اللجوء إلى أوروبا والقوانين غير الإنسانية

اللجوء إلى أوروبا والقوانين غير الإنسانية

عرفت أوروبا، وألمانيا خصوصاً، في الآونة الأخيرة، تدفق لاجئين بأعداد كبيرة، من سورية والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو الوضع الذي خرج عن سيطرة دوائر الهجرة التي تنظم هذا الأمر. وفي ألمانيا، مثلاً، مع هذه الحركة الفجائية، تنامت من جهة الخدمة التطوعية من الهيئات غير الحكومية والمجتمع المدني الذي أعرب عن سعة صدره، للمساهمة في معالجة الأزمة وتسهيل عمليات اندماج اللاجئين. وفي الوقت نفسه، كان الوضع الجديد مناسبةً لبروز نوازع متمثلة في نشاط منظمات عنصرية معادية للأجانب، وكذلك فرصة لليمين (المتطرّف) المعادي لسياسة المستشارة أنجيلا ميركل الترحيبية، في كسب ناخبين جدد والظهور بمظهر (الراعي) لمصلحة ألمانيا. الأمر الذي جعل الحكومة الألمانية تتخذ قراراتٍ ارتجاليةً غير محسوبة، لحل الأزمة، وإرضاء اليمين (الغاضب) وتجديداً للثقة مع الناخبين. من بين تلك القرارات، أقدم وزير الداخلية الألماني، توماس دي ميزيير، على خطوةٍ سابقة، من خلال قيامه بزيارات رسمية لبلدان شمال أفريقيا (المغرب، الجزائر، تونس)، من أجل الاتفاق حول صيغة (ترقيعية) لكي يتم إرجاع كل المغاربيين إلى بلدانهم، باعتبارهم مهاجرين لا تنطبق عليهم صفة اللاجئين. وقد توجت زيارته في التاسع والعشرين من فبراير/ شباط 2016، باتفاق مشكوكٍ في مجرياته وكواليسه، قضى بإرجاع كل المغاربة إلى بلدهم، بعد أن تركوه طوعاً من خلال استغلالهم فرص التهريب من سواحل تركيا وليبيا، حسب ما صرح به الإعلام الرسمي في المغرب خصوصًا. ولا يزال لدي فضول في معرفة كم قدّم دي ميزيير من مبالغ في مقابل كل (رأس) مغربي يتم إرجاعه. وعندما أقول رأس، لا أجد أي مبالغة في ذلك. لم يقف الوزير عند هذا الحد، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، من خلال إعلانه قراراً تاريخياً، مع أنه اعتباطي، ينص على تصنيف البلدان المغاربية (تونس، الجزائر، المغرب) بلداناً آمنة. الشيء الذي أحدث جدلاً واسعًا داخل البرلمان الألماني، ولولا معارضة أحزاب يسارية، لتمّ إقراره رسمياً.
ما لا يعرفه الوزير، أو بالأحرى يحاول التغاضي عنه، هو أن قرارًا متهورًا مثل ذلك لا يرتبط فقط ببضعة لاجئين، بالكاد يمثلون حتى 2% من إجمالي عدد اللاجئين الذين دخلوا ألمانيا سنة

2015، بل يرتبط أيضا بخمسة وثلاثين مليون مغربي يعيشون في شروط (غير آمنة)، ثلثهم تقريبا يعيش تحت عتبة الفقر. ما لا يعرفه الوزير الألماني، دي ميزيير، أنّ الذين باع واشترى معهم يمثلون أنفسهم، لأنهم السبب وراء لجوء الشباب المغربي إلى الهجرة السرية التي حصدت أرواح كثيرين منهم في الماضي والحاضر، فقط من أجل أحلامٍ غاية في البساطة، أو لنسمّها حقوقًا أساسية انتزعت منهم، بعد أن يئسوا من سياسات التفقير والتعطيل والقهر والاستبداد وانعدام الأمن التي تمارسها عصاباتٌ سياسية. وكان على الوزير إعادة النظر في مفهوم الأمن، باعتبار أن له أبعادا اقتصادية وسياسية واجتماعية قبل أي تهديد مباشر، وليس بالضرورة أن يكون نقيضًا لحالة الحرب. فهناك الأمن الغذائي والصحي والاقتصادي، شروطاً أساسية لتحقيق الأمن والسلم الاجتماعيين. ولو عاد الوزير إلى تقارير منظمة الغذاء التابعة للأمم المتحدة (الفاو) ومنظمة الصحة العالمية، ومؤشرات التنمية، وتقارير حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية، عن المغرب، لما نطق بذلك المفهوم الفضفاض. لكن، على ما يبدو أنه ليس لدى الوزير الوقت لقراءتها وتمحيصها.

تساؤلات
ما مشكلة وزير الداخلية الألماني مع المغاربة؟ أو للدقة أكثر في طرح السؤال، ما مشكلة الحكومة الألمانية والمكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين مع اللاجئين المغاربة والمغاربيين؟
إذا كانت كلّ هذه الضجة ردّة فعل على أحداث التحرش الجنسي التي توّرط فيها مراهقون من شمال أفريقيا، في مدينة كولونيا خلال احتفالات رأس السنة، فهذا لا يتناسب مع التعقّل والرؤية المعقولة والحكمة السياسية الرشيدة التي تقتضي عدم تعميم أي حكمٍ، لأن أي سلوكٍ يمثل فاعله. كما أن هناك قوانين جنائية يمكن بموجبها محاكمة كل الجناة.
إذا كانت كلّ تلك القرارات، بمبرّر رعاية مصلحة ألمانيا وشعبها، فإنّ هناك قرارات أهم من ذلك كان يجب اتخاذها في حق من يشكلون الخطر الأكبر على ألمانيا، والمتمثلة في مراجعة كلّ الإقامات التي قدمتها ألمانيا ولا تزال، للإرهابيين القادمين من مناطق الصراع الطائفي في سورية والعراق تحديداً، والجنود الذين قاموا بجرائم ضد الإنسانية وانتحلوا صفة لاجئ، فتقديم الحماية لهؤلاء يتعارض مع وصايا مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التي تنص على أنّ اللجوء لا يشمل الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم ضد السلام، أو جريمة حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، أو جرائم جسيمة غير سياسية خارج بلد اللجوء.
يمكن أن نجمل سياسة اللجوء التي اتبعتها ألمانيا في الآونة الأخيرة في أنّها غلب عليها أولا

طابع العشوائية، في ما يخص التدقيق في هوية اللاجئين، ما جعل إرهابيين ومرتكبي جرائم حرب عديدين يستفيدون من الحماية والإقامة. وهذا ما يتنافى، كما أشرنا، مع بنود اتفاقيات جنيف منذ 1951 التي سطرتها المفوضية الأممية.
من جهة أخرى، اتسمت سياسة اللجوء في ألمانيا بقراراتٍ يطبعها الجانب السياسي أكثر منه الإنساني، قرارات يمكن اعتبارها مجحفةً في حق اللاجئين من بلدان شمال أفريقيا تحديداً، بحكم أنّها صيغت بناء على منحى حركة الهجرة التي عرفت تدفقًا كبيرًا جدًا في الآونة الأخيرة، وتغليب مصالح الصراع السياسي الذي يعرف شرخًا كبيرًا بين معارضٍ ومؤيد، حول قضية اللجوء. كانت معظم تلك القرارات متعارضة مع مبادئ حقوق الإنسان، وحتى مع اتفاقيات اللجوء نفسها. فقرار ترحيل المغاربة يتنافى مع بنود اتفاقية جنيف التي تنص على عدم إرجاع أي لاجئ رفض طلبه، وكان متمسكاً بعدم رجوعه، فإما تتم إعادة توطينه في بلدان أخرى مضيفة أو بلدان “ثالثة”.
يمكن القول إن الحكومة الألمانية مصرّة على تقديم كبش فداء ممثل في اللاجئين من شمال أفريقيا، لأجل إرضاء اليمينيين، وسد ثغرة الانفلات الذي حصل العام الماضي، وكذلك طمأنة الرأي العام الألماني القلق على “أنّ بإمكانهم فعل ذلك”، ولو على حساب التعارض مع قيم الإنسانية والمواثيق الدولية. لكن، ما لم ينتبه إليه وزير الداخلية، وكل من يؤيده، أن سياسته هذه قد تنجم عنها عواقب اجتماعية على المجتمع الألماني والأوروبي، فلاجئون عديدون سيفرّون إلى مدن مجاورة، أو بلدان أوروبية أقل رقابةً في حالة صدور قرار الترحيل. وبالتالي، سوف يكون بعضهم عرضةً للتطرف بكل أشكاله، كامتهان السرقة، أو الجريمة المنظمة. وقد يؤدي هذا الرفض والنبذ الاجتماعي الذي تكرّسه السياسات الحكومية في أوروبا إلى تنامي الحقد والسخط على كل القيم الإنسانية المنشودة. وبالتالي، قد تكون نسبة من اللاجئين عرضةً لغسيل الدماغ والاستغلال من الخلايا الإرهابية التي تنشط في بعض الدول الأوروبية، بفعل الثغرات الاستخباراتية وجو الحرية، فعملية الترحيل التي يعمل مكتب الهجرة على تنفيذها، يمكن الجزم بأنها لن تنجح مطلقاً، وليست هي الخيار الأمثل، ذلك لأنّ غالبية المغاربة، من المستحيل أن يعودوا إلى بلدهم “بخفي حنين”، لأن عودةً من هذا القبيل مرتبطةٌ في مخيلة المغربي بالعار والدونية والاحتقار من مجتمعه، فأوروبا هي ذلك الخيار الوحيد الذي كان متاحًا، ولا يزال، أمام المغاربة منذ عقود، لإيجاد فرص عيش كريم، بدليل أني في عملي على إخراج فيلمي الوثائقي عن اللاجئين المغاربة صادفت منهم من يعيش في أوروبا، متنقلا في دول الاتحاد ما يزيد عن 15 عاماً بدون أدنى ورقة إقامة. ولا يزال متمسكًا ومتشبثًا بعدم الرجوع، وبتسوية وضعه القانوني.
على مفوضيات اللاجئين في أوروبا أن تعيد النظر في فلسفة القانون التي من المفروض أن

تخدم الإنسانية، بحيث إنه لا يوجد إنسان غير قانوني، بل توجد قوانين لا إنسانية، فمن حق أيّ إنسان أن يعيش وينتمي في أي بلد يريد، أو أن يترك أي بلد يشاء، في إطار احترام قانون البلد المضيف وخصوصياته الثقافية. إذا كنا نريد فعلاً قطع شوط تاريخي في الإنسانية، حان الوقت لنضع حدًا لهذا التصنيف العنصري، بين إنسان بوثائق وآخر من دونها، لأن هذا لا يغذي إلا نوازع الكراهية والتطرف. كما أنه على مفوضيات اللاجئين أن تعدّل من بنود الاتفاقيات، لكي تكون أكثر مرونةً مع إفرازات الهجرة في الوقت الراهن، وشروطها الاقتصادية. وكذلك إعادة صياغة مفهومي اللاجئ والبلدان الآمنة، فاللاجئ اليوم ليس هو لاجئ الأمس، كما أنه لا توجد بلدان آمنة في العالم الثالث، في ظل التبعية الاقتصادية والسياسية التي ترسّخها دول الشمال. ليس مفهوم الأمن الآن هو تلك الحالة التي يغيب فيها قصفٌ جوي بصواريخ أميركية أو ألمانية الصنع. وليس أيضاً غياب حالة التهديد بالقتل أو الاضطهاد فقط، لأنه لو كان بتلك البساطة لتوقف كلّ اللاجئين السوريين في تركيا أو اليونان أو في أي بلد في أوروبا الشرقية وطأته أرجلهم أول مرة، باعتباره بلداً خالياً من الحرب. لكن، بما أنّ التهديد الحقيقي يعني: غياب العيش الكريم وضماناً صحياً وفرصة عمل وفرصة تعليم، فإنّ كل اللاجئين السوريين انكبّوا على ألمانيا ودول متطورة صناعياً وخدماتياً بإمكانها تحقيق حقوقهم التي لم ينالوها في بلدهم. لهذا، يجب الأخذ بالاعتبار أنّ الشباب المغاربة ليست المرة الأولى التي يتجهون فيها إلى أوروبا طلبا للنجدة، ولم يستغلوا وضعاً إنسانياً ما، بل هم أول من قطعوا البحر الأبيض المتوسط ومُلئ عرضه بجثثهم منذ عقود، من أجل دافعٍ واحد، وهو الخوف من الموت فقراً وقهراً، في واقع قاسٍ وخطير على العيش بكل المقاييس والمعايير الإنسانية. فالقهر الاجتماعي لا يترك للإنسان خياراتٍ، بل يدفعه إلى فعل أي شيء مقابل العيش بطمأنينة وسلم.
كتب وزير الدفاع الأميركي الأسبق، روبرت مكنمارا، في كتابه “جوهر الأمن”، والذي أسس لمفهوم جديد للأمن، يقول: “ليس الأمن هو المعدات العسكرية، وإن كان يتضمنها، وليس الأمن القوة العسكرية وإن كان يشملها، وليس الأمن النشاط العسكري التقليدي، وإن كان ينطوي عليه. الأمن هو التنمية، ومن دون تنمية لا يمكن أن يوجد أمن. والدول النامية التي لا تنمو في الواقع، لا يمكن ببساطة أن تكون آمنة”.

رشيد الصافي

صحسفة العربي الجديد