هذه الظروف، فمعدل الربح ما زال يمكن له أن ينخفض لدى قطاعٍ صناعي ما أو اقتصادٍ ما، مما يؤدي لأزمة. علاوة على ذلك، رأى ماركس في تجلّي القانون والظروف المعارضة له كمصدرٍ للمزيد من عدم الاستقرار في النظام، وليس العكس. إن تصدى العمّال والعامِلات لرفع درجة الاستغلال، يمكن أن ينتج عن ذلك استفحالُ الصراع الطبقي، لأن أرباب العمل، في مواجهتهم لمنافسيهم ولربح منخفضِ، يصبحون في وضعٍ حرج. جادل ماركس أيضًا أن «النزاع بين الوسطاء المتعارضين [الظروف المعارضة] ينقلب بين الفينة والأخرى إلى أزمات لا تمثل، دومًا، إلّا حلًا مؤقتًا وعنيفًا للتناقضات القائمة، انفجارات عنيفة تستعيد التوازن المضطرب للحظة لا غير».

مثالٌ على كيفية تأدية تفاعلات الظروف المعارضة ذاتها إلى أزمة هي في عملية رَخص رأس المال الثابت. فكما ناقشنا سابقًا، أشار ماركس إلى أن الاستثمار المتزايد في الأدوات والآلات بواسطة الرأسماليين، في السباق لمواكبة بعضهم البعض، يجعل من تحقيق الربح أصعب فأصعب. ولكن في اقتصادٍ رأسمالي تؤدي زيادة الاستثمار في الأدوات والآلات إلى زيادة الإنتاجية أيضًا. أحد آثار هذا الأمر هو أن وقت العمل الضروري لإنتاج هذه الأدوات والآلات ذاتها ينخفض، جاعلًا هذه الاستثمارات أرخص. وهذا الأمر ينطبق على كل الآلات اليوم مقارنةً بالماضي. قيمة الحواسيب هبطت بشدة خلال العقدين الماضيين، على سبيل المثال، فهي تتطلب وقت عملٍ أقل لإنتاجها. إن كان معدل الربح هو مقدار فائض القيمة المُستخرَج نسبةً إلى مقدار رأس المال المُستثمَر في الآلات وفي العمل، إذًا، فمع رخص الآلات، سيرتفع معدل الربح. والنتيجة هي قوّةٌ معارضة طويلة الأمد تؤثر على ميل معدل الربح للانخفاض.

ولكن هذه العملية ليست خالية من العواقب. بإمكاننا أن نستخدم مثال «تيكان جنيسيس 200» لشرح هذه النقطة. دعنا نفترض أن رأسماليًا ما اشترى واحدة منها العام الماضي مقابل مقدارٍ معين من المال. في العام المقبل، سيعني تزايد الإنتاجية في مصنع «تيكان» أن الطراز الجديد من الآلة سيتطلب وقت عملٍ ضروري أقل بكثير لإنتاجها، وبالتالي ستكون أرخص. ولكن هذا الانخفاض في قيمة الآلة لا يساعد رأسماليّنا هذا الذي اشترى الآلة العام الماضي، بل إنه يجعل الأمور أسوء بالنسبة له. إن القيام بفحوصات دم باستخدام طراز «تيكان» الجديد يتطلب وقتًا أقل ضروري اجتماعيًا، لأن الآلة ذاتها انخفض الوقت الضروري اجتماعيًا اللازم لصنعها. يمكن لرأسماليٍّ «جديد» اشترى الطراز الأحداث أن يستغل هذا الأمر، ويفرض كلفةً أقل على فحوصات الدم. يُضغط بالتالي على أرباح الرأسمالي «القديم» الذي اشترى طراز العام الماضي، مما قد يؤدي إلى إفلاس الرأسمالي القديم هذا في آخر المطاف. يمكن للرأسمالي الجديد أن يقتني آلة «تيكان» بسعرٍ يعكس القيمة الجديدة (الأقل) للآلة، مما «يحط من قيمة» رأس المال القديم، وهو أمرٌ جيد من وجهة نظر الرأسمالي الجديد. (بصورةٍ ما، يقول الرأسمالي الجديد لقرينه القديم: «سآخذ رأسمالك بقيمة أرخص، كي أشغّله بربحيّة، حيث لا يمكن لك القيام بذلك»). ولكن هذه العملية الكلية كثيرًا ما تحدث بتكلفة عالية على الاقتصاد، حيث تفلس الشركات، ويُسرّح العمّال والعاملات من عملهم، ولا تُسدد الديون، وبالتالي يمكن لأزمة اقتصادية أن تندلع.[16]

في آخر المطاف، يمكن للرأسماليين والدولة الرأسمالية أن يحاولوا نقض ميل معدل الربح للانخفاض، حتى لو تضمن ذلك «حلولًا مؤقتة وعنيفة للتناقضات القائمة». ولكن العديد من هذه الحلول قد تؤدي لاندلاع أو مفاقمة الأزمة. وفيما سنشرح أدناه، سنرى وجود حدودٍ على إمكانية إدارة الأزمات في ظل سياق النظام الرأسمالي الحديث.

الخروج من الأزمة

دون إسقاط الرأسمالية، سيتعافى الاقتصاد الرأسمالي في آخر المطاف من الأزمة. فكما أشار الثوريّ الروسي ليون تروتسكي ذات مرة:

تعيش الرأسمالية فعلًا بالأزمات والطفرات، بالضبط مثلما يعيش الإنسان بالشهيق والزفير. أولًا هنالك طفرة في الصناعة، ومن ثمّ توقف، وبعدها أزمة، يتبعها توقف في الأزمة، ومن ثمة تحسن، وطفرة أخرى، وتوقف آخر، وهلم جرًّا…حقيقة أن الرأسمالية ما تزال تتقلب دوريًّا…تشير إلى أن الرأسمالية لم تَمُتْ بعد ليس إلا، وأننا لا نتعامل مع جثة. طالما لا تُسقَط الرأسمالية بثورة بروليتارية، ستسمر في العيش في دورات، متأرجحة إلى الأعلى والأسفل. كانت الأزمات والطفرات متأصلة في الرأسمالية منذ ولادتها عينها، وستظل تصاحبها إلى قبرها.

ولكن من أجل الهرب من أيّ أزمة، يجب على الاقتصاد أن ينبعث من «نقطة بداية» مختلفة عن «نقطة النهاية» التي بدأت بها الأزمة. فكما يشير ماركس، «وإنّ تعثُّر الإنتاج…يهيئ لتوسع لاحق، في نطاق الحدود الرأسمالية. وهكذا تدور الدائرة من جديد». نقطة البدء الجديدة ستسمح للتراكم المربح لرأس المال بالاستئناف. يستلزم ذلك رفع معدل الربح، إذ يُحقَّق ذلك عادةً حين يقلّص (يخفّض) أثر الأزمة من سعر مُدخلات عملية الإنتاج الرأسمالي بصورة كافية: رأس المال الثابت والمتغير. بالإضافة إلى ذلك، ستزيد الأزمة من حدة التنافس بين الرأسماليين أنفسهم، حيث يحاول كلٌّ منهم النجاة والبقاء، واستعادة تراكمه الخاص، على حساب منافسيه. في النهاية، إن إرساء أساس توسع الإنتاج اللاحق هذا يأتي عادةً بتكلفةٍ إنسانية واجتماعية هائلة.

أحد العوامل لاستعادة تراكمٍ مربح هو خفض سعر رأس المال المتغير (قوة عمل العمّال)، أو، بعبارة أخرى، خفض الأجور والفوائد المُسدَّدة للعمال. يلخص ماركس هذه العملية كالتالي: «تعثر الإنتاج قد يصيب قسمًا من الطبقة العاملة بالعطالة، ويضع بذلك القسم المستخدَم منها في ظروف ترغمه على القبول بهبوط في الأجور حتى دون المتوسط، ولهذا الظرف تأثير على رأس المال يماثل تأثير ارتفاع فائض القيمة…مع بقاء متوسط الأجور على حاله». مثالٌ معاصر على هذا الأمر يتضمن قطاع البرمجيات. ينفّذ عمّال القطاع التكنولوجي ما متوسطه 50 ساعة من العمل أسبوعيًا، ولكن مع التزايد الأخير في التسريح، نراهم يقبلون أجورًا ورواتب أقل فأقل مقابل عملهم، وهم ينتجون، في الوقت نفسه، القيمة ذاتها (أو أكثر أحيانًا) لصالح أرباب عملهم. هذا العامل يساعد على استعادة وزيادة تراكم رأس المال لقطاعٍ من الطبقة الرأسمالية.

تنتج الأزمات الاقتصادية أيضًا محاولات يائسة بواسطة الرأسماليين لزيادة ربحهم على حساب بعضهم البعض. فكما يشير ماركس، «ولكن ما إن تتعلق القضية بتقاسم الخسائر لا الأرباح، فإن كل واحد منهم يسعى، قدر الإمكان، إلى أن يقلل حصته من هذه الخسارة، وأن ويلقيها على كاهل غيره…أما مقدار ما يتحمله كل رأسمالي مفرد منها، وما مدى النصيب الذي يتعين أن يقع عليه عمومًا، فتلك مسألة تتوقف على القوة والدهاء، وتتحول المنافسة، عندئذٍ، إلى صراع بين الإخوة الأعداء». على سبيل المثال، عند مواجهة مشاكل في استخراج فائض القيمة من العمال، أو في تحقيق فائض القيمة، كثيرًا ما سيفضل الرأسماليون توظيف «الأموال غير المستغلَّة» بغرض المضاربة في أمورٍ مثل الأسهم والعملات، عوضًا عن الاستثمار في رأسمالٍ جديد.[17] يحدث ذلك عند نهاية كلّ دورة تجارية مع بدئ انخفاض الأرباح. من هنا أتت، حسب وصف رئيس مجلس نظام الاحتياطي الفدرالي السابق آلان جرينسبان، «الوفرة الطائشة» في سوق الأسهم أواخر التسعينات.

ولكنّ مضاربة أسعارٍ كهذه في وسط الرأسماليين لا تزيد القيمة التي تتحكم بها الطبقة الرأسمالية ككل، فهي لا تتضمن إلا احتيالهم على بعضهم البعض: «بإمكان طرفٍ أن ينتصر بمقابل ما يخسره الطرف الآخر. كل ما يمكنهم تقسيمه بين بعض بعضهم البعض هو فائض القيمة [المُنتَج بواسطة الطبقة العاملة]. ولكن هذه الحصص تفتح المجال للخداع الفردي…والذي لا علاقة له بتحديد القيمة بحد ذاتها». بعبارة أخرى، إن شراء سهمٍ ما «بسعر منخفض» وحمل رأسماليٍّ آخر على شرائه «بسعر عالي» لا يؤدي لخلق ثروةٍ إضافية، وإنما يوزعها بصورة مختلفة بين الرأسماليين فحسب. (كثيرًا ما يسمي تجّار الأسهم هذا الأمر بـ «نظريّة المستثمر الأكثر حماقة»). سمّى ماركس هذه الثروة الناتجة عن المضاربات «رأس المال الخيالي». ولكن إن تمكن رأسماليٌّ معيّن من الكسب على حساب إخوته، فلربما سيمتلك أفضل فرصة للنجاة من الأزمة. وأكثر النتائج تجليًا لمضاربة الأسهم هذه هي خلق «أرستقراطية مالية جديدة، صنف جديد من الطفيليين في رداء مُخططي مشاريع، ومؤسسين، ومدراء محض إسميين؛ ويُنشئ نظامًا كاملًا من النصب والاحتيال في مجالات التأسيس وإصدار الأسهم والمتاجرة بها». يمكن لنتيجة مثل هذه المضاربة أن تكون انهيارًا وهلعًا بالغًا حين تنهار العملية بأكملها، ولا يرغب أحد بالشراء بسعرٍ أعلى (أي، لا يجد أحدٌ منهم «مستثمرًا أكثر حماقة»). ومن يبيعون في الوقت المناسب سينجون بجلدهم، أما الباقين فسيتكبدون أضرار الانهيار، بل وسينهارون معه على الأرجح.

إن رخص سعر رأس المال الثابت (الأدوات والآلات) عاملٌ آخر في استعادة مراكمةٍ مربحة. خذ بعين الاعتبار مثال رأسماليٍّ ما اشترى حاسوبًا مقابل 1000 دولار، وأفلس بعد سنتين، وأراد أحد منافسيه حينها شراء أصوله. بحلول ذلك الوقت، انخفضت قيمة تلك الآلة (إذ يمكن إنتاجها بسرعة أعلى بكثير) وبالتالي يصبح السعر 750 دولار فقط. إن اقتناء الحاسوب بالسعر الجديد يؤدي للحط من قيمة رأس المال، كما وصفنا أعلاه في حالة آلة «تيكان». ولكن، دعنا نفترض أن الرأسمالي المفلس هذا مستميتٌ لتفريغ حمولة أصوله من أجل تسديد ديونه، وبالتالي يبيع حاسوبه مقابل 500 دولار فقط. فالآلة أيضًا، بالتالي تنخفض قيمتها. والأكثر أهمية هو أن الرأسمالي الناجي من الأزمة سيستفيد من هذا الأمر.

يمكن لرأس المال الثابت أن تنخفض قيمته في ظروفٍ معينة من خلال فيض الإنتاج؛ أي في حال فاض إنتاج الحواسيب بشدة، يمكن للرأسماليين الساعين لاستعادة سيرورة التراكم أن يشتروها بسعرٍ رخيص. أثناء هذه الأزمات بالتالي، وكما يشير ماركس، هنالك «قسمٌ من السلع الماثلة في السوق يعجز عن القيام بعملية تداوله وتجديد إنتاجه [الشراء والبيع] إلا بتقليص هائل في أسعار هذا القسم…وتهبط قيمة عناصر رأس المال الأساسي، على النحو ذاته، بهذا القدر أو ذاك». يُدمَّر ببساطة، في حالاتٍ أخرى، رأس المال المتعذر توظيفه بصورة مربحة: يمكن لآلات مصنع فولاذ مفلس مثلًا أن تترك من غير تشغيل حتى تصدأ. عن طريق عملية هبوط القيمة، والاهتلاك، والتدمير، يقدر الرأسماليون الناجون على ترميم عملية تراك رأسمالٍ مربحة. ولكن هوية الرابح والخاسر يحددها، كما أسلفنا، «صراع الإخوة الأعداء». يسهب ماركس في ذلك قائلًا:

كيف يمكن إذن تسوية هذ النزاع، واستعادة العلاقات الموائمة لـ «عافية» سير الإنتاج الرأسمالي؟…يقوم أسلوب التسوية في ترك رأس المال بائرًا أو تدميره جزئيًا، بمقدارٍ من القيمة يساوي رأس المال الإضافي [الفائض إنتاجه]…أو جزءًا منه على الأقل…غير أن توزيع الخسارة لا يتم بأي حال على نحوٍ متساوٍ بين مختلف رؤوس الأموال المفردة، بل يتقرر بفعل صراعٍ تنافسي تتوزع فيه الخسارة…تبعًا للمزايا الخاصة والمواقع التي ظُفِرَ بها، بحيث أن رأسمالًا يهجع بائرًا، وثانيًا يتعرض للدمار، وثالثًا يمنى بخسارة نسبية ليس إلا أو يتعرض إلى هبوط مؤقت في القيمة لا أكثر.

يمكن لهذا «الصراع التنافسي» أن يؤدي لعواقب وخيمة في اقتصادنا الحاضر، وذلك نتيجةً لما أشار له ماركس بعبارة «مركَزَة (concentration) وتمركز (centralization) رأس المال»، وهو أن وحدات رأس المال تزداد حجمًا أكثر فأكثر، وتقل عددًا على نحوٍ مماثل، نتيجة تراكم رأس المال والاندماج. منذ عام 1983، على سبيل المثال، حظيت أقل من 3 بالمئة من الشركات بـ 77 بالمئة من مجمل المبيعات في الولايات المتحدة، بينما امتلكت «سيتيكورب» و«إيكسون» مجتمعتين أصولًا أكثر من جميع الأعمال الصغيرة في البلاد. كل الاقتصادات الرأسمالية تُصبح متكوّنة من هؤلاء العمالقة الاقتصاديين، حيث أن «كبار الأسماك» ستمتلكن أفضل فرص النجاة في كل أزمة متتالية.[18]

غير أنه في سياق الأزمات هذا، تخلق عمليّتا مركَزَة وتمركز رأس المال هاتين مشاكل عصيبة للاقتصاد الرأسمالي. أولًا: يصبح إفلاس شركةٍ رئيسية، أو صناعة رئيسية، أمرًا ذو تكلفة بالغة الشدة، إذ تزداد احتمالية تأدية انهيار شركة كبيرة، أو عدّة لاعبين رئيسيين في صناعة معيّنة، إلى جرّ بقية الاقتصاد الوطني، إن لم يكن العالمي، إلى أزمة شديدة. في اقتصادنا الحاضر، إذًا، هنالك احتمالية أن تكون الأزمات التالية للطفرات أشدّ بكثير، وأن تكون إدارتها أعسر على الدولة الرأسمالية بكثير. وحالات الإفلاس الأخيرة التي ضربت أرقامًا قياسية لشركة «إينرون» (بأصولٍ قدرها 63 مليار دولار)، و«كونسيكو» (بأصولٍ قدرها 61 مليار دولار)، و«وولردكوم» (بأصولٍ قدرها 103 ميار دولار) تسلّط الضوء على النمو المستمر لهذه العملية. تستمر عملية هبوط قيمة رأس المال الثابت عن طريق الإفلاس أو الاندماج، غير أن ذلك يأتي بتكلفةٍ إنسانية متزايدة، بينما النظام يصبح مكوّنًا، أكثر فأكثر، من شركاتٍ كبيرة طويلة العهد كَثُر ما تكون غير ناجعة[19]. تتنافس هذه الشركات مع بعضها البعض، وتواجه انحسارًا في الربحية وتحاول توظيف الآليات الاعتيادية لزيادة ربحها: رفع درجة الاستغلال، وخفض الأجور إلى أقل من قيمتها، والانخراط في التجارة والاستثمار الخارجيَّين، والمطالبة بضرائب أقل من الدولة الرأسمالية. وفي حالاتٍ معينة، تدخل المحاسبة المشبوهة قديمة الطراز حيز التنفيذ. أضف على ذلك أنه، في أوقات الأزمات العصيبة، قد يحاول الرأسماليّون السطو على فائض القيمة من رأسماليي أمّة أخرى عن طريق الحرب. ووفقًا لماركس، كل هذا حصيلة الديناميات الداخلية لتراكم رأس المال عينها.

خاتِمة

لم تغيّر الرأسمالية طبيعتها الميّالة للأزمات منذ زمن ماركس. وما يزال محكومًا عليها أن تجعل حياة قطاعٍ كبيرٍ من الطبقة العاملة أكثر تزعزعًا واضطرابًا وبؤسًا. حقًا، فالوعود التي قطعها فرسان الرأسمالية لم توفى لملياراتٍ من الناس في أرجاء العالم، بل غالبًا ما ضمنت الأزمات وقوع العكس، كما يمكن للعاملين في بلدان تمتد من الأرجنتين وحتى كوريا والولايات المتحدة أن يشهدوا. جادل ماركس في «رأس المال» قبل أكثر من قرنٍ من الزمن قائلًا:

إن جميع طرائق رفع قدرة الإنتاجية الاجتماعية للعمل تتحقق، في النظام الرأسمالي، على حساب العامل الفرد؛ وإن جميع وسائل تطوير الإنتاج تتحول إلى وسائل للهيمنة على المُنتِجين واستغلالهم، وهي تشوِّه العامل وتحيله إلى كسرة من حطام إنسان، وتنزل به إلى درك ملحق تابع للآلة، وتدمر المضمون الإيجابي لعمله بما تضفي عليه من عذاب، وتستلب منه الطاقات الذهنية الكامنة في عملية العمل…إنها تجعل شروط عمله فظيعة، وتملي عليه، أثناء عملية العمل، استبدادًا وضيعًا، ممقوتًا…يترتب على ذلك أن حال العامل لا بد من أن تزداد سوءًا، كلما تقدم تراكم رأس المال، سواءً كان مستوى الأجور مرتفعًا أو منخفضًا…إن هذا القانون يقيّد العامل برأس المال أشد من تقييد مطرقة هيفايستوس لبروميثيوس* إلى الصخرة. فهو يملي تراكم البؤس، بموازاة تراكم رأس المال. وإن تراكم الثروة في هذا القطب، هو في عينه تراكمٌ للبؤس وعذابات العمل والعبودية والجهل، والقسوة والانحطاط الخلقي، في القطب المعاكس.

الحل الوحيد بالنسبة لماركس وإنجلز هو التخطيط الاقتصادي الديموقراطي، ألا وهو الاشتراكية:

فلو أن المنتجين، بصفتهم هذه، يعرفون أية كمية يحتاج إليها المستهلكون، ولو أنهم ينظمون الإنتاج، ويوزعونه فيما بينهم، لاستحالت التذبذبات المزاحمة واستحال ميلها إلى الأزمة. ابدأوا الإنتاج عن وعي، ككائناتٍ بشرية – وليس كذرات منتشرة، لا تعي وحدتها الأصلية – تتخلصوا من جميع هذه المتضادات الاصطناعية والباطلة. ولكن ما دمتم تواصلون الإنتاج بالأسلوب الحالي، غير الواعي، غير المعقول، الموضوع في حكم الصدفة، فإن الأزمات التجارية ستبقى أيضًا؛ ولا بد لكل أزمة لاحقة أن تكون أكثر شمولًا، وبالتالي أشق من الأزمة السابقة، ولا بد لها أن تخرب عددًا أكبر من صغار الرأسماليين، وتزيد بصورة أسرع فأسرع تعداد أفراد الطبقة التي لا تعيش إلا بالعمل.

لم يؤمن ماركس أو إنجلز أن الرأسمالية ستنتج الاشتراكية من تلقاء نفسها. فلو قبلت الطبقة العاملة بتداعيات كل أزمة، سيستمر النظام الرأسمالي حتى ينتج «خرابًا مشاعًا» للجميع. فالثورة ليست أمرًا مسلمًا به، أو خاضعًا لمسار التاريخ. فكما جادل ماركس وإنجلز ذات مرة: «لا يقوم التاريخ بأي شيء…ولا ‹يشن أي معارك›. إن الإنسان، الإنسان الحقيقي الحي، هو من يقوم بكل ذلك، هو من يمتلك ويحارب؛ إن ‹التاريخ› ليس…بشخصٍ منفصل، يوظِّف الإنسان لتحقيق أغراضه الخاصة؛ ليس التاريخ سوى نشاط الإنسان الساعي نحو أهدافه». هدفنا يجب أن يكون إسقاط نظام الرأسمالية المُثقل بالأزمات، واستبداله بالاشتراكية.

ملاحظات الكاتب:

[1]جادل ماركس أيضًا أن تطور فائض العمل تاريخيًا خلق إمكانية التقدم البشري، لأن البشر أصبح بإمكانهم إثر ذلك أن ينتجوا أكثر مما يستهلكوا مباشرة.

[2] كما أشار ماركس في رسالته إلى لودفيغ كوغلمان: «كل طفلٍ يعرف أن أيّ أمّة إنْ توقفت عن العمل، لن أقول لسنة، بل حتى لأسابيع قليلة، ستهلك. كل طفل يعلم، أيضًا، أن كُتل المنتجات…تستلزم كُتلًا مختلفة ومُحدّدة كمّيًا من مجموع عمل المجتمع. وكون هذه الضرورة لتقسيم العمل الاجتماعي إلى حصصٍ محدّدة لا يمكن إلغاؤها بواسطة شكلٍ محدد من الإنتاج الاجتماعي، ولا يمكن أن يتغير إلا نمط مظهرها، لهو أمرٌ بديهي. لا يمكن لقوانين الطبيعة أن تُلغى. ما يمكن أن يتغيّر في الظروف المختلفة تاريخيًا ليس إلّا الشكل الذي تفرض به هذه القوانين ذاتها».

[3] يصف إنجلز هذه العملية بتفصيلٍ أكبر: «القليل الذي وجب على مثل هذه العائلة اقتناؤه بواسطة المقايضة أو الشراء من الغرباء…تكوّن، بصورة رئيسية، من المنتجات الحِرفية، وهي تلك الأشياء التي لم تكن طبيعة صنعها مجهولة لدى الفلّاح بأي شكلٍ من الأشكال، وهو لم يُنتجها إما بنفسه لعدم امتلاكه المواد الخام أو لأن البضاعة التي اشتراها أعلى جودةً أو أرخص ليس إلا. ففلاح القرون الوسطى علِم بدقّة، إلى حدٍّ ما، وقت العمل اللازم لصناعة المواد التي اقتناها أثناء المقايضة. فحدّاد القرية وصانع العربات فيها عمِلا في مجال رؤيته؛ وكذلك كان الخيّاط والإسكافي…كان الفلاحون، والناس الذين اشتروا منهم، هم أنفسهم عمّالًا؛ والبضائع المتبادلة كانت صنيعة كلّ واحد منهم. ما الذي أنفقوه في صناعة هذه المنتجات؟ العمل والعمل وحده: لاستبدال الأدوات، ولصنع المواد الخام، ولمعالجتها، لم ينفقوا إلا قوّة عملهم؛ كيف يمكن إذًا لهؤلاء أن يستبدلوا هذه المنتجات الخاصة بهم بتلك الناتجة عن عمل المُنتِجين الآخرين بطريقةٍ لا تستند على نسبة العمل المبذول فيها؟ وليس وقت العمل المبذول على هذه المنتجات المقياس المناسب للتحديد الكمي للقيم المقصود مبادلتها فحسب: لم يوجد مقياسٌ آخر البتّة. أم يُظنُّ أن الفلاحين والحرفيين كانوا بالحماقة بمكان بحيث سيسلّمون منتجات عشر ساعاتٍ من عمل فردٍ ما مقابل منتج ساعة واحدة من عمل آخر؟»

[4] يناقش إنجلز المدى التاريخي لقانون القيمة ومكانة «الإنتاج السلعي البسيط» بتفصيل أكبر كما يلي: «بإيجاز: إن قانون القيمة الماركسي يظل صالحًا على نحوٍ عام، بقدر ما تكون القوانين الاقتصادية صالحةً لا أكثر، لمدة الإنتاج السلعي البسيط كاملة، أي: حتى تشهد هذه الأخيرة تعديلاتٍ من خلال ظهور شكل الإنتاج الرأسمالي. حتى ذلك الوقت، تنجذب الأسعار نحو القيم المحددة وفق القانون الماركسي وتتذبذب حول هذه القيم. وهكذا مع اكتمال تطور الإنتاج السلعي البسيط، يزداد تزامن متوسط الأسعار، على مدى فتراتٍ طويلة لا تقطعها اضطراباتٌ خارجية عنيفة، مع القيم ضمن هامشٍ يسير. فقانون القيمة الماركسي، بالتالي، يحول المنتجات إلى سلع، حتى القرن الخامس عشر للعصر الحاضر. ولكن تبادل السلع يعود إلى فترةٍ سابقة لكل التاريخ المكتوب، هي في مصر تعود على الأقل إلى 2500 قبل الميلاد، ولربما 5000 قبل الميلاد، وفي بابل إلى 4000 قبل الميلاد، ولربما 6000 قبل الميلاد؛ فقانون القيمة ساد في فترة تمتد ما بين خمسة آلاف إلى سبعة آلاف سنة».

[5] أحد الأسئلة التي كثيرًا ما تسأل تتعلق بكيفية مقارنة ماركس لأعمال ذات مهاراتٍ مختلفة، فساعة من عمل الحداد، مثلًا، لا تعادل بالتأكيد ساعة من عمل حفار القبور. يقيس ماركس وقت العمل باستخدام وحدة يسميها «العمل البسيط، المجرد». ساعةٌ من العمل الماهر تتكون من مقدار عملٍ مجرد أكبر من ساعة من العمل غير الماهر. هذا صحيحٌ لأن عمل العامل/ة الماهر/ة يتضمن عمل العامل/ة التي علّمته/ا تلك المهارة.

[6] وفق عالم الاقتصاد البلشفي إسحاق إليتش روبين، «في الاقتصاد السلعي البسيط، إن تبادل 10 ساعات من العمل في فرعٍ واحد من الإنتاج، مثلًا صناعة الأحذية، مقابل منتوج ثماني ساعات من العمل في فرعٍ آخر، صنع الملابس مثلًا، يؤدي بالضرورة (إن كان الإسكافي وصانع الملابس ذوي مؤهلات متكافئة) لامتيازات متفاوتة في الإنتاج في الفرعين، وإلى نقل العمل من صنع الأحذية إلى إنتاج الملابس. وعلى فرض قابلية كاملة لحركة العمل في الاقتصاد السلعي، يولد كل اختلافٍ معتبر، بهذا القدر أو ذاك، في امتياز الإنتاج ميلًا نحو نقل العمل من فرع الإنتاج الأقل امتيازًا إلى الفرع الأكثر امتيازًا. هذا الميل يظل حتى يواجه الفرع الأقل امتيازًا خطر الانهيار الاقتصادي المباشر ويرى استحالة استمرارية الإنتاج بسبب الظروف غير المؤاتية لبيع منتجاتها في السوق».

[7] اندفاع التراكم هذا يجعل الرأسماليين مختلفين عن الطبقات الحاكمة السابقة. فكما أشار ماركس، يجب على الرأسماليين استخدام أموالهم لتراكم رأس المال «عوضًا عن…إنفاقه، فلنقل مثل الملوك المصريين القدامى أو النبلاء القديسين الإتروسكانيين، على الأهرام وما إلى ذلك…فمن دون التراكم، لا يمكن لرأس المال أن يشكل أساس الإنتاج، إذ أنه سيبقى راكدًا، ولن يكون عنصرَ تقدم، يقتضيه مجرّد تزايد التعداد السكاني إلخ…إن لم يتجاوز استخدام فائض القيمة استهلاكَه، فلن يكون رأس المال قد حقّق ذاته كرأسمال، ولن يكون قد أنتج ذاته كرأسمال، أي كقيمةٍ تنتج قيمة [أكبر]».

[8] أحد الأمثلة الحديثة على هذه الحقيقة هي شركة اسمها «إكسوديوس» للاتصالات، والتي تمتلك عتاد حواسيب لاستضافة المواقع على الشبكة. وفق صحيفة «نيو يورك تايمز»، «منذ بداية هذا العام [1999] وحتى نهاية 20000، تتوقع الشركة إنفاق أكثر من 750 مليون دولار…على 15 مقرٍّ إضافي، أغلبها ستُبنَى في هذه البلاد. وهو إنجازٌ كبير بالنسبة لشركة لم تحقق عائداتها إلا حوالي 200 مليون دولار هذا العام…يقول آدم ويغنير، نائب رئيس الشركة ومستشارها العام…إنه دون الإنفاق الضخم على التوسع، ستكون ‹إكسوديوس› مُربِحةً اليوم. ولكنه يشير إلى مأزق: بدون هذا التوسع، سيخرج المنافسون ‹إكسوديوس› من تجارة إدارة المواقع».

[9] يسمي ماركس ذلك «تسليعَ قوة العمل»، ويعني ذلك أنّك كعامل/ة في ظل الرأسمالية، قد يكون لديك عمل تنفّذه/ينه يحتاجه المجتمع (إمّا كممرّض/ة، أو كمعلّم/ة، أو كعامل/ة بناء، أو كلّ المهارات الأخرى تقريبًا)، ولكن ليس بإمكانك تنفيذ هذا العمل لأجل المجتمع إلّا إن أقنعت/ي رأسماليًّا ما أن يكافئك عليه. بعبارة أخرى، من أجل العمل وخلق قيمٍ استعمالية للناس الآخرين، يجب عليك أن تذهب/ي لرأسماليّ ما وتقنعيه أنّ بإمكانك أن تحقق/ي له أرباحًا جرّاء عملك.

[10] ينوّه ماركس إلى أن مال الرأسمالي «دونَ العمل المأجور، لن يظلّ رأس مال». بعبارة أخرى، المال الذي يتحكم به الرأسمالي لا يتحول إلى مالٍ أكثر دون عمل العامل/ة.

[11] ولكن، لاحظ أن ماركس وإنجلز لا يقبلان بمنطق الحجة «النقص استهلاكية»، والتي تصرّح بأن الأزمات ناتجة عن حقيقة أن العمال لا يمكن لهم استهلاك البضائع التي أنتجوها ليس إلا. يشير إنجلز إلى أن هذه حقيقة تنطبق على كل المجتمعات: «إن نقص الاستهلاك عند الجماهير واقتصار استهلاكها على ما هو ضروري، بلا جدال، للإبقاء على الحياة ومواصلة النوع – ظاهرة ليست جديدة إطلاقًا. فهي موجودة منذ أن وجدت الطبقات الاستغلالية والطبقات المستغلة. وحتى في الفترات التاريخية عندما كانت أوضاع الجماهير جيدة تمامًا، في بريطانيا، مثلًا، في القرن الخامس عشر، لم يكن الاستهلاك لديها كافيًا مع ذلك. ولم يكن في متناولها البتة كل منتوج عملها السنوي لكي تلبي به حاجاتها. وهكذا يشكل نقص الاستهلاك ظاهرة تاريخية ثابتة طوال آلاف السنين، في حين أن الركود العام الذي يظهر فجأة في التصريف أثناء الأزمات بسبب فيض الإنتاج قد لوحظ في السنوات الخمسين الأخيرة فقط…إن نقص الاستهلاك عند الجماهير هو الشرط الضروري لكل أشكال المجتمع المستندة إلى الاستغلال، بما فيها الشكل الرأسمالي، ولكن الشكل الرأسمالي للإنتاج هو ما يوصل الأمور إلى الأزمات. وبالتالي فإن نقص الاستهلاك عند الجماهير واحدة من مقدمات الأزمة وهو يلعب فيها دورًا معترفًا به منذ زمن، ولكنه قلما يخبرنا سواءً عن أسباب الأزمات القائمة حاليًا أو عن أسباب انعدامها في السابق».

علاوةً على ذلك، يشير ماركس إلى أن أزمات فيض الإنتاج كثيرًا ما تحدث في فترات ارتفاع الأجور إلى مستوياتٍ عالية تاريخيًا: «وما القول بأن الأزمات تنشأ عن قصور في الاستهلاك الفعّال أو في المستهلكين الفعالين [القادرين على الدفع]، إلا لغوٌ فارغ…فالقول إن السلع غير قابلة للبيع، لا يعني سوى أنها لا تجد الشارين القادرين على الدفع…من أجل استهلاكٍ إنتاجيّ أو فردي. وإذا ما سعى أحدٌ لإعطاء هذا اللغو مظهر تعليلٍ أعمق، بالقول إن الطبقة العاملة لا تحظى من منتوجها هي بغير نصيب أقل مما يجب، وإن هذه الآفة ستزول ما إن يزداد نصيبها فيه، أي برفع الأجور. بالتالي، فحسبنا الإشارة إلى أن الأزمات إنما يتمهد طريقها كل مرة بفترة ترتفع فيها الأجور بشكلٍ عام، وتنال خلالها الطبقة العاملة، فعلًا، نصيبًا أكبر في ذلك الجزء من المنتوج السنوي المخصص للاستهلاك. ويُفترض بفترة كهذه، على العكس، – من وجهة نظر فرسان الحس البشري السليم و‹البسيط› (!) – أن تُبعد الأزمة».

[12] من أجل مثالٍ حديثٍ آخر لدور دَيْن الشركات، فلنأخذ مرة أخرى حالة شركة «إكسوديوس» للاتصالات: «جمعت ‹إكسوديوس› 1،52 مليار دولار في سوق السندات، من خلال أربعة عروض ذات عوائد عالية [أي أنها اقترضت 1،52 مليار دولار]. كان هذا النوع من السندات يسمى في الثمانينات بـ ‹السندات القمامة›، وهو مصطلحٌ لم يعد يستخدم مع أن مخاطره العالية ما تزال هي ذاتها. آخر وأكبر العروض، ومقداره مليار دولار، حصل هذا الشهر، وعلى ‹إكسوديوس› الآن تسديد 100 مليار دولار سنويًا من الفوائد». يجب على «إكسوديوس» أن تبيع خدماتها مهما كانت التكلفة، فقط لتتمكن من تسديد ديونها، قبل أن تتمكن من تحقيق «قانون ساي» وتخرج لشراء المزيد من البضائع (رأس مال ثابت ومتغير). ولكن «إكسوديوس» أفلست بالفعل في آخر المطاف عام 2001.

[13] معنى البيع «دون القيمة» هو تحقيق فائض قيمة أقل، أو بعبارة أخرى: لدى الرأسمالي مالٌ أقل. تراكم رأس المال الخاص به يبدأ بالثبط في أقل الأحوال، إن لم ينقطع بالمرة.

[14] باستخدام صياغة ماركس، حيث «ف» هي فائض القيمة و«ث» هي رأس المال الثابت، وأما «م» فهي رأس المال المتغير، وبهذا فإن معدل الربح هو ف/(ث+م). إن زادت «ث» بينما «ف» ظلت مستقرة، سينخفض معدل الربح. يستجيب الرأسمالي بالقيام بكل ما هو ممكن لزيادة «ف» أو إنقاص تكلفة «م».

[15] يناقش ماركس الظروف المعارِضة في الفصل الرابع عشر من المجلد الثالث لـ «رأس المال»، وبإيجازٍ في الفصل الخامس عشر من «نقد الاقتصاد السياسي»، حيث يسرد بعض العوامل الإضافية: «إن هبوط معدل الربح يمكن تأخيره أكثر بإلغاء الاقتطاع الحالي من الربح، مثلًا بتخفيض الضرائب، وتخفيض الدخل العقاري وهلم جرًا…فهذه الأمور ذاتها لهي أجزاءٌ من الربح بمسمىً آخر، ويستحوذ عليها أناسٌ غير الرأسماليين أنفسهم [وهم الدولة أو ملّاك العقارات]. إن انخفاض [معدل الربح]، بالمثل، يؤخره خلق أفرع إنتاجٍ جديدة تزيد فيها الحاجة للعمل المباشر عن الحاجة لرأس المال». وهنالك ظروفٌ معارِضة أخرى، يناقشها ماركس في أماكن أخرى، تتضمن الجيش وغيره من الإنفاق «المُهدِر». إن أمكن الدولة حرف مسار الاستثمار إلى مناطق لا تنتج سلعًا رأسمالية أكثر («القسم الأول» و«القسم الثاني» لدى ماركس)، يمكنها بذلك كبح معدل نمو التركيب العضوي لرأس المال.

[16] كما وصفها ماركس: «إن التضاؤل الدوري في قيمة رأس المال الموجود، وهو وسيلة ملازمة لنمط الإنتاج الرأسمالي، تكبح هبوط معدل الربح وتعجل مراكمة القيمة-رأسمال من خلال تكوين رأسمالٍ جديد، يخلّ بالعلاقات المتكوّنة التي تجري في إطارها عملية التداول وعملية تجديد الإنتاج، ويقترن، لذلك، بتوقفات فجائية وأزماتٍ في عملية الإنتاج».

[17] تذكر أن السهم هو مجرد شهادة تبيّن أن المساهم يملك نسبةً من شركة محددة، وبالتالي له حقٌ في نسبةٍ من أرباحها. وبهذا قد تدفع 10 دولارات مقابل سهمٍ يمنحك ملكية 10 بالمئة من شركة ما، فإن كانت أرباحها 1000 دولار في العام المقبل، فمستحقاتك هي 10 دولار، وستعوّض عمّا دفعت مباشرة. بعبارةٍ أخرى، لدى سهمك «نسبة أرباح إلى السعر» جيدة، وهي 10$/10$= 1 (كلّما قلّت نسبة الأرباح إلى السعر، كلما كانت أفضل). ولكن مع مضاربةٍ مستفحلة، يمكن لنسبة الأرباح إلى السعر أن تصل إلى المئات (بعبارة أخرى، سيلزمك مئات السنين لتعويض المال المُنفَق على شراء الأسهم، نظرًا للأرباح الحالية). في هذه الحالة، لا تُشتَرى الأسهم من أجل الأرباح المستقبلية، إنما بغرض محاولة بيعها لشخصٍ آخر ليس إلا (أو أحيانًا، بالمراهنة بأن الأرباح المستقبلية سترتفع بشكلٍ عالٍ).

[18] يناقش ماركس بإسهابٍ أكثر بعض مسببات نجاة «الأسماك الكبيرة» الرأسمالية وعدم نجاة «الأسماك الصغيرة». لاحظ أنه حتى لو انخفض معدل الربح، طالما يمكن للرأسماليين الكبار توسيع استثماراتهم بصورةٍ معتبرة، يمكن لهم الإبقاء على كمية الربح الإجمالي ذاتها. فكما أشرنا سابقًا، إن حققوا ربحًا قدره 10 بالمئة على مليون دولار مُستثمَرة، وربحٍ قدره 8 بالمئة فقط على مليوني دولار مُستثمَرة، سيظلون متقدّمين على البقية بمسافة طويلة. وكما يشير ماركس في «رأس المال»: «رأسمالٍ كبير بمعدلٍ ربحٍ صغير يراكمُ أسرع من رأس مالٍ صغير بمعدل ربحٍ كبير». يظل الرأسماليّون الكبار يملكون كتلة ربحٍ متنامية للدخول في استثماراتٍ أكبر فأكبر في رأس المال الثابت ورأس المال المتغير. لا يملك الرأسماليّون الأصغر اليسر الذي يتيح لهم التوسع بوتيرة مكافئة. استثمرت «جنيرال إلكتريك»، مثلًا، استثمارًا معتبرًا لتأسيس شبكة سلسلة توريد إلكترونية لمورّديها المئة ألف. لا يملك العديد من منافسي «جنيرال إلكتريك» كتلة الربح للمباشرة (أو المخاطرة) بمثل هذا الاستثمار، وبالتالي يتأخرون، «بل إن المعاينة الأكثر سطحية للمنافسة»، كما يشير ماركس، «تبين علاوة على ذلك أنه إذا أراد رأسماليٌ أكبر، في ظل ظروف معينة، أثناء الأزمة، مثلًا، أن يحتل لنفسه مكانًا أكبر في السوق وأن يزيح رأسماليين أصغر منه، فإنه…يخفض معدل ربحه بصورة متعمدة، لإقصاء الرأسماليين الصغار من الميدان…فالتعويض عن هبوط معدل الربح بزيادة في كتلة الربح لا يتسم بأهمية فعلية إلا…بالنسبة للرأسماليين الكبار الذين يملكون مشاريع قائمة. ولا يجد رأس المال…الجديد الناشط بصورة مستقلة، أية شروط جاهزة مسبقًا لمثل هذا التعويض».

[19] يشير ماركس إلى أنه، بسبب موقعهم الاحتكاري، وبسبب تمكن كتلة ربحهم من النمو حتى مع معدل ربحٍ منخفض، تخسر وحدات رأس المال الكبيرة الاندفاع نحو الإبداع: «ولو غدا تكوين رأس المال من نصيب قلة من رؤوس الأموال الكبيرة وحسب، وهي التي تتفوق عندها كتلة الربح على معدله، لخبت النار التي تغذي الإنتاج ولهجع هذا الإنتاج في سبات». ولكنهم، كما أشرنا سالفًا، يحافظون على أفضلية مقابل منافسيهم الأصغر، الذين كثيرًا ما يكونون أكثر فعاليّة.

إنترناشنال سوشالست رفيو – التقرير