الحكومة التونسية المشكَّلة وثقافة الغنيمة السياسية

الحكومة التونسية المشكَّلة وثقافة الغنيمة السياسية

580

لم يكن أحد من الفاعلين السياسيين والمتابعين للشأن العام يعتقد أن حكومة نداء تونس الجديدة ستظهر بهذا المستوى من الوهن والضعف والعجز المبين.

وقد استندت تلك الرؤية إلى حجم الدعاية والتبشير بالمولود الحزبي الذي حمل معه بعض صفات الإعجاز التي لا يشترك معه فيها إلا السيد المسيح عليه السلام، فهو الحزب الذي خرج من الأحشاء عالما بمبتغاه متكلما وناطقا به ماشيا على قدميه بالسرعة التي لا نظير لها في عالم السياسة، في الاتجاه الذي اختير له.

حزب قدمته آلات الدعاية بأنه المنقذ من الضلال الذي تردت فيه البلاد منذ لحظة الخطأ الأول المتمثل في فرار بن علي أو تهريبه وانهيار سلطان ورموز نظامه الحديدي. ثم تحول ذلك الخطأ إلى خطيئة تجلت في تولي الترويكا أمر الناس متكئة على شرعية عُدت واهنة وضعيفة أو منعدمة رغم السند العظيم التي اجتباها به المجلس الوطني التأسيسي.

“حالة من الاحتراب الداخلي المدني عاشتها تونس طيلة فترة الحملات الانتخابية التشريعية والرئاسية قاعدتها الأساسية هي القضاء على الإسلام السياسي وحرمانه من العودة إلى السلطة بأي وسيلة كانت وخاصة بالأداة الأنجع المتمثلة في التصويت الناجع”

فقد خاض الحزب الجديد المنصوح به في دنيا السياسة التونسية- المبشر بخبرة سلالته المُجودة في الحكم، وبجدواه ونجاعته في التداوي والعلاج من العاهات السياسية المزمنة والمستحدثة- معركة ضروسا كحمال للتقدم والحداثة التي سوّق نفسه واصطفاها ناطقا باسمها.

وكل ذلك كان ضد العتمة الدينية التي عمت غمامتها سماء ترشيش (اسم تونس القديم) المشرقة مستهدفة النموذج التونسي على حد قول منظريه وزعامات رأيه، وذلك بعد انبلاج العهد النهضاوي إبان حكم حركة النهضة ومن حالفها، وهي القادمة من عوالم أخرى قروسطية وسوداوية مشبعة بـ”براكسيس” الإرهاب ومشتقاته الفكرية والعقدية والمذهبية حسب ما هو راسخ في مخيلة جماعة النداء ومن والاهم.

وجاءت حملاته الانتخابية برمتها تثبيتا لذلك التمشي ونداء ووعدا ووعيدا وثأرا بتخليص البلاد من السقم والهزال الذي أصابها من جراء فترة سلطة قوم الترويكا المغمورين الذين لا دراية لهم ولا معرفة بالحكم وأصوله وقوانينه وأعرافه المنظمة رغم شغفهم الشديد به.

حالة من الاحتراب الداخلي المدني عاشتها تونس طيلة فترة الحملات الانتخابية التشريعية والرئاسية قاعدتها الأساسية هي القضاء على الإسلام السياسي وانبثاقاته العنيفة الذي ابتليت به بلادنا وحرمانه من العودة إلى السلطة بأي وسيلة كانت وخاصة بالأداة الأنجع المتمثلة في التصويت الناجع.

وقد وصل الأمر بالقوم إلى حد الجهر بتقسيم التونسيين إلى شماليين حداثيين تقدميين وجنوبيين رجعيين دينيين متخلفين، وإلى شمال شملته الدولة الوطنية بعطفها ورعايتها وجنوب أهملته وبقي على هامشها وفي مجال سيبتها.

وهذا الخطاب العدواني على الوطن الواحد سُوق له دون رقيب أخلاقي أو وازع سياسي يزع كلا الفريقين عن منحاهم التفكيكي التدميري للمجتمع ونسيجه اللين، حتى بلغ بهم الأمر حد رسم نزواتهم التقسيمية غير البريئة على خريطة البلاد التونسية دولتين منقسمتين واحدة شمالية وأخرى جنوبية.

تهاوى كل شيء بعد سويعات من نطق الصناديق بأسرارها بعد الانتخابات التشريعية في26 أكتوبر/تشرين الأول والرئاسية في 21 ديسمبر/كانون الأول 2014 فتوحد هوى قياديي النورانيين الحداثيين بهيام الزعماء الظلاميين الرجعيين الإرهابيين.

وبدأ التبشير بالحكومة الوطنية والمصلحة العمومية، واستحال الاحتراب اللبوس الذي كاد أن يتحول إلى حرب ضروس بين شركاء الأرض واللغة والدين والتاريخ والثقافة والمصاهرة، استحال رغبة في السلطة والحكم وكراسيه حتى وإن كان ذلك بالاشتراك مع عدو إيديولوجي موصوف بالتطرف الحداثي العلماني أو نقيضه الرجعي الديني.

“وصل الأمر بالمتصارعين السياسيين حد الجهر بتقسيم التونسيين إلى شماليين حداثيين تقدميين وجنوبيين رجعيين دينيين متخلفين، وإلى شمال شملته الدولة الوطنية بعطفها ورعايتها، وجنوب أهملته وبقي على هامشها وفي مجال سيبتها”

وليسمح لنا قارئنا أن نستعير من لسان ابن منظور العربي مصطلحا كثيف الدلالة ينطبق على حال طيف كبير من طبقتنا السياسية الممثلة في مجلس نواب الشعب وكذلك في خارجه، ويفسر لنا هذا التهافت على السلطة الفاقد المبررات المبدئية إلا من حيث هي منتجع من منتجعات المصالح والامتيازات والاستجابة للنزوات والرغبات، أو تنفيذ الأجندات وبيع ما بقي من أملاك الدولة وثروات البلاد.

فنحن أمام نوع من الغُلمة، ومعنى الكلمة كما هو محدد في اللسان الشهوة الكبيرة التي تصل حد الهيجان لدى الرجل والمرأة، نطلق عليها في سياقنا هذا الغُلمة السياسية التي تظهر في هذا الجنوح الجانح نحو السلطة المصاحب بدوس المبادئ والقيم.

ونحن كذلك أمام ثقافة الغنيمة السياسية التي تكتسح الفضاء العام السياسي التونسي، والتي تندفن في حضرتها الفكرة الوطنية التي تمثل قيمة سياسية سامية وثابتة تفترش التضحية والفداء وتحل محلها البرغماتية السياسية التي تبيح الاتجار في كل شيء، فالسياسة لديهم هي وسيلة للمقايضة واكتساح لسوق الدولة لا أكثر.

لقد تجلى ذلك الهيجان السياسي وما صاحبه من رغبة كبيرة في الحكم في البداية في حزب النداء الفائز بأغلبية المقاعد، وهو أمر طبيعي متعارف عليه في الديمقراطيات الناشئة الوليدة على غرار نظيرتها العريقة.

لكن الحزب المجمع من روافد مختلفة ومتناقضة يسارية كانت أو دستورية أو نقابية أو حقوقية، حول شخصية واحدة “زعامية” واقتداء بتجارب الأسلاف وإرثهم الحزبي الدستوري المتعدد المراحل، وجد نفسه يأتمر بأوامر مؤسسه وسيده وقائده ورئيسه الباجي قائد السبسي الذي فصل القول في رئيس الحكومة الجديد الذي لا ينبغي أن يكون ندائيا حسب معلوم الأمور وظاهرها.

ومن هنا تحول الحزب الفائز في الانتخابات إلى مجرد طرف من الأطراف السياسية اللاهثة إلى قصر الضيافة، أين سيحصل كل على ما يبتغيه ويرتضيه من الكعكة التي هي بصدد التوزيع والتقسيم.

وعلى غرار أقرانه من الأحزاب الأخرى ومن لوبيات السياسة المتغطية ببعض أطراف المجتمع المدني من جمعيات ومنظمات، اهتدى الحزب الأكبر بمجلس نواب الشعب إلى فهم اللعبة، فألقى السجلات السيرية لكوادره ومناضليه إلى لجنة الفرز المنتصبة بسوق قصر الضيافة، وهو الفضاء الذي شهد كواليس وحيثيات انتخاب أعضاء مجلس إدارة الحكومة التونسية الجديدة، آملا أن يستجيب الله لدعاء قيادته ورغباتها فيظفر الحزب الكبير بما سيظفر به غيره من الأحزاب وأصحاب النفوذ والمقامات.

غُلمة السلطة برزت في البداية لدى طرف سياسي لم يفز بأي مقعد في مجلس نواب الشعب، لكنه استطاع والناس في غفلة من أمرهم وبواسطة “قوة اللوبيينغ” التي يمتلكها وبنفس الأدوات التي مكنته من اختراق حكومة الغنوشي الأولى والثانية وحكومة السبسي سنة 2011، من الحصول على أكثر من عشر حقائب وزارية، ومنها حقيبتان سياديتان، إلى درجة أن بعض الندائيين من المنحدر الدستوري تساءلوا: هل الحزب الشيوعي وروافده المدنية هو من فاز في الانتخابات؟ ولكن ذلك التساؤل لم يغير الشيء الكثير في التوزيعية الثانية للحقائب الوزارية وفي صيغتها النهائية كما طرحت لنيل الثقة من قبل مجلس نواب الشعب.

إن هذا الفريق الذي يتصدر المشهد تحت اسم “مستقلي الحكومة” في جانب منه، يغنم سياسيا بكل ما في الكلمة من معنى، فهم يعرفون من أين تؤكل الكتف، حسب تعبير أحد كبار أحبارهم. وما تحصلوا عليه من حقائب وزارية يوازي أو يفوق حقائب حزب الأغلبية نداء تونس صاحب 86 مقعدا، وكذلك حقائب حركة النهضة المتحالفة معه صاحبة 69 مقعدا.

“إن الغنائمية السياسية في الحكومة المشكلة لا تتجلى فقط في تجميع أحزاب تتقاذف بالنعوت الأيديولوجية والوصم الفكري والسياسي، وإنما يتهم بعضها بعضا برعاية الإرهاب، وكذلك بممارسته في صيغته المكثفة التي تجلت في اغتيال الشهيدين بلعيد والبراهمي “

إن الغنائمية السياسية في الحكومة المشكلة لا تتجلى فقط في تجميع أحزاب تتقاذف بالنعوت الإيديولوجية وبالوصم الفكري والسياسي، وإنما يتهم بعضها بعضا برعاية الإرهاب وكذلك بممارسته في صيغته المكثفة التي تجلت في اغتيال الشهيدين بلعيد والبراهمي، فكيف ستتعايش أطراف تتهم بعضها البعض بالقتل والاغتيال والتصفية على خلفية الهوية السياسية؟

وكيف ستعمل أحزاب تنعت بعضها البعض بالفساد المالي وشراء ذمم الناخبين في حكومة موحدة؟ وهل من المعقول في عالم السياسة التونسية لما بعد الثورة أن تنحدر “إيطيقا” السياسة وبراغماتيتها اللامبدئية إلى درجة تولي مناصب وزارية ممن شارك في انتخابات 26 أكتوبر/تشرين الأول التشريعية المنقضية وفشل في الفوز بمقعد؟

هذه أسئلة جدية يستوجب منا عملنا الفكري والأكاديمي إعادة التفكير فيها، وكذلك طرحها على جميع الفاعلين السياسيين، لا سيما من هم داخل مجلس نواب الشعب بمناسبة حصول الحكومة التونسية الجديدة على ثقتهم في عملية قفز في المستقبل سمتها الرئيسية تصدير الأزمة الهيكلية للحكم بضعة أشهر إلى الأمام بعد أن بات ظاهرا للعيان أن التعايش بين مكوناتها الحزبية هو مجرد شعار، وبعد أن أفصح كل طرف عن مقصده الحقيقي المتمثل في الحصول على أكبر قدر ممكن من الكراسي والحقائب الوزارية.

وفي ثنايا هذا الصراع المحموم لم يعد أحد يتكلم عن برنامج الحزب الفائز بأغلب المقاعد بمجلس نواب الشعب وسبل تطبيقه، ولا حتى عن برنامج الحكومة في صيغتها الائتلافية، وإنما ظهرت لغة جديدة قوامها ماذا سيفعل كل وزير في وزارته؟ وممن سيتكون طاقم ديوانه؟ فهل تصمد حكومة بمثل هذه المواصفات أمام عواصف الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وإفرازاتها الحادة من البطالة والفقر والتضخم وغياب الأمن وتهاوي العملة الوطنية؟

سالم لبيض

المصدر: الجزيرة