تحويل الدعم الدولي لـ “حكومة الوفاق الوطني” في ليبيا

تحويل الدعم الدولي لـ “حكومة الوفاق الوطني” في ليبيا

مع تولّي الإدارة الأمريكية الجديدة مهام منصبها ووسط تجديد القصف الأمريكي على أهداف تابعة لتنظيم «الدولة الإسلامية»  بالقرب من سرت في 18 كانون الثاني/يناير، يتزايد انقسام الدعم الدولي لـ”حكومة الوفاق الوطني” الليبية الضعيفة أكثر فأكثر والتي تدعمها الأمم المتحدة. وحدث المثال الأخير عندما زار اللواء خليفة حفتر، القائد المثير للاستقطاب لـ “الجيش الوطني الليبي” المتمركز في شرق البلاد، حاملة طائرات روسية تبحر قبالة ساحل ليبيا في 11 كانون الثاني/يناير. وقد قاد حفتر جانب واحد من الحرب الأهلية بين عاميْ 2014-2015، التي توقفت مع التوصل إلى الاتفاق الذي شكل “حكومة الوفاق الوطني”، ولا يزال يشكل حالياً عقبة رئيسية أمام الوحدة الليبية. وستتوافر فرصة أمام إدارة ترامب لبث روح جديدة لحكومة الوحدة الضعيفة. لكنها إذا تجنبت تلك الفرصة، ورضخت عوضاً عن ذلك لما تفضّله روسيا ومصر، أي مباركة حفتر كقذافي جديد، فستعمل ذلك على حساب “حكومة الوفاق الوطني”، متسببةً على الأرجح باستئناف حرب أهلية شاملة.

وحدة منهكة بالية، مجدداً

تم توقيع “الاتفاق السياسي الليبي” الذي أنشأ “حكومة الوفاق الوطني” في المغرب، في 17 كانون الأول/ديسمبر 2015. ووفقاً لشروط “الاتفاق”، سيحكم “مجلس رئاسي” لمدة عام مع “مجلس النواب”، وسيكون بمثابة الهيئة التشريعية لـ”حكومة الوفاق الوطني”. وقد اعترف مجلس الأمن الدولي رسمياً بهذه الحكومة، كما تتعامل القوى الغربية حصرياً مع رئيس وزرائها فايز السراج. وحتى مع ذلك، كانت “حكومة الوفاق الوطني” تصل على الدوام إلى طريق مسدود، وخاصةً بسبب الخلافات بين السراج ورئيس “مجلس النواب” عقيلة صالح حول تشكيلة مجلس الوزراء ودور حفتر، الذي زاد نفوذه في الآونة الأخيرة من خلال سيطرته على منطقة نفطية رئيسية بينما كانت القوات الموالية لـ “حكومة الوفاق الوطني” تحارب تنظيم «الدولة الإسلامية» وتعاني خسائر فادحة في سرت. ونتيجة لذلك، بقي السراج عالقاً في طرابلس مع سلطة حكم صغيرة جداً.

والآن، بعد انقضاء المهلة المحددة لـ”حكومة الوفاق الوطني” التي أمدها عام واحد لكي تنقل سلطتها إلى حكومة منتَخبة دستورياً، أصبحت شرعيتها المستمرة هشة. وكانت بعض العناصر من “المؤتمر الوطني العام”، وهو الهيئة التشريعية الموقتة التي انتهت ولايتها عند انتخاب “مجلس النواب” في عام 2014، قد أعلنت بالفعل عن تشكيل “حكومة إنقاذ وطني” منفصلة في الخريف الماضي. وفي 11 كانون الثاني/يناير، أعلن خليفة الغويل، الذي نصّب نفسه كرئيس وزراء تلك العناصر، أن الميليشيات المتحالفة معه قد سيطرت على عدة مبان وزارية في طرابلس، الأمر الذي سبب كارثة أخرى لـ “المجلس الرئاسي”. وفي غضون ذلك، تستمر الأحوال المعيشية السيئة في جميع أنحاء البلاد بإضعاف “حكومة الوفاق الوطني”، من بينها الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي، ونقص الوقود والعملة، والمشاكل الأمنية.

انتشار الجهود الإقليمية

لكل جهة من الجهات الفاعلة المعنية بالشؤون الداخلية في ليبيا جداول أعمال مختلفة، وكثيراً ما تتعارض مع بعضها البعض. وكانت الأمم المتحدة المصمم الأساسي لـ “الاتفاق السياسي الليبي”، وتبقى المدافع الرئيسي عن “حكومة الوفاق الوطني” عبر “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” والممثل الخاص مارتن كوبلر. إلا أن كوبلر استنزف جهود الوساطة المتواصلة التي قام بها لتوسيع الدعم الداخلي لـ “حكومة الوفاق الوطني”، وأن حفتر يرفض مقابلته. كما أجرت قيادة “مجلس النواب” محادثات عرضية مع كوبلر ومبعوثين غربيين اخرين، ولكن دون نتيجة ملحوظة.

وقد أيّدت الجهات الفاعلة الغربية الرئيسية في ليبيا (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، وإيطاليا) أيضاً “حكومة الوفاق الوطني”، إذ أصدرت بيانات دعم متكررة وفرضت تجميد الأصول وحظر السفر على “المفسدين” الذين يعيقون عملية تطبيق “الاتفاق السياسي الليبي”. غير أن هذه الجهات تختلف نوعاً ما بشأن حفتر: فإيطاليا وفرنسا تقترحان بأنه يجب أن يكون جزءاً من الحل السياسي، بينما تصر واشنطن ولندن على أن يخضع للإشراف المدني، الذي يرفضه.

كما كانت القوى الغربية ناشطة أيضاً على الجبهة العسكرية من خلال محاربتها تنظيم «الدولة الإسلامية» ومساعدة القوات الليبية الداعمة لـ”حكومة الوفاق الوطني”. فبين آب/أغسطس ونهاية كانون الأول/ديسمبر، شنت الولايات المتحدة ما يقرب من 500 غارة جوية في سرت كجزء من عملية “برق الأوديسا”، داعمةً الميليشيات المتحالفة مع “حكومة الوفاق الوطني” من مصراتة، من بين قوات أخرى.

أما إيطاليا فهي الجهة الفاعلة الغربية الأكثر نشاطاًعلى الأرض نظراً لمركزها في الخطوط الأمامية. فقد أقامت مستشفى ميداني خلال حملة سرت ونشرت أيضاً قوات لحماية العاملين في المجال الطبي. وتشير التقارير الصحفية الإيطالية أن روما نشرت “قوات خاصة” لحماية السراج وحكومته. بالإضافة إلى ذلك، يشغل جنرال إيطالي منصب كبير المساعدين للشؤون الأمنية لـ “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” ويعمل على تنسيق برامج لبناء قوات الأمن الليبية، على الرغم من أنه لم يتم البدء في الواقع سوى بعدد قليل جداً من جهود التدريب. وفي وقت سابق من هذا الشهر أعادت إيطاليا أيضاً فتح سفارتها في طرابلس، وهي أول دولة تفعل ذلك منذ أن أَجبرت أعمال العنف إجلاء الممثلين الدوليين في عام 2014. وأخيراً، إن إيطاليا هي الدولة الأوروبية الأكثر نشاطاً التي تعمل لاحتواء أزمة الهجرة في جنوب البحر الأبيض المتوسط.

ومن جانبها، نشرت بريطانيا “قوات خاصة” لدعم عمليات سرت. وفي تموز/ يوليو لقت عناصر من المخابرات الفرنسية حتفها في حادث تحطم مروحية في بنغازي، الأمر الذي ولّد شكوك بأن باريس تدعم حفتر. وينشط الفرنسيون أيضاً في جنوب ليبيا، بما يتفق مع مصالحهم في منطقة الساحل.

وبالنسبة للدول المجاورة، فإن مصر هي الجهة الفاعلة الإقليمية الأكثر أهمية في ليبيا وقد أوضحت دعمها لحفتر وأجندته المعادية للإسلاميين. وعلى الرغم من أن الحظر المفروض من قبل الأمم المتحدة على توريد الأسلحة أصبح نافذ المفعول منذ عام 2011، يُشتبه على نطاق واسع بأن القاهرة تزوّد قوات حفتر بالدعم المادي. وفي عام 2014، انضمت الإمارات العربية المتحدة إلى العمليات التي تقوم بها مصر الموالية لحفتر، على الرغم من أن الإماراتيين خففوا تدخلهم منذ ذلك الحين، استجابةً للضغوط الأمريكية وبسبب الأولويات الأقرب إلى بلادهم. أما على الصعيد الإيديولوجي، فيرى كلا البلدين أن حفتر هو البديل الأفضل لما يعتبرانه الاعتماد المفرط  لـ “حكومة الوفاق الوطني” على الجهات الفاعلة الإسلامية. ولن يؤدي التقدم الأخير الذي أحرزته “القوات المسلحة الليبية” ضد الميليشيات الإسلامية في بنغازي إلا إلى تشجيع مؤيدي حفتر على منحه المزيد من المساندة السياسية والدعم المادي بالعتاد.

ولا تتمتع تونس بنفوذٍ كافٍ لتأدية دور ملحوظ كمحكّم بشأن المسائل الليبية على الرغم من المخاوف التي تساورها حول الإرهاب الذي يستمد جذوره من البلد المجاور. ومع ذلك، تستضيف تونس الممثلين الدوليين بينما يتعذر الدخول إلى طرابلس، كما كثيراً ما تجتمع الجهات الفاعلة الليبية هناك، معتبرة إياها مكاناً محايداً.

وقد انضمت الجزائر أيضاً على نحو غير معهود إلى دائرة الوساطة، فاستضافت السراج وحفتر وصالح ورئيس “المجلس الأعلى للدولة” عبد الرحمن السويحلي، وهو سياسي بارز من مصراتة. (ويتألف هذا “المجلس” من أعضاء سابقين في “المؤتمر الوطني العام”، وكُلِّف بدور استشاري وفقاً لـ “الاتفاق السياسي الليبي”، إلا أن سلطاته تفتقر إلى تعريف جيد). وتتفق وجهات نظر الجزائر المناهضة للاسلاميين مع رؤية حفتر ومصر، لكن الجزائر تحاول أن تلعب دوراً أكثر توازناً بسبب مخاوفها من استمرار حالة عدم الاستقرار على حدودها والتنازل إلى القاهرة عن كل تأثير على ليبيا.

هل روسيا مستعدة لملء الفراغ؟

استقبلت موسكو اللواء حفتر عدة مرات لاجتماعات رفيعة المستوى، كانت آخرها في تشرين الثاني/نوفمبر، ولا شك أن اللواء (الذي تمت ترقيته مؤخراً من قبل “مجلس النواب” إلى رتبة مشير) يأمل في أن تقوم روسيا بتسليح قواته وتدريبها وتساعد على إلغاء الحظر. كما أن الكرملين أوضح بشدة تفضيله لحفتر، الذي هو خريج الأكاديميات العسكرية الروسية – ولم تكن جولة الأسبوع الماضي على حاملة الطائرات إلا الدليل الأخير على ذلك. لكن إذا كانت موسكو تأمل بقيادة الدعم الدولي بعيداً عن “حكومة الوفاق الوطني” وتوجيهه نحو حفتر، فسوف تواجه العديد من التحديات.

أولاً، على الرغم من أن حفتر قد كسب شعبيةً سياسيةً في النصف الشرقي من البلاد وأجزاء من غربها، إلا أنه يواجه معارضةً شديدة من قبل فصيل مصراتة، الذي من المرجح أن يخوض الحرب مجدداً لمنعه من السيطرة [على البلاد]، كما فعل هذا الفصيل في الفترة 2014-2015. ومن خلال إلقاء موسكو بثقلها الكامل وراء حفتر، تخاطر بإنهاء الاتفاق الذي وضع حداً لذلك القتال.

ثانياً، من أجل تقديم الدعم العسكري العلني إلى “القوات المسلحة اللليبية”، سيتعيّن على روسيا إحباط توافق الآراء الدولي، ويشمل ذلك الحظر المفروض من قبل مجلس الأمن والقرارات السابقة الداعمة لـ”حكومة الوفاق الوطني”. ورغم أن موسكو قد أثبتت بأنها على استعداد لسلوك هذا الاتجاه في سوريا، فقد لا ترغب في القيام بالمجازفة نفسها في ليبيا، التي هي أقل أهمية لمصالحها الجيوسياسية. وقد تمنع الجهات الفاعلة الأوروبية أي إلغاء رسمي للحظر المفروض على توريد الأسلحة، لكن من الصعب تصوّر كيف ستواجه هذه الجهات الانتهاكات المحتملة المتعلقة بنقل الأسلحة دون مشاركة الولايات المتحدة.

بدء إدارة جديدة

إن الشئ الرئيسي الذي لا يمكن التنبؤ به بالنسبة لليبيا هو إذا ما كانت إدارة ترامب ستواصل السياسة الحالية التي تتبعها الولايات المتحدة، المتمثلة بتشجيع “مجلس النواب” وجماعات أخرى للإنضمام إلى السراج مع الحفاظ على الموقف المناهض لتنظيم «الدولة الإسلامية» ومكافحة الإرهاب. وقد يبدو التمسك بـ”حكومة الوفاق الوطني” بأنه مهمة شاقة، إلا أنه قد ظهرت بعض المؤشرات الإيجابية في الآونة الأخيرة: فقد وصل إنتاج النفط إلى 700,000  برميل يومياً بعد انخفاضه إلى 200,000 لمعظم عام 2016، كما وافق “البنك المركزي” على الإفراج عن 25 مليار دولار كميزانية إلى “حكومة الوفاق الوطني” من أجل الرواتب، والخدمات العامة، والمشاريع الحيوية للبنية التحتية. والأهم من ذلك هو أنه طالما تبقى المفاوضات الخاصة بـ “حكومة الوفاق الوطني” ناشطة، يتضاءل احتمال قيام القوات الموالية لحفتر باستئناف الحرب مع قوات من مصراتة، التي استحقت دعم الغرب من خلال مواجهتها تنظيم «الدولة الإسلامية» في سرت.

لكن إذا مالت الإدارة الأمريكية نحو ما تفضّله موسكو والقاهرة، والمتمثل بإعادة زعيم قوي مناهض للإسلاميين في ليبيا [إلى القيادة]، فمن الممكن أن تُقحِم البلاد من جديد وعن غير قصد في اندلاع أعمال عنف على نطاق أوسع بين الميليشيات. وفي هذه الحالة، ستواجه مؤسسات ليبيا الضعيفة بالفعل المزيد من الأضرار، وقد تؤدي الفوضى الناتجة عن ذلك إلى عودة تنظيم «الدولة الإسلامية» بقوة من معاقله المشتبه بها في الجنوب المنفصل سياسياً وغير الخاضع للحكم إلى حد كبير. كما قد تقوم قوات مصراتة، التي كان لها دور فعال في طرد تنظيم «الدولة الإسلامية» من سرت، بتغيير موقفها والوقوف في صفوف أولئك المتطرفين أنفسهم بدلاً من التنازل لحفتر ولـ “الجيش الوطني الليبي”.

 بين فيشمان

معهد واشنطن