السباق بين أستانا وجنيف.. الحلول الممكنة

السباق بين أستانا وجنيف.. الحلول الممكنة

طال أمد الصراع السوري كثيراً، وفي غضون ذلك ازدادت تعقيداته، والتدخّلات أو التلاعبات الخارجية فيه، كما تعدّدت طبقاته وأطرافه، خاصة نتيجة تحوّله من مجرد صراع في سوريا بين الشعب أو أغلبية الشعب والنظام، إلى صراع إقليمي ودولي على سوريا.

بين هذا وذاك نجح النظام وحلفاؤه في حرف المسألة السورية من كونها صراعا على السياسة ونوعية الحكم، إلى صراع طائفي أو مذهبي، أو كحالة صراع ضد الإرهاب، أو إلى كارثة إنسانية تستوجب تضافر الجهود الدولية لحلها، لا سيما مع تفاقم قضايا اللاجئين في الخارج والداخل والمناطق المحاصرة والمعتقلين في سجون النظام؛ لا سيما بعد إخراج الشعب من المعادلة الصراعية.

وقد حدث ذلك -أي استبعاد الشعب- نتيجة اعتماد نظام الأسد أقصى الحلول الأمنية، ومحاولته قتل الثورة أو الانتفاضة أو الحراكات الشعبية بواسطة البراميل المتفجّرة والصواريخ الفراغيّة وقذائف المدفعيّة والدبابات، وتعمّده فرض الحصار المطبق على كثير من المناطق والمدن، وتقصّده تشريد ملايين من سكانها أو تحويلها إلى حقل رماية لقذائفه.

ناهيك عن فتحه البلد على مصراعيه للتدخّل العسكري الوحشي الإيراني ثم الروسي، كما حدث هذا الأمر بسبب ذهاب المعارضة نحو حصر الصراع مع النظام في الوسائل المسلحة، أو في الفصائل العسكرية، نتيجة التلاعبات والتوظيفات الخارجية.

وبناءً على ذلك، وبالنظر لاستنكاف ما يسمى مجموعة “أصدقاء الشعب السوري” -خصوصاً الولايات المتحدة- عن تقديم الدعم العملي للمعارضة السورية، إن بفرض مناطق حظر جوي أو مناطق آمنة أو بتقديم الدعم المناسب لجماعات “الجيش الحر“، أو حتى بمنع تدخلإيران وروسيا؛ فإن استمرار المعطيات الراهنة لا يعني إلا شيئاً واحداً، وهو استنزاف السوريين وتشريدهم، وقتل ثورتهم، وتالياً الإبقاء على النظام ولو من الناحية الشكلية، مع ملاحظتنا أفول كل مظاهر السيادة التي باتت تخضع للإرادتين الروسية والإيرانية.

عقبات التوافق
في ضوء هذه التطورات ومع الانعطافة السياسية التركية باتجاه تطبيع العلاقات مع روسيا (منذ آب/أغسطس الماضي)، وتزايد الافتراق بين الأجندتين الروسية والإيرانية، وتولي رئيس جديد إدارة البيت الأبيض (دونالد ترمب)، وحال الإرهاق التي تعيشها فصائل المعارضة العسكرية، لا سيما مع ارتهانها للدعم الخارجي، والتي تمخّضت عن خسارة مناطق سيطرتها بحلب؛ يبدو أن الوضع بات أكثر قابلية لتمرير نوع من التسوية للصراع السوري، الأمر الذي يجري الإعداد له أواخر هذا الشهر في العاصمة الكزاخية أستانة.

“نجح النظام وحلفاؤه في حرف المسألة السورية من كونها صراعا على السياسة والسلطة ونوعية الحكم، إلى صراع طائفي أو مذهبي، أو كحالة صراع ضد الإرهاب، أو إلى كارثة إنسانية تستوجب تضافر الجهود الدولية لحلها، لا سيما مع تفاقم قضايا اللاجئين في الخارج والداخل والمناطق المحاصرة والمعتقلين في سجون النظام”

بيد أن الإعداد لإخراج هذه الخطوة لا يشي باحتمال النجاح، لأسباب عديدة؛ أولها: مشكلة التمثيل، فمن الواضح أن جهود الطرفين المهيمنين على مسرح أستانة (روسيا وتركيا) تنصبّ على إيجاد أطراف مفاوضة من المعارضة تثور الشبهات حول صدقية تمثيلها، سواء كان الحديث عن الجهات التي ترشحها موسكو(منصات القاهرة وحميميم وأستانة وغيرها من الجهات المقربة للنظام)، أو الجهات التي ترشحها تركيا والتي تقتصر على ممثلي بعض الفصائل العسكرية.

إذ من الغريب -كما من غير اللائق- الذهاب نحو هذا الخيار في حين ثمة “الائتلاف الوطني”، وهو الكيان الرئيسي للمعارضة وموجود في إسطنبول، و”الهيئة العليا للمفاوضات برئاسة رياض حجاب، وهي قريبة من تركيا وتحظى بأوسع تمثيل لمكونات المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري، بما في ذلك “هيئة التنسيق” ومقرها دمشق؛ مما يعني أن الصفة التمثيلية للمجموعة المفاوضة عن المعارضة غير مكتملة أو غير متوافق عليها.

وثانيها: أن الطرف الروسي يدفع -من خلال مؤتمر أستانة- نحو التحرّر من بيان جنيف1 (2012) الذي ينصّ خصوصاً على إقامة “هيئة حكم انتقالية”، والبحث عن مرجعية جديدة للمفاوضات تتحرر من هذا النص، وتفتح المجال أمام تعويم مكانة الرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية.

وثالثها: أن أيا من الطرفين الضامنين (أي روسيا الضامنة للنظام، وتركيا الضامنة للمعارضة) لا يستطيع فرض اجندته تماما على الأطراف المعنية، فمن جهة روسيا ثمة عقدة تتمثل في واقع هيمنة إيران على النظام السوري، تعززها وجود ميلشيات عسكرية تتبع لها على الأرض السورية وفي جبهات القتال الساخنة، كما تنبع من مدى تقبل النظام للتسوية المقترحة أو اشتراطه لها.

ومن جهة تركيا، فرغم نفوذها الكبير على الفصائل التي تعمل في الشمال السوري، فإن هذا النفوذ لا يكفي لفرض التسوية التي تتفق عليها مع روسيا، إذ إن ثمة دولا إقليمية أخرى لها رأيها أيضا فيما يخص مستقبل سوريا، كما أن هناك موقف الولايات المتحدة الأميركية من التسوية المفترضة.

عوامل النجاح
هكذا إذن من المبكّر التقرير بشأن نجاح التوافق الذي تعدّ له روسيا وتركيا في أستانة، كما من التسّرع التكهّن بفشله، إذ يمكن أن ينجح هذا المسعى، وذلك لعدة اعتبارات:

أولاً: أن هاتين الدولتين المنخرطتين عسكرياً في الصراع السوري تملكان النسبة الأعظم من القرار الميداني على الأرض، على الطرفين المتصارعين، لا سيما في شأن فرض وقف القتال والقصف.

ثانياً: أن روسيا ربما باتت تشعر بضرورة وضع إستراتيجية خروج من هذا الصراع لتخفيف الضغط عليها، وخاصة في ضوء توفر قناعة لديها بأنها فرضت نفسها لاعبا دوليا وإقليميا، وممسكا بالورقة السورية لا سيما بعد النجاح الذي حقّقته في حلب ضد الفصائل المقاتلة.

ثالثاً: نزوع تركيا نحو الحفاظ على المكتسبات التي حققتها من عملية “درع الفرات“، إن في الإقرار بدورها كشريك في التسوية السورية، أو بخصوص الإقرار بحقها في منع قيام كردي على حدودها الجنوبية، مع علمنا بحساسية المسألة الكردية في تركيا.

رابعاً: تنامي الشعور لدى أوساط المعارضة السورية (السياسية والعسكرية والمدنية) بمحدودية القوة، وبعدم القدرة على تحقيق الغلبة على النظام عسكريا في هذه الظروف الإقليمية والدولية، وفي ظل معارضة في غاية التفكك والتخبط.

خامساً: محاولة تركيا والمعارضة السورية الاستثمار في التباين السياسي المرشح للتزايد بين روسيا وإيران، فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الصراع السوري، ورؤية كل منهما لمستقبل سوريا.

استثمار التوافق
يفيد ما تقدم بوجود عوامل ترجّح نجاح التوافق الروسي التركي ولو مرحلياً، لكن استمرارية هذا التوافق -إلى الحد الذي يجعله بمثابة ممهّد لتسوية تنهي الصراع السوري- تحتاج إلى مداخلات أخرى، يكمن أهمها في:

“إن تسوية محكومة بعدم قدرة أي من الطرفين المتصارعين على الحسم ضد الآخر، ومحددة بالمعطيات الدولية والإقليمية التي لا تسمح لأي منهما بإنهاء الآخر، هي الوحيدة التي يمكن لها أن تفتح نافذة في الاستعصاء الحاصل، بغض النظر عن تقييمها أو عدالتها أو شرعيتها”

أولاً: تبنيه من قبل الولايات المتحدة الأميركية التي تملك وحدها إمكانية الضغط على معظم الأطراف، والاستثمار السياسي في الاتفاق وتحويله إلى تسوية دائمة، بحكم نفوذها وإمكانياتها وقدراتها.

ومعنى ذلك أن تكون أميركا معنية بتغيير السياسة التي انتهجتها طوال السنوات الست الماضية، والتي قوامها الحفاظ على ديمومة الصراع السوري ضمن معادلة لا غالب ولا مغلوب، والاستثمار في هذا الصراع بوضع الأطراف المناكفة لها (روسيا وإيران وتركيا وبعض الدول العربية) في دائرة الاستنزاف بمواجهة بعضها، إضافة إلى ترك الأمور على حالها لتوفير بيئة آمنة لإسرائيل لعقود من الزمن.

ثانياً: لا يمكن لأي توافق أن يتحول إلى تسوية إلا إذا أخذ في اعتباره إحداث تغيير في بنية النظام السوري، أي أن الأمر يتعلق بمساومة متبادلة، تتأسس على مرحلة انتقالية تضع حداً لنظام الأسد من دون أن تؤثر على بنية الدولة، في مقابل إيجاد نظام حكم يقوم على دستور جديد ونظام حكم يضمن مشاركة أوسع تمثيلاً.

إن تسوية مثل هذه محكومة بعدم قدرة أي من الطرفين المتصارعين على الحسم ضد الآخر، والمحددة بالمعطيات الدولية والإقليمية التي لا تسمح لأي منهما بإنهاء الآخر، هي الوحيدة التي يمكن لها أن تفتح نافذة في الاستعصاء الحاصل، بغض النظر عن تقييمها أو عدالتها أو شرعيتها.

ثالثا: لا يمكن لأي اتفاق أن يحقق الاستقرار والرضا من جميع الأطراف دون إيجاد واقع دولي يسمح بإعادة المهجرين واللاجئين السوريين، ويوفر الموارد اللازمة لإعادة إعمار البلد، وهذا أمر ينبغي أن يأخذ في اعتباره رضا الدول الأوروبية الفاعلة، خاصة فرنسا وألمانيا وبريطانيا.

رابعاً: هذا التوافق يحتاج أيضا إلى كبح نفوذ إيران في سوريا، وإخراج الميلشيات التابعة لها من البلد، أي أن الأمر يحتاج إلى قوة ضغط مناسبة على إيران لإجبارها على القبول بالتوافق المفترض، مع التنويه بتصريحات لكبار المسؤولين في إيران تؤكد عدم استعدادها للتجاوب، من خلال إصرارها على بقاء ميلشياتها اللبنانية والعراقية في سوريا.

خامساً: هذا الأمر مرهون أيضا بمدى استعداد روسيا للمضي في هذه التسوية، وضمنه حسمها بخصوص إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا، واستعدادها للضغط على النظام لدفعه إلى القبول بالتوافقات التي يمكن أن تحصل.

استدراكات جوهرية
ثمة أربعة استدراكات؛ الأول: أن الطرفين المعنيين غائبان تماماً عن هذا الاتفاق، وأن مصير سوريا بات يتقرر في عواصم أخرى، وبحسب أجندات ومصالح الفاعلين الدوليين والإقليميين، وبغض النظر عما يريده الشعب السوري أو معظمه. والثاني: أن الدول العربية غائبة ومغيبة -إن بصورة جمعية أو فردية- بحكم ضعفها وتشتت مواقفها، وارتهان إراداتها.

“التركيز الدولي والإقليمي بات يتركز اليوم على التخلص من الفصائل المتطرفة (أي “داعش” و”النصرة” وأخواتهما)، باعتبار ذلك أساسا لأي توافق سوري، وهو ما أكدت جميع الأطراف الالتزام به، بما في ذلك تركيا التي تحاول جاهدة أن يشمل ذلك جماعات حزب الله والميلشيات العراقية والأفغانية”

الثالث: أن تطورات الأوضاع داخليا وخارجيا تفيد ربما بالإطاحة بالعملية التفاوضية المتأسسة على بيان جنيف1 (2012)، وهو ما تم التمهيد له في اجتماعات فيينا (أواخر 2015)، وفي قرار مجلس الأمن الدولي 2254 الذي تحدث عن قيام حكومة شراكة، وهو القرار الذي جرى النص عليه في البيان الثلاثي الروسي/الإيراني/التركي في موسكو (أواخر العام الماضي).

الرابع: أن التركيز الدولي والإقليمي بات يتركز اليوم على التخلص من الفصائل المتطرفة (أي “داعش” و”النصرة” وأخواتهما)، باعتبار ذلك أساسا لأي توافق سوري، وهو ما أكدت جميع الأطراف الالتزام به، بما في ذلك تركيا التي تحاول جاهدة أن يشمل ذلك جماعات حزب الله والميلشيات العراقية والأفغانية التي تشتغل كأذرع إقليمية لإيران في سوريا والعراق ولبنان.

وعلى أية حال؛ ما سيختبر قوة هذا الاتفاق -في الأيام القادمة- هو ربما الدعوة التي وجهها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا لاستئناف المفاوضات في جنيف (يوم 8 فبراير/شباط القادم). لكن الناحية الأهم هنا -والتي ينبغي للمعارضة إدراكها- هي أن أي حل انتقالي أو دائم في سوريا ينبغي أن يمهد لتسوية سياسية نهائية.

على أن ينطلق بداية من وقف كامل لكل أعمال القتل والتدمير والتشريد، والإفراج عن المعتقلين، ورفع الأطواق الأمنية عن المناطق المحاصرة، وإخراج الجماعات أو المليشيات المسلحة الأجنبية من البلد، بضمانة قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي ومع وجود قوات دولية.

وفي الواقع؛ كان يجب توقع محطة كهذه بغض النظر عن نجاح هذا الاتفاق أو إخفاقه، إذ لا تدوم ثورات ولا حروب ولا صراعات سياسية إلى الأبد، فكل الصراعات -مهما كانت ماهيتها أو شرعيتها أو ضرورتها- لا بد أن تصل إلى نقطة تتوقف عندها، سواء بانتصار طرف على آخر أو نتيجة قناعة أطرافها -أو أحدها- بالكلفة الباهظة لاستمرار الصراع.

أو بسبب التوصل بين الطرفين المعنيين إلى مساومة أو تسوية جزئية، يحقق فيها كل طرف من أطرافها بعض المكاسب، وطبعًا ثمة وضع آخر مختلف يتعلق بقيام أطراف خارجية بفرض تسوية على الأطراف المتصارعة؛ وربما هذا هو الأقرب إلى ما يجري في سوريا.

ماجد كيالي

الجزيرة