محددات أساسية لقراءة ثورات العرب

محددات أساسية لقراءة ثورات العرب

ببطء ومعاناة، وعبر صراعات وانقسامات عنيفة، تدخل ثورات الربيع العربي عامها السابع من دون أن تكشف عن مسارات محددة عن المستقبل، ومن دون أن يبدو أنها اقتربت من تحقيق الشعارات التي رفعتها الجماهير العربية في الشوارع والميادين. وكانت غالبية هذه الشعارات بمثابة أهداف وبرامج عمل للتغيير المنشود، والذي طالبت به القوى الشبابية الثورية والجماهير وقطاع من النخب، لكن من دون أن تتفق على مضمون هذا التغيير أو تستعد لمتطلباته وتحدياته.

والمفارقة أن الاهتمام الشعبي بشعارات أو أهداف الربيع العربي في الدول العربية المختلفة تراجع على نحو لافت في العامين الأخيرين لتقفز إلى صدارة اهتمام الشعوب في دول الربيع العربي قضايا وهموم مختلفة كالهجرة الى الخارج، ومقاومة الإرهاب وبناء الدولة وتحقيق الاستقرار، واستعادة عافية الاقتصاد. وأنتجت هذه التحولات المثيرة رؤية اعتذارية عن فعل الثورة نفسه، حيث طفت على السطح نظرية المؤامرة لتفسير ما جرى، وجرى الترويج لسردية الفوضى، ما يعني نزع مشروعية إطاحة أنظمة استبدادية وفاسدة تحت دعوى أنها كانت تحقق الاستقرار وتحفظ كيان الدولة، بغض النظر عن هشاشة أو طائفية وقبلية تلك الدولة في الأقطار العربية الخمسة التي ضربها الحراك الثوري أو الانتفاضات الشعبية.

صحيح أن أصحاب هذه السرديات لا يشكلون الغالبية في دول الربيع العربي، لكن خطابهم حاضر ومؤثر في الإعلام وفي بعض مؤسسات الدولة أو ما تبقى منها. في مقابل أصحاب سرديات الربيع العربي كفوضى أو مؤامرة، والدعوة للاستقرار، هناك سرديات أن الثورة لم تكتمل وأن موجة أكبر قادمة في المستقبل القريب، لأن الثورة المضادة والقوى الإقليمية والدولية أجهضت الثورات العربية، وأعادت إنتاج الأنظمة الاستبدادية والظلم الاجتماعي أو هدمت كيان الدولة ومؤسساتها في ليبيا واليمن وسورية، بالتالي فإن دواعي الثورة متوافرة وبقيت اللحظة المناسبة أو شرارة التفجير. والمدهش أن الاستقطاب بين أصحاب الدعوة للاستقرار وبناء الدولة، وبين أصحاب الثورة القادمة ليس الاستقطاب الوحيد، فهناك الاستقطاب الإسلاموي المدني، والاستقطابات الجهوية والقبلية والطائفية، والاستقطابات والصراعات الإقليمية والدولية. وبعض هذه الاستقطابات يوظف شعارات أيديولوجية أو يستغل أهدافاً نبيلة كالحرب على الإرهاب والتطرف الفكري أو بناء الديموقراطية أو الإصلاح الاقتصادي. والثابت أن هناك أطرافاً إقليمية ودولية لعبت ولا تزال أدواراً بالغة التأثير في المسارات المعقدة للربيع العربي، حيث تقدم أشكالاً متنوعة من الدعم المادي والمعنوي – المباشر وغير المباشر – والذي ساعد في حسم كثير من المعارك والمواجهات السياسية والعسكرية في دول الربيع العربي. ومن الطبيعي إن تنتج أطراف الصراع على الربيع العربي والقوى الفاعلة فيه خطابات متصارعة تقدم على أنها قراءات موضوعية لمسار الربيع العربي ونتائجه سواء الحالية أو المستقبلية. ونظراً الى أنها قراءات أيديولوجية متحيزة وذات أغراض تعبوية، فإنها تدعي امتلاك الحقيقة والمشروعية وتميل بالتالي نحو التشاؤم الشديد أو التفاؤل المبالغ فيه والذي لا يستند إلى حقائق على الأرض. وفي ما يلي عدد من الملاحظات التي أرجو أن يشاركني القارئ التفكير فيها في شأن القراءات العربية والأجنبية الرائجة عن الربيع العربي:

أولاً، إن الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية لم تكتمل كثورات حتى اليوم، فهي لم تحقق، كما يقول درس التاريخ، التغيير الحقيقي والواسع المدى لا سيما في المجالين الاجتماعي الاقتصادي والسياسي الثقافي. كذلك من الصعب القول إنها وصلت إلى نهايتها، فالصراع الفكري والسياسي والعسكري حول الشعارات والأفكار التي طرحتها الانتفاضات الثورية لا يزال مستمراً، ولم تحسم الصراعات والاستقطابات بصورة نهائية أو يتحقق الاستقرار. ربما تكون مصر وتونس هما الأقرب إلى الاستقرار، لكن المستقبل في هذين البلدين حتى اليوم رهن بنجاح الإصلاح الاقتصادي، وهو رهان خطير، لأنه لا اقتصاد جيداً من دون عدالة اجتماعية. من الصعب تماماً استشراف المستقبل في الدول الخمس على نحو دقيق، لا سيما أن هناك تعاظماً في أدوار القوى الإقليمية والدولية وتحولات – وربما تفاهمات – في أولويات الإدارة الأميركية وروسيا في الشرق الأوسط.

ثانياً، يبدو الربيع العربي كظاهرة اجتماعية جماهيرية واحدة، حيث تحركت الجماهير على نطاق واسع وغير مسبوق ضد أنظمة استبدادية فاسدة، لكن انتفاضة كل بلد شكلت ظاهرة خاصة ترتبط بالتكوين التاريخي والاجتماعي والسياسي لكل من هذه البلدان. فما جرى في تونس يختلف عما حدث في مصر أو سورية أو اليمن، ما يجعلنا أمام ظواهر اجتماعية جماهيرية متعددة، وصراعات على السلطة والدولة بطرق وأساليب مختلفة. بالتالي من غير المنطقي التعامل مع انتفاضات الشعوب العربية على أنها ظاهرة واحدة، لأنه يؤدي إلى تعميم مضلل في إدراك ما جرى خلال السنوات الست الماضية، ومن ثم الوصول إلى استنتاجات أو ربما سيناريوات غير دقيقة للمستقبل.

ثالثاً، أن مصطلح الربيع العربي كان أحد أهم أسباب إنتاج وترويج التعميم المخل في إدراك وتحليل مسار الثورات العربية غير المكتملة. فالمصطلح تحول إلى أيقونة إعلامية جذابة ومثيرة، لكنه غطى على تفاصيل كثيرة وفروق عديدة بين الدول العربية، كما عكس نزعة استشراقية في التعامل مع المنطقة العربية لا تميز بين درجات التطور السياسي والاجتماعي بين الدول العربية والأدوار المتفاوتة التأثير التي تقوم بها القبيلة والطائفة والجيش، علاوة على جماعات الإسلام السياسي، خصوصاً «الإخوان المسلمين»، وهم القوة الوحيدة الأكثر تنظيماً التي راهنت عليها الإدارة الأميركية لاستعادة الاستقرار في المنطقة. ودفع هذا الرهان نحو اختزال عملية التحول الديموقراطي إلى مجرد انتخابات نزيهة أفضت إلى تعميق الانقسام والطائفية في مصر وتونس والعراق، وإنتاج ما يعرف بديموقراطية الصندوق. ويبدو أن الرؤية الاستشراقية لثورات العرب المتعثرة دفعت بعض الغربيين إلى ادعاء صعوبة تعايش الشعوب والثقافة العربية مع قيم وآليات الديموقراطية.

رابعاً، من غير المنصف تحميل الثورات العربية المسؤولية الكاملة عن انهيار مؤسسات الدولة والانقسامات الجهوية والطائفية في ليبيا وسورية واليمن والأزمة الاقتصادية في تونس ومصر. ومن غير المنطقي أيضاً اتهام الانتفاضات الثورية الخمس بأنها كانت السبب في إنتاج التطرف والإرهاب والفوضى وانتشار «داعش» و «القاعدة»، لأن الحقائق على الأرض تؤكد المسؤولية التاريخية والأخلاقية للأنظمة الاستبدادية في الدول الخمس، فهي التي اعتمدت على الطائفية والجهوية في مؤسسات الدولة والجيش، ودخلت في تحالفات مع جماعات إسلاموية متطرفة، وحاصرت المجتمع المدني وأضعفت الحياة السياسية والنقابات، كما لم تهتم بالتعليم أو بناء اقتصاد يعتمد على الذات. ولهذه الأسباب تحركت الجماهير من أجل التغيير بعد أن رفضت الأنظمة الاستبدادية كل محاولات الإصلاح من الداخل. لكن الحراك الجماهيري في الدول الخمس لم يدرك الأبعاد الخطيرة لهذا الإرث الهائل من المشكلات واكتفى بالأحلام والأمنيات الطيبة عن الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية. كما فشلت النخب السياسية في الوصول إلى الحكم أو التوافق على إحداث التغيير المطلوب. ولا شك في أن مقاومة قوى الثورة المضادة وتدخل أطراف إقليمية ودولية أعاقا التطور الطبيعي للثورات العربية وخلقا مشكلات وأزمات اعتبرت – من دون مبررات كافية – من نتائج الحراك الثوري.

في الختام، لا بد من مراعاة الاعتبارات السابقة عند تقديم أي قراءة لمسار انتفاضة كل بلد عربي من دون التورط في التعميم أو المقارنات غير التاريخية بين الانتفاضات الخمس. صحيح أن هناك تأثيراً متبادلاً بينها لكنه لا يعني التعامل معها على أننا إزاء ظاهرة واحدة ومستقبل واحد. وأحسب أن القراءة الأقرب إلى الموضوعية لم يحن زمانها بعد، لأن انتفاضة كل بلد عربي لم تصل إلى محطتها الأخيرة بعد.

محمد شومان

صحيفة الحياة اللندنية