كيري ونتنياهو والمستوطنات

كيري ونتنياهو والمستوطنات

في أعقاب الصفعة المزدوجة الأخيرة التي تلقتها إسرائيل، أولاً بقرار الأمم المتحدة الذي يدين ويطالب بوقف كل النشاط الاستيطاني، وثانياً في خطاب وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي هاجم السياسة الإسرائيلية، يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قد فقد صوابه من الغضب. وقال بعد وقت قصير من خطاب وزير الخارجية إن السيد كيري “تعامل بهوس مع موضوع المستوطنات وضرب بالكاد على وتر جذور الصراع”. ثم أدلى بعد ذلك بهذا التصريح الذي لا يصدق: “ليس هناك أحد يريد السلام مثل شعب إسرائيل”. حسناً، هذا أنتم إذن.
هل وصلت الأمور حقاً إلى هذا الحد؟ هل اختفى الواقع والحقيقة من الرادار الدولي؟ زعيم دولة ثرية ومرموقة، والتي تتلقى من المساعدات الأجنبية من الولايات المتحدة أكثر من كل الدول الأخرى التي تتلقى مساعدات أميركية مجتمعة، ينطق فعلياً بهذا الهراء ولا يواجَه بالسخرية والازدراء من جانب المجتمع الدولي. حسناً، وبما أن دونالد ترامب هو الرئيس المنتخب للولايات المتحدة، فإن كاتب هذا المقال يفترض أنه قد أجاب عن أسئلته الخاصة.
قال السيد نتنياهو أيضاً إن السيد كيري قدم “خدمة شفوية” فقط لإدانة ما وصفه بأنه الإرهاب الفلسطيني، واتهم وزير الخارجية الأميركي بـ”مهاجمة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”.
إذن، “لا أحد يريد السلام أكثر من شعب إسرائيل”! دعونا نرى الآن. يقوم الإسرائيليون بطرد الفلسطينيين وإخراجهم من بيوتهم لأسباب متنوعة: الإقامة فيها؛ تدميرها لإفساح المجال أمام وجود “مجتمعات” إسرائيلية فقط (كلمة جديدة استحدثت لإضفاء الصبغة الشرعية على المستوطنات غير الشرعية)؛ لإنشاء طرق لا يستطيع غير الإسرائيليين حتى عبورها من رصيف إلى رصيف، ناهيك عن المرور فيها بمركباتهم؛ تمديد جدار الفصل العنصري. وفي الأثناء، يرتكب المستوطنون الإسرائيليون الجرائم، بما فيها جرائم القتل ضد الفلسطينيين بحصانة كاملة تقريباً، وغالباً تحت حماية الجنود الإسرائيليين الذين يرتكبون بدورهم جرائم لا توصف ضد الفلسطينيين، وبحصانة كاملة تقريباً أيضاً. والإسرائيليون أحرار في حمل أسلحتهم القاتلة معهم أينما ذهبوا؛ أما غير الإسرائيليين فمحرم عليهم ذلك.
لسبب ما، لا يبدو هذا بالنسبة لي عمل شعب يريد السلام بالإلحاح الذي يريدنا رئيس القتلة أن نعتقد به.
قال نتنياهو أن السيد كيري قدم “خدمة شفوية” فقط للإرهاب الفلسطيني. وفي الحقيقة، لم يكن أي شيء قاله كيري عما يدعى “إرهاب” يرتكبه الفلسطينيون أكثر من مجرد استرضاء لإسرائيل. ينبغي أن يكون السيد كيري على علم بأنه، بموجب القانون الدولي، يكون للشعب الواقع تحت الاحتلال الحق في مقاومة الاحتلال بأي طريقة ممكنة. كما يجب أنه يعرف أن ما تدعى “صواريخ” تطلقها حركة حماس بين الفينة والأخرى على إسرائيل، لا تعدو كونها مجرد ألعاب نارية مُحسنة، كما وصفها العالم نورمان فينكلشتاين، ابن الناجين من الهولوكوست والمنتقد البليغ لإسرائيل. ومن الصعوبة بمكان مقارنة هذه “الصواريخ” بالأسلحة المميتة التي تزود الولايات المتحدة بها إسرائيل لقتل الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين. ودعونا نذكّر أنفسنا بأن إسرائيل أطلقت في صيف العام 2014 صواريخ قاتلة على قطاع غزة أكثر بكثير مما أطلقته حماس على إسرائيل في الأعوام الأربعة عشر الماضية مجتمعة.
يبدو أن لدى السيد نتنياهو تعريفا غير اعتيادي للإرهاب. ويتساءل المرء عما إذا كان سيعتبر قيام جنود فلسطينيين بمداهمة منازل الإسرائيليين بشكل روتيني في منتصف الليل وتخريبها وسلب موجوداتها واعتقال كل الذكور الذين يوجدون فيها ممن تتجاوز أعمارهم 10 سنوات، ضرباً من الإرهاب الفلسطيني. يشعر كاتب هذا المقال بأنه سيعتبره كذلك. ومع ذلك، فإن الجنود الإسرائيليين يرتكبون هذه الجرائم على أساس يومي ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
وهل سيعتبر كبير القتلة الإسرائيلي ذلك عملاً إرهابياً لو قاد فلسطينيون جرافات إلى منزل عائلة إسرائيلية وطلبوا منها مغادرة المنزل في الحال لأن منزلها مدرج على قائمة الهدم؟ إن إسرائيل تقوم بهذا العمل ضد منازل الفلسطينيين مئات المرات في كل عام.
وماذا لو ذهب الفلسطينيون إلى خزانات المياه الإسرائيلية التي تعول عليها العائلات الإسرائيلية للحصول على مياه الشرب، ولوثوها بصيصان ميتة أو ببراز بشري، هل سيشعر كبير المجرمين بأن ذلك كان عملاً إرهابياً؟ وهل سيشعر كذلك إذا قام الفلسطينيون ببساطة بتدمير خزانات أو مستودعات المياه تلك؟ إن الإسرائيليين يقومون بهذه الأعمال على أساس منظم.
إذا قاد الفلسطينيون سيارات شحن مجهزة خصيصاً إلى مدرسة ابتدائية في إحدى الضواحي، وقاموا برش المياه العادمة في كل أنحاء المدرسة وفي البنايات السكنية المجاورة، وعلى أي أناس لم يستطيعوا الابتعاد عن الطريق بسرعة كافية، فهل سيعترض نتنياهو على ذلك كعمل إرهابي؟ إن الفلسطينيين يعانون من هذه المعاملة من جانب الإسرائيليين.
وهكذا، ربما يستقر في العقل الصغير الملتوي للسيد نتنياهو أن الإسرائيليين فقط الذين يستطيعون التمتع بدور الضحية؛ فهو سيكون بعد كل شيء مستعداً لأن يقول لكم: تذكروا الهولوكوست! لن يحدث مثل ذلك ثانية أبداً! لكن يعني”لن يحدث ثانية أبداً” للإسرائيليين فقط، وأن هذه الجرائم ضد الآخرين مقبولة وحسب.
لقد هاجم كيري، وفق ما قال رئيس القتلة، “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”. لكنّ ثمة عنصراً رئيسياً في الديمقراطية هو “ضمان حقوق الإنسان الأساسية لكل فرد في مقابل الدولة والسلطات، وفي مقابل المجموعات المجتمعية (خاصة المؤسسات الدينية)، وفي مقابل الأشخاص الآخرين”. وقد ذكرنا أصلاً الطرق التي يستطيع الإسرائيليون وحدهم القيادة فيها. كما أن لغير الإسرائيليين سلسلة منفصلة من القوانين في النظام القضائي. وبالنسبة للأشخاص الذين يعيشون تحت الاحتلال، يشمل ذلك التعرض للاعتقال من دون توجيه تهمة؛ والاعتقال إلى أجل غير مسمى؛ وعدم إمكانية الوصول إلى محامين أو رؤية العائلة؛ والافتقار إلى الرعاية الطبية، من بين أمور أخرى. أما الإسرائيليون، فمن غير الممكن اعتقالهم من دون توجيه تهمة أو اعتقالهم إلى أجل غير مسمى. وهم يتمتعون بوصول مباشر وغير معاق إلى المحامين وإلى عائلاتهم وإلى أي رعاية طبية قد يحتاجون إليها.
ثمة عنصر رئيسي آخر هو حرية الرأي والصحافة. وتمجد إسرائيل هذه الحرية طالما لا يقول المرء أي شيء ينتقد من خلاله الدولة. فيا لها من ديقراطية، في حقيقة الأمر!
ربما نكون قد ادخرنا الأفضل للآخر. قال السيد نتنياهو إن السيد كيري: “تعامل بهوس مع موضوع المستوطنات وتطرق بالكاد إلى جذور الصراع”. يبدو كبير القتلة هنا مثل الطفل المدلل في ساحة المدرسة، الذي يجيب عندنا يُسأل عن السبب في ضربه طفلاً آخر: “لأنه رد لي الضربة”.
إن فلسطين، التي بلا جيش ولا بحرية ولا قوة جوية، تعاني الاحتلال والقمع على يد واحدة من أقوى الدول في العالم، والمدعومة من جانب القوة الأقوى. ويقول السيد نتنياهو إن فلسطين ترفض الاعتراف بدولة إسرائيل اليهودية (لم يتم أبداً تفسير كيف يمكن أن يتطابق ذلك المفهوم مع فكرة الديمقراطية لكاتب هذه السطور بطريقة مناسبة)، ويدعي أن ذلك هو مفتاح الصراع. ومع ذلك، تقوم إسرائيل ببطء، ولو أن ذلك يكتسب سرعة متزايدة، بضم كل فلسطين، مع الهدف النهائي المتمثل في إفنائها ومحوها من الوجود، وإحلال إسرائيل محلها.
مع انتخاب السيد ترامب الذي يشبه المهرج رئيساً للولايات المتحدة، لن يكون هناك أي ادعاء بأن الولايات المتحدة وسيط سلام محايد في الشرق الأوسط. وكان السيد ترامب قد قال إن إسرائيل تستطيع أن تبني كل المستوطنات التي تريد، كما أن كل السياسيين الذين عينهم يحبذون تدمير فلسطين، كما طالبت اللوبيات الإسرائيلية الثرية والسخية، وفي مقدمتها لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (ايباك). لكن التصويت الأخير في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة يظهر دعما دولياً لفلسطين. ربما، وربما فقط، سيدرك بقية العالم بوجود السيد ترامب رئيساً، أن عليه أن يعمل لصالح الشعب الفلسطيني. وقد يكون لانتخاب السيد ترامب، على الرغم من أنه كارثة كلية للعالم، جانب مشرق -إذا حرك المجموعة الدولية للعمل من أجل العدل والإنصاف في فلسطين.

روبرت فانتينا

 صحيفة الغد