ما أسباب ظهور اليمين المتطرف بالغرب.. وهل القادم أخطر؟

ما أسباب ظهور اليمين المتطرف بالغرب.. وهل القادم أخطر؟

الإجابة على هذا التساؤل بسيطة بالنسبة لمنظر مثل صموئيل هنتنغتون الذي يؤمن بضرورة صدام الحضارات -وتحديداً الحضارتين الغربية والإسلامية- بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فلا غرابة إذن أن نرى صعود اليمين واستهدافه للجالية الإسلامية في الغرب، مع ما يرافق ذلك من تفشي ظاهرة “الإسلاموفوبيا“.

البعض الآخر يلقي باللوم على العوامل الاقتصادية ودورها الرئيسي في تشكل ظاهرة العداء للمهاجرين الجدد المتهمين بمنافسة السكان المحليين على وظائفهم. ولكن رغم أهمية العامل الاقتصادي وربما صراع الحضارات؛ فإن الأسباب التي تفسر انتشار ظاهرة اليمين المتطرف في الغرب مؤخرا تكمن في عوامل أخرى أكثر أهمية، وتتمثل في:

أولا: حالة المخاض التي يعيشها النظام السياسي الدولي. وثانيا: الفشل الأمني للنخب السياسية الليبرالية في أوروبا. وثالثاً: استفحال ظاهرة العولمة التي أدت إلى تفجر صراع الهويات الذي تم التعبير عنه بانتشار ظاهرة اليمين المتطرف.

العامل الاقتصادي
لنبدأ أولاً بتبرئة العامل الاقتصادي المتهم التقليدي بالمسؤولية عن معظم الأمراض الاجتماعية والسياسية، فهو رغم أهميته -وربما مساهمته في انتشار ظاهرة التطرف- فإنه يعجز عن إعطاء تفسير متكامل لانتشار التطرف اليميني في الغرب، وذلك لسببين رئيسيين:

– أن قمة الأزمة المالية التي عاشتها أميركا مثلاً كانت خلال أعوام 2005-2010، وهي الأعوام التي انتخب الأميركيون فيها الاتجاه الليبرالي الديمقراطي المتمثل في رئاسة باراك أوباما، وأسقطوا الحزب الجمهوري وغيره من تنظيمات اليمين الأميركي.

“يلقي البعض اللومَ على العوامل الاقتصادية ودورها الرئيسي في تشكل ظاهرة العداء للمهاجرين الجدد. ولكن رغم أهمية العامل الاقتصادي وربما صراع الحضارات؛ فإن الأسباب التي تفسر انتشار ظاهرة اليمين المتطرف في الغرب مؤخرا تكمن في عوامل أخرى أكثر أهمية”

– أن أوروبا وأميركا -وهذا هو الأهم- ما زالتا بعيدتين كل البعد عما يمكن تسميته “ثورة الجياع” في الغرب، وذلك بسبب ارتفاع نسبة المداخيل في هذه الدول التي هي بحاجة ربما إلى عقود متواصلة من الأزمات الاقتصادية حتى نبدأ بالتحدث جدياً عن “ثورة جياع” فيها، على عكس أصوات الشباب العربي التي نطقت بالكلمة الأولى لهم في الربيع العربي، وهي: “عيش” (خبز) ثم بـ”حرية، عدالة اجتماعية”.

بانهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة عام 1991 تحول النظام الدولي من ثنائية القطبية إلى أحادية القطبية، حيث تربعت الولايات المتحدة على عرش النظام السياسي الدولي، وأصبحت صاحبة الحل في الأزمات المستعصية.

فأجبرت قوى البلقان المتصارعة على توقيع “اتفاق دايتون” لإنهاء الحرب في البوسنة والهرسك، وتدخلت عسكريا في كوسوفو ضد صربياوخارج تفويض مجلس الأمن، بينما كانت روسيا تلعق جراحها وتشاهد حليفها الإستراتيجي بلغراد تقصف بطيران حلف الناتو دون أن تحرك ساكناً.

ولكن وبهزيمة المشروع الأميركي في كل من العراق وأفغانستان، وما رافقه من انسحابات عسكرية متوالية تركت فراغا كبيرا في النظام الدولي؛ بدأ الحديث يدور -وبشكل جدي أكثر من أي وقت مضى- عن تحولات في بنية النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب. وحاولت جهات عديدة ملء الفراغ الذي تركه الانسحاب العسكري الأميركي من المنطقة.

لا توجد إجابة قاطعة حتى الآن عما إن كان النظام الدولي قد دخل مرحلة التعددية القطبية أم أننا ما زلنا في الأحادية القطبية، وذلك لعدم وضوح ما إن كان الانسحاب العسكري الأميركي ناتجا عن عقيدة باراك حسين أوباما التي لا تؤمن بالتدخل العسكري، أم عن انحسار فعلي للدور الأميركي نفسه في النظام الدولي، مما ترك فراغا في بنية النظام السياسي الدولي ولا سيما ما يخص المنطقة العربية.

الهجرة واللجوء
آمنتْ دول مثل روسيا وإيران بأن الانسحاب الأميركي إستراتيجي، فهرعت لملء الفراغ وتأمين موقع لها في النظام الدولي الجديد “المتعدد الأقطاب”، وبالقوة العسكرية التي تم التعبير عنها بالقصف الجوي الروسي المكثف في سوريا، وانتشار ظاهرة المليشيات الإيرانية المسلحة في سوريا ولبنان والعراق واليمن.

فالتمدد الروسي والإيراني الباحث عن مكان في “النظام التعددي الجديد” ولّد صراعات جديدة وزاد حدة صراعات قائمة، الأمر الذي تسبب في موجات هجرة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث تجاه أوروبا الغربية تحديداً.

ولكون معظم المهاجرين هم عربا ومسلمين؛ فقد فجّر وصولُ اللاجئين صراعَ هويات في أوروبا الغربية حيث رأى المجتمع الأوروبي أن هويته الثقافية مهددة، ومارست قيادة اليمين المتطرف دوراً مهماً في المبالغة في “الخطر الثقافي” وما يمثله من تأثير على نمط حياة الأوروبيين، فليس صدفة أن يطفو على السطح بأوروبا -وفي هذا الوقت- جدلُ البوركيني والمنديل والمدارس الدينية وحرية رسم الرموز الدينية.

“فجّر وصولُ اللاجئين صراعَ هويات في أوروبا الغربية حيث رأى المجتمع الأوروبي أن هويته الثقافية مهددة، ومارست قيادة اليمين المتطرف دوراً مهماً في المبالغة في “الخطر الثقافي” وما يمثله من تأثير على نمط حياة الأوروبيين”

والمسألة ليست مقتصرة على الجانب الثقافي، بل إن التفجيرات التي تبنتها تنظيمات إسلامية متشددة في بروكسل وباريس وفلوريداوكاليفورنيا وغيرها، قد فاقمت صراع الهويات وزادت المادة الإعلامية لتنظيمات اليمين من أجل كسب تأييد شعبي إضافي، وقد نجحت بذلك.

وهذا يقودنا إلى العامل الثاني المهم في انتشار ظاهرة اليمين المتطرف، والمتمثل في فشل النخب السياسية الغربية الليبرالية في التعامل مع صراع الهويات الذي أخذ في الاستفحال.

فهذا الفشل تمكن رؤيته من جانبين: الأول، فشل السياسات الخارجية الغربية التي دعمت لأكثر من نصف قرن الدكتاتوريات العربية، ظنا منها أنها ستوفر لها الأمن والاستقرار في المنطقة، وذلك على حساب التحول الديمقراطي الذي يمكنه أن يوفر الاستقرار المستدام، مما أدى في النهاية إلى تفجر الصراع وتزايد الهجرات وتفاقم صراع الهويات.

والجانب الثاني لفشل النخب السياسية الغربية هو عجزها عن التعامل مع المهاجرين بطريقة مناسبة، وذلك بعد أن ساهمت سياساتهم الخارجية في تفجر العنف ببلاد المهاجرين الأصلية، ودفعتهم للوصول إلى المجتمعات الغربية.

فلم توفر النخب السياسية الحاكمة البرامج الملائمة لدمجهم في مجتمعات الهجرة، ولم يكن باستطاعتها إيقافهم عن الوصول إلى قلب أوروبا الغربية، فكانت النتيجة تزايد حدة صراع الهويات وتفاقم ظاهرة العداء للمسلمين واستفحال ظاهرة الإسلاموفوبيا، وفي النهاية تحقيق اليمين المتطرف لمكاسب انتخابية متعددة.

تغلغل العولمة
العامل الثالث المسبب لتفجر صراع الهويات واكتساح ظاهرة اليمين المتطرف يتمثل في العولمة وتغلغلها في مفاصل النظام الدولي. وكما هو معلوم فإن المستفيد الأكبر من العولمة هو الطرف الأقوى الذي بإمكانه دعم الانتشار الثقافي وإغراق الأسواق باقتصاده.

فقد دعم انتشار سلسلة مطاعم ماكدونالدز وKFC ومقاهي ستار بكس الاقتصاد الأميركي أكثر مما دعمته القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في العالم من اليابان وحتى أميركا اللاتينية.

أما الهجوم على الثقافات المحلية في العالم فقد تمثل في انتشار الموسيقى والأفلام والأدوات الثقافية الأميركية والغربية الأخرى، التي بدأت تحل محل الموسيقى والأفلام المحلية، مما أوقد صراع هويات داخلي في مجتمعات مختلفة.

وما يهمنا هنا هو المجتمعات العربية والإسلامية التي أخذت جماعاتٌ فيها ردَّ فعلٍ عكسياً ومتطرفاً، فبدل أن تلحق بثقافة العولمة الغربية ارتدّ قسم ليس باليسير منها نحو العودة إلى الأصول، في محاولة لإحياء الثقافة الإسلامية كما كان عليه الحال قبل 1400 عام.

“بدأنا نرى انتشار ظاهرة التطرف التي جاءت ليس بسبب السياسات الغربية والدكتاتوريات العربية فقط، ولكن كرد فعل على الهجوم المتواصل لقوى وأدوات العولمة الثقافية والاقتصادية على الثقافات المحلية ومنها الثقافة العربية الإسلامية”

ومن هنا بدأنا نرى انتشار ظاهرة التطرف التي جاءت ليس بسبب السياسات الغربية والدكتاتوريات العربية فقط، ولكن كرد فعل على الهجوم المتواصل لقوى وأدوات العولمة الثقافية والاقتصادية على الثقافات المحلية ومنها الثقافة العربية الإسلامية.

هذا التطرف تمت ترجمته بطريقتين: الأولى، تعقيد مسألة الاندماج في المجتمعات الغربية، والأخرى أمنية كالتفجيرات في المدن الأوروبية والأميركية، ومهاجمة مقرات صحف أوروبية تعرضت لرموز إسلامية مختلفة. وكلا الأمرين (الأمن ومنع الاندماج) زادا حدة صراع الهويات الذي تم استغلاله بشكل محكم من اليمين المتطرف في الغرب.

وبالنظر إلى مسببات صعود اليمين المتطرف في الغرب؛ يمكن القول إن من المرجح لهذا المد المتطرف أن يزداد، فالقادم قد يكون أسوأ. فاستفحال العولمة يتصاعد مما يعني زيادة الضغط على الثقافات المحلية، التي ستفاقم صراع الهويات ومنه يتغذى التطرف اليميني.

كذلك فإنه لا يظهر أن السياسات الغربية تجاه المنطقة قد تتغير، بل على العكس قد تزداد سوءاً بعد وصول اليمين إلى الحكم الذي بدوره سيسبب تطرفا من أنواع جديدة.

وأخيراً، فإن انتكاسة الربيع العربي وانتصار الثورات المضادة في العديد من البلدان سيزيد هو الآخر حركة الهجرة التي ستضغط بدورها على صراع الهويات بأوروبا، ومن ثم يحصل انتصار جديد لليمين المتطرف، وهكذا تصبح الدائرة مكتملة بسياسات تنتج صراع الهويات الذي هو بدوره يُنتج سياسات تساهم في تقدم اليمين المتطرف.

إبراهيم فريحات

الجزيرة