متى ننتقل إلى عصر ما بعد العقائد

متى ننتقل إلى عصر ما بعد العقائد

مشكلة العقائديين، ومنهم الإسلامويين، أنهم لا يؤمنون بالزمن. العقيدة بالنسبة إليهم هي كل شيء وفوق كل شيء، ويمكن اختزال كل شيء من خلالها. لذلك لا يزال هناك شيوعيون، بالرغم من أن الشيوعية انتهت.

ما يمكن قوله اليوم إن العودة إلى الشيوعية يمكن أن تكون موضوعا لسهرة منزلية.

الفكرة الأشدّ سخرية تكمن في أن العقائديين، أنفسهم، يلوّحون بخطر عودة أضدادهم من العقائديين إلى الحكم لإخافة الجمهور بهم، كما لو أن آلة الزمن يمكن أن تعود إل الوراء.

في العراق مثلا يومئ أتباع حزب الدعوة الإسلامي، وهو حزب تقوم عقيدته على التعصب الطائفي، إلى إمكانية أن يستعيد البعثيون السلطة إذ ما فكر أحد بإزاحتهم من الحكم.

البعثيون خلف الباب. “ولكن ما الذي يُخيف في البعثيين؟”، لا أحد يجرؤ على الاستفهام.

المفارقة تكمن في أن البعثيين، بسبب مرجعيتهم الوضعية، هم أقل قسوة على خصومهم من الإسلامويين، ومن ضمنهم أتباع حزب الدعوة نفسه.

الخطير في الأمر أن لعبة العقائد إذا ما تمّ إحياؤها فإنها تشكل الوسيلة الأكثر اتقانا وفتكا في تدمير المجتمعات. وهو ما جربته الولايات المتحدة في العراق ونجحت فيه.

بغض النظر عن الحرب التي يشهدها العراق اليوم ضدّ تنظيم داعش الإرهابي، فإن البلد الذي تتقاسم فيه السلطة أحزاب دينية يعيش في حقيقته حربا عقائدية، تمّ تغليفها من أجل التبسيط بغطاء طائفي.

لعبة العقائد تشكل الوسيلة الأكثر إتقانا وفتكا في تدمير المجتمعات. وهو ما جربته الولايات المتحدة في العراق ونجحت فيه

أولا، هناك مسعى حثيث لإقامة نظام ديني، يخضع مؤسسات المجتمع لآليته في العمل، من غير الحاجة إلى إعلان الدولة الدينية.

ثانيا، هناك تكريس لسيادة الحكم الديني على التصريف الدنيوي، بما يهب رجل الدين سلطة تقع فوق القانون، بل إن القوانين لا يتمّ تفعليها إلا بحضوره.

ثالثا، هناك محاولة لإحلال مفهومي الحلال والحرام محلّ مفهومي القانوني وغير القانوني، وهو ما سيقود لاحقا إلى تمييع سلطة القانون، واللجوء إلى المساجد والحسينيات لحلّ المشكلات بدلا من الذهاب إلى المحاكم.

رابعا، وهو الأخطر فإن العقائد بالرغم من تحجرها فإن مصالح حامليها تسمح بالاختلاف داخل العقيدة الواحدة، وهو ما يمكن أن يقود بيسر إلى نشوب حرب داخل الطائفة الواحدة. وهو ما شهده لبنان أثناء حربه الأهلية التي امتدّت بين سنتي 1975 و1990.

ما لم يتعلمه العرب حتى اللحظة أن ينتقلوا إلى عصر ما بعد العقائد.

لا تزال لعبة العقائد ممكنة في العالم العربي. وهو ما يسمح، دائما، بالقبول بظهور التيارات الدينية المتطرفة التي صار في إمكانها أن تجرّ المجتمعات بيسر إلى موقع التابع الذليل الذي يشعر أنه أقلّ قيمة من أن يتصدّى للأفكار المطلقة، وبالأخص لما يتعلق منها بحياة ما بعد الموت.

لقد استبيح الربيع العربي من قبل الجماعات الإسلاموية بسبب الفراغ الفكري الذي خلقته حروب العقائديين التي استمرت أكثر من خمسة عقود، كان المجتمع هو ضحيتها الوحيدة، ذلك لأن العقائديين العرب كانوا قد شيّدوا أنظمتهم على أساس استضعاف المجتمع، من خلال فرض أفكارهم الشمولية عليه وإلحاقه بعرباتهم.

أما حين انتهت تلك الأنظمة إلى الهاوية، فإن المجتمعات لم تبرأ من أمراضها. وهو ما استفاد منه الإسلاميون، حين أحلّوا عقائدهم المطلقة محلّ العقائد الأرضية التي محيت.

أما كان على المجتمعات العربية أن تدافع عن نفسها بسؤال من قبيل “وماذا بعد؟”.

لقد قرر تنظيم إرهابي هو داعش أن يقيم دولة للخلافة على أرض العراق والشام.

ولكن ماذا عن مرحلة ما بعد إنشاء تلك الدولة؟

هناك في العالم العربي مشكلات تاريخية ذات صبغة دينية لم تحلّ بعد.

تلك المشكلات هي من نفايات عصر العقائد. العصر الذي ما لم يغادره العرب، فإنهم سيبقون عرضة لغزوات الهمج والوحوش وقطاع الطرق.

فاروق يوسف

صحيفة العرب اللندنية