ديموقراطية أميركا … إلى أين؟

ديموقراطية أميركا … إلى أين؟

بعد عشرات السنين من الديموقراطية، جاء الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة ليعرقل بعصاه عجلة التقدم الديموقراطي في تلك الأرض التي استطاعوا إخضاع شعوبها بمسميات جديدة، أولها «الحرية»، مرورًا بـ «الديموقراطية»، وانتهاء بـ «السلام»، ولا ينبغي إغفال مصطلح آخر هو «الانتعاش الاقتصادي»… وما إلى ذلك من الشعارات الرنانة التي أقنعوا شعوبهم بها.نعم، هي قد تحمل معاني سامية وعالية في بعض وجهات النظر، وهذا لا يمكن التغافل عنه أو نفيه، إلا أن تدقيق النظر وإمعانه سيؤديان بالمنصف والقارئ المعتدل والمستقل من دون ميول فكرية وعشوائية، إلى أمر مهم، وهو: فرض السلطة وتقوية دعائمها بمسمياتها كافة، وعمدوا إلى تسخير الإمكانات كافة لذلك، مبتدئين بتجيير أصوات الشعب لتقويم دعائمهم السلطوية.
ما بعد سقوط الكثير من الحجج وبيان وهنها أمام شعوبهم، مثل: سلطة الكنائس، وكذلك سلطة الإقطاع وما شابه ذلك، وبعد أن عجزوا عن إيجاد نوع آخر ليبنوا سلطتهم السياسية عليه، سارعوا إلى الاستعانة بأصوات الشعب ليسكتوا معارضته، فلقد واجه السلطويون عبر
الهائل من الثورات والاحتجاجات التي قوضت سلطتهم وأضعفتها، بل تاريخهم الكَّ أسقطتها، واليوم هم في مأمن من تلك الاحتجاجات لأن سلطتهم منتزعة منهم، فإذا أراد الشعب أن ينتفض ضدهم عبر الاحتجاجات السلمية أو غير السلمية، فسوف يصطدم بإشكالات عدة، منها:
أو ًلا: نقض الديموقراطية. وكأن الذي يعطي صوته لا يستطيع التنازل عنه في حال الاشتباه أو الخطأ وتبيان الحقيقة.
ثانيًا: فرض القانون، وكأن الشعب مسّخر لإعطاء صوته للسلطة والحكومة فقط لا غير. أما إعلاء صوته لأجل انتزاع الحكومة ومعارضته، فهو إما أن يعادل صفرًا أو هو خرق للقانون ونتيجته العقوبة.
ثالثًا: الإذن والترخيص لتلك الاحتجاجات! فهل يمكن أن تعطي الحكومة ترخيصًا للمعارضين؟ وإن أعطت هل ستتجاوب؟ وإن تجاوبت هل ستفي وتطبق؟
رابعًا: حصر السلاح بيد الدولة، متناسين أن أي خطر محدق بالدولة سيكون المنقذ الوحيد منه هو الشعب، وسيهرع كل السياسيين إلى حشد الملايين من أجل إنقاذ الدولة والسلطة والأرض. أما أن يحمي الشعب نفسه من دولة ما، فهذا يعني الجريمة العظمى.لذلك، فإننا نستطيع أن نقول إن السياسيين يعمدون إلى تقويض وإضعاف سلطة الشعب تدريجيًا ومن دون أن يتنبه إليها أحد. نعم، هم يؤمنون بأن الدولة أشمل من الحكومة، وأن أفراد المجتمع كلهم جزء من تلك الدولة، إلا أن ذلك مجرد من الواقع وليس له تطبيق واقعي على الإطلاق، وهنا نعطي بعض الأدلة عن الخروقات التي تخرج أفراد الشعب من الدولة أو تقلل من أهميتهم، منها:
أو ًلا: الحصانة السياسية أو الدبلوماسية التي تعطى لبعض أفراد الحكومة، وكأن الشعب لايستحق الحصانة حتى في التعبير عن رأيه.
ثانيًا: في حال تضارب المصالح السياسية مع المصالح الشعبية، فإنه لا محالة ستقَّ لأولى على الثانية إلا في حالات نادرة قد تسمى «قضية رأي عام»، وهي لا ترقى إلى كونها اهتمامًا حقيقيًا بمشاعر الشعب.
ثالثًا: استعمال السلطة بصورة مفرطة يستدعي العقوبة، وهذا لا ننكره، إلا أن العقوبة لا تنهض بالمطلوب والردع، بل هي مجرد شيء أقرب إلى الرمزية فقط. أما استعمال الشعب سلطته باعتباره مبدأ السلطات، فسيكون جريمة ذات عقوبة شديدة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الاستهتار والاستهانة بأفراد الشعب. ومن هنا، فإننا نجد أن التظاهرات التي تجتاح الشوارع الأميركية اليوم تصطدم بعنف حكومي وقمع شديدين، ولعله للأسباب التالية:
أو ًلا: أنها مكتنفة للعنف، وهذا مرفوض قانونًا.
ثانيًا: أنها ضد الديموقرطية أو الانتخابات التي أوصلت ترامب رئيسًا للدولة.
ثالثًا: أنها غير مرخصة. رابعًا: أنها سياسية لمصلحة معارضي ترامب… وغيرها من الأسباب التي تحتج بها الحكومات غالبًا لقمع شعبها، إلا أن هناك أسبابًا حقيقية، نذكر منها
أو ًلا: أنها مخالفة لرسم سياساتهم الاستراتيجية، وبالتالي فإن التظاهرات والاحتجاجات قد تؤدي إلى عرقلتها أو إنهم يعتبرون ترامب كما قلنا في لبدء، عصا تعرقل عجلة التقدم.
ثانيًا: أنهم قد يعتبرونها كاشفة عن أمور لا يريدون إطلاع العالم عليها.ّ الديموقراطية
ثالثًا: أن وجود تظاهرات يعني وجود استياء شعبي، وهذا يعني انهيار الحياة ­ الديموقراطية
رابعًا: أنها تضعف من الدور الخارجي لأميركا ويخفف من غلوائها وتدخلاتها الخارجية. ولعل هناك أسبابًا أخرى لذلك، بيد أنه وللإنصاف لا بد أن نسلط الضوء على الأسباب التي كانت سببًا في خروج التظاهرات والاحتجاجات والتي ندر أن نراها في محافل انتخابية
سابقة، ولعل الأسباب المّدعاة من البعض هي الأوضاع السياسية والاقتصادية، إلا أنني أجد ماورائيات مهمة لتلك التظاهرات، ومنها:
أو ًلا: أن أغلب الرؤساء السابقين جاؤوا من رحم السياسة والاحزاب السياسية، أما ترامب فكان مثيرًا للجدل ولم يكن من الوجوه السياسية المعروفة، ما قد يؤدي إلى عرقلة الكثير من الأمور.
ثانيًا: قد يعتبر ترامب من رحم الشعب وليس من أروقة السياسيين، ولعل الكثير مما قاله في خطبته يصلح دلي ًلا على ذلك، وأخص بذلك نقده سلفه، وبشدة.
ثالثًا: أنه متناغم مع روسيا، أو كما كانت تسمى سابقًا «الاتحاد السوفياتي»، وهو العدو الأشهر للولايات المتحدة.
رابعًا: أن روسيا ليست عدوة للولايات المتحدة فحسب، بل للدولة المهيمنة سياسيًا واقتصاديًا في أميركا، وهي الكيان الصهيوني المغتصب إسرائيل، وهذا يعني لزامًا الوقوف ضدها بشتى الطرق.
خامسًا: أن ترامب من أكبر أثرياء أميركا، وهذا قد يكون بداية لهيمنة اقتصادية جديدة خاف منها على الوضع الاقتصادي العام لأميركا وإسرائيل.
سادسًا: بما أنه مقرب من الشعب ومن رحمه وبعيد من الأروقة السياسية فإنه سيكون معرق ًلا لتسلط السياسيين في أميركا ولو تدريجيًا. هذا كله على الصعيد السياسي المعتاد، اما إذا أردنا التكلم بصورة مختلفة وأن نخرج من التحليلات السياسية المتعارفة، فيمكن القول إن هناك أكثر من سبب لتلك التظاهرات، وهي أسباب روحية سماوية، أو تمكن تسميتها معنوية غير مادية، منها:
أو ًلا: أن ترامب كما هو مشهور عنه، متشدد وصاحب أفكار ملؤها العنف، فشاء الله أن يلهيه بقلاقل داخلية قد تبعده وتلهيه عن ذلك.
ثانيًا: لعل ترامب أعلن العداء للإسلام بصورة عامة، وقد سّماهم بالراديكاليين، أي المتشددين، من دون التمييز بين جهة وأخرى. وهذا قد يكون بداية لهجمة جديدة ضد الإسلام عمومًا، واستهداف بعض المراجع والقادة، وهذا ما استدعى من باب اللطف الإسلام عمومًا، واستهداف بعض المراجع والقادة، وهذا ما استدعى من باب اللطف الإلهي إلهاءه داخليًا عن الصدام مع الإسلام.
ثالثًا: أن الكثير من الشعوب المستضعفة، بل الكثير من الشعوب المسلمة جعلت أميركا وبقناعة تامة، هي المنقذ لها، تاركة كل الغيبيات ومتناسية ذكر الله مما استدعى أن يلهي أميركا بأمور داخلية ستبعدها من التدخلات، وبالتالي قد لا تكون في المستقبل
المنقذ، أي المخلص.
رابعًا: شاء الله أن يقلص نفوذها دوليًا وما تسعى اليه من العولمة وجعل العالم قرية بيدها. ولله الحمد الذي يفعل ما يشاء لا ما يشاء غيره. وإذا لم تكن تلك المقترحات والطروحات الغيبية صحيحة، فإنه من باب مبدأ الاستحقاق، بمعنى استحقاق الشعوب، أن تتسلط عليها الدولة الظالمة. والله العالم.
مقتدى الصدر

الحياة