أولبرايت – هادلي…أي استراتيجية جديدة للشرق الأوسط؟

أولبرايت – هادلي…أي استراتيجية جديدة للشرق الأوسط؟

صدرَ تقريرٌ جديدٌ، بإشراف وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، مادلين أولبرايت، وستيفن هادلي، مستشار الأمن القومي السابق في أميركا “تقرير أولبرايت – هادلي: إستراتيجية جديدة للشرق الأوسط، 2017″، وهو حصيلة جهدٍ جماعيٍّ مع مستشارين دوليين وسفراء في منطقة الشرق الأوسط والعالم، وبرعاية المجلس الأطلسي.
يزعم التقرير أنّه يحمل إستراتيجية جديدة للمنطقة، ويقرّ بأنّ دوراً سلبياً كان للدول الإمبريالية في منطقتنا منذ بداية القرن العشرين حيث الاستعمار القديم. ويطوي مسؤوليّة بريطانيا والدول الإمبريالية في خلق إسرائيل، ليقول إنّ من مهام الإستراتيجية التعاون مع إسرائيل، أي ينطلق من أنّها دولة ككل دولة المنطقة.

أزمة عالمية
يبدأ التقرير بأن هناك “أزمة عالمية تنطلق من الشرق الأوسط”، وستتأثر أميركا وأوروبا فيها. وبالتالي، لا بد من إيقاف “العنف وعدم الاستقرار” وقوى الإرهاب. ولا يأتي التقرير هنا أبداً على دور الاحتلال الأميركي في تدمير العراق، بدءاً بالعام 2003، وتمكين إيران في هذا البلد المُحتل، وإرساء أساس للطائفية فيه، وخلق مظلوميّة سنيّة بسببها، وفتح الحدود، وكل السبل ليصبح بلداً مُستقبِلاً ومُنتجاً لتنظيم القاعدة ولاحقاً لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وبرعاية النظام الطائفي في العراق، وهو نظامٌ ممثلٌ لدولة ولي الفقيه الإيراني.
هناك أزمة عالمية، لكن بدايتها كانت احتلال العراق، ونضيف هنا أن العالم غارقٌ بتأزمٍ شديدٍ، وبسببهِ اندلعت ثوراتٌ شعبية عارمة كالعربيّة. أيضاً لم يأتِ التقرير على ذكر الثورات العربيّة، بدءاً من أواخر 2010، ويركّز الكلام على قوى العنف والإرهاب، وكأنّ الثورات قوى عنف وإرهاب. طبعاً مساعدو أولبرايت/ هادلي هم من سفراء الأنظمة العربيّة التي تقمع شعوبها، و”تثرثر” عن تخلف الشعوب وهمجيتها وإرهابيتها. وبالتالي، لا بد من مواجهة قوى العنف والإرهاب والأصولية.

الأزمة الحقيقيّة التي تتطور بشكل كبير، وتؤزم العالم، هي بالتحديد الأزمة المالية والاقتصادية، والتي ضربت أميركا في العام 2008، وبدأت كأزمة رهنٍ عقاريٍّ، وتطورت لتشمل دول العالم بأشكال مختلفة. نشأت بدايات هذه الأزمة، منذ أواخر سبعينيات القرن المنصرم، حيث اعتمدت سياساتٍ ليبرالية جديدة، تُنهي دور الدولة وتُعطي للقطاع المالي بالتحديد الأولويّة للتحكّم بالاقتصاد العالمي. وهذا ما تسبّب بكل هذه الأزمات متعدّدة الأوجه. وبالتالي، هناك أزمة عالميّة فعليّاً، وهي تنتج أنظمة عنصرية وأصوليات وجهادية وصدامات طائفية وقومية بين سكان البلد الواحد. أردت القول إنّ الإستراتيجية الجديدة تتقدّم بأفكارٍ ورؤى لحل مشكلات الشرق الأوسط، ولكن انطلاقاً من إمكانية السيطرة عليه بأوجهٍ أخرى، ووفق اعتبارين، الأوّل أمنيٌّ، والثاني عبر حُكمٍ رشيدٍ وضرورة اعتماد نظام ديمقراطيّ يأخذ مصالح الشعوب بالاعتبار. أي المحافظة على الأنظمة نفسها، وإجراء تعديلاتٍ فيها، وبما يسمح بمواجهة الإرهاب، ورمي بعض الفتات للشعوب لتصمت، أو يُسيطر عليها باسم مواجهة الإرهاب.
لا تلحظ هذه الإستراتيجية أثرَ السياسات الليبرالية، ولا تقرأ مسألة “الأصولية” باعتبارها نتاجٍاً محليّاً لأثر السياسات المذكورة العالمية، والتي يتم فرضها على الاقتصاديات المحليّة عبر الأنظمة السياسيّة (الشموليّة أو سواها). ولا تُحمّلُ أولبرايت مسؤوليّةَ حقيقيّةً للأنظمة على تفضيلها هذه السياسات، والتي بسببها وما تفرضه من قوانين اقتصاديّة لصالح الانفتاح على السوق العولمية، تتشكّل طغمٌ ماليّةٌ تتحكّم بالاقتصاديات المحلية، وتفرض أنظمةً شمولية، أو “كاريكاتير ديمقراطية”، وبما يدفع الشعوب نحو الأميّة والإفقار وتدمير الاقتصاديات والزراعة. وطبعاً ليس من كلامٍ عن الصناعة التي هي السبب الجذري للنهوض العام في كل الدول المتقدمة، أو الأقل تقدماً، ككوريا والصين وسواهما.

قضايا الإستراتيجية
تقترحُ الإستراتيجيةُ شقين لتنفيذ أجندتها، شقاً أمنيّاً وشقاً سياسيّاً عامّاً. الأوّل هو المدخل للثاني. وهنا تُحمِّلُ الولايات المتحدة الأميركية، بقيادة باراك أوباما، مسؤولية “الانعزالية” عن التدخل في الشرق الأوسط. وترى إيران خطراً حقيقيّاً، فهي تفرض هيمنةً على دول كثيرة في المنطقة، ويجب إيقاف ذلك، وهذه سياسةٌ فاشلة بالكامل، وبالتالي، تفترض أولبرايت دوراً عسكرياًّ للولايات المتحدة، وأن تخليها عنه هو أحد أسباب تأزم المنطقة بأكملها، وفي الوقت نفسه، تقول إنّ الأنظمة الشمولية، كالنظام السوري، هو سبب وجود “داعش” والجهادية. لا يدفع هذا الاستنتاج ناشري الإستراتيجية للسؤال: كيف ظهر “داعش” ومتى وماذا يخدم، وكيف أجهز على الثوار وفصائلهم المحلية في سورية. فتنظيم داعش والجهادية هما من خدم الأنظمة وأوجد العنف، وأن الولايات المتحدة الأميركية بتشكيلها ائتلافاً دولياً ضد “داعش” بالتحديد ساهمت في إنقاذ الأنظمة، كالسوري، وأمدّت بعمر “داعش” ذاته؛ فلا حربٌ حقيقيّةٌ تخاض ضد الجهادية، وأسباب وجودها متوفرة، فهي تحارب أنظمةً طائفية، كالنظام العراقي ونظامٍ شموليٍّ أتى بمليشيات طائفية، لمواجهة ثورة أغلبية الشعب السوري.
الشق الثاني، ويتناول الوضع برمته، ويركّز على البعد الاقتصادي، وكما تجاهلت أثر العولمة “السياسيات الليبرالية الجديدة”، فهي تؤكد ضرورة السوق الحرة، ودعم المبادرات الصغيرة والأعمال التجارية والمشاريع الهامشية. ولا تتضمن الإستراتيجية أيّة خططٍ لدعم الزراعة أو التصنيع، أي قطاعات الاقتصاد الأساسية التي تنهض بالاقتصاد العام، وتعتمد على الموارد المحلية، وتوظف ملايين العاطلين من العمل. وبالتالي، تكون النتيجة تشكيل حكم رشيد من أجل تسهيل نهب الثروات، وضمن هذا الخيار تكون التجارة هي الأساس، ويصبح من الطبيعي أن تتضمن الإستراتيجية أفكاراً تؤكد ضرورة وجود قوانين تدعم التجارة الحرة واقتصاد السوق.

الموقف من الهيمنة الإيرانية
لا يمكن لأولبرايت، ومستشار الأمن الأميركي السابق، أن يُشرفا على استراتيجيةٍ تخدم النهوض بمنطقة الشرق الأوسط كما تدّعي، بل ستكون لصالح الدولة الأميركية بالتحديد، وهما يتخوفان من عزلتها التي بدأت منذ ثماني سنوات، وهي سنوات دورتي رئاسة أوباما. وهناك تخوّفٌ إضافيٌّ من سياساتٍ ستعتمدها إدارة الرئيس الجديد دونالد ترامب، وتكون أقرب إلى العزلة، لا سيما أنّه يؤكد على أن قضيته الأساسيّة، هي الداخل الأميركي، والعلاقة مع الصين، وهي قضايا كانت أيضاً من أسباب سياسة أوباما في كل الأحوال. أي إنه لن تكون هناك سياسات عالمية، أو داخل أميركا، مناقضة لرئاسة أوباما.
تؤكد الإستراتيجية التي نقرأها ضرورة عودة الولايات المتحدة إلى الساحة العالمية، وتلحظ مسألةً صحيحة، وهي تمدّد إيران وهيمنتها على أكثر من دولة عربية. يشكل رفضها هذه الهيمنة الجسر السليم للتواصل مع دول المنطقة، ومنها إيران، فهو سيُعيد تشكيل صلاتٍ سليمة مع الخليج العربي وتركيا وإيران وإسرائيل بالتأكيد. وكذلك مع شعوب المنطقة، ولا سيما العراقيين والسوريين. فإذا كانت استراتيجية أوباما هي من سمح لإيران بالتمدّد وإكمال احتلال إيران العراق ومحاولة الهيمنة على سورية واليمن ولبنان، فإن هناك ضغوطاً سياسيةً أميركية، ومنها هذه الإستراتيجية، من أجل إنهاء “العزلة”، والعودة إلى الساحة العالمية، وتمكين دول المنطقة وشعوبها ليكونوا قادرين على النهوض بحياتهم، وإنهاء تلك الهيمنة. هذا منطقٌ سليمٌ، ولكن مشكلته، كما ذكرت، أنّه لا يقر بالثورات، ولا بمسؤولية الأنظمة عن مآلات شعوبها، ويصوّر الإرهاب قضية القضايا، ويُقدم تصوره للاقتصاد بشكل خاطئ كلية، وبما يعيد إنتاج الأزمات كما أوضحنا. وتؤكد الإستراتيجية أن نجاح تونس مرتبط باللبرلة الواسعة والانفتاح الاقتصادي، وكانت هذه النقاط من أهم الأسباب، كما يرى الاقتصاديون، لتراكم الإفقار ومن ثم الثورة!

الحكم الرشيد والإستراتيجية السليمة
نعم، هناك ضرورة للحكم الرشيد وللاقتصاديات المتعافية. المشكلة أن وصفات هذه الإستراتيجية هي مثل كل وصفات الأمم المتحدة والبنك الدولي، وتقول الشيء نفسه منذ عقود طويلة، وكانت وصفات فاشلة بامتياز، وقادت الشعوب إلى الثورات، ولم تؤدّ إلى تشكيل الحكم الرشيد هذا. وعكس ذلك، سمحت العولمة بتشكيل مافيات مالية ضخمة. ضمن هذا الإطار، تصبحُ الإستراتيجية غير معنيّة أبداً بالحكم الذي يمثل الشعوب، ولا باقتصادٍ متطورٍ يُنهي سبب الثورات. أولبرات وهادلي ينطقان حقاً، ومعهما كل المستشارين والسفراء والباحثين الذين عملوا معهم، إنّهم يريدون حل الأزمة التي تجتاح أميركا ولم تنته بعد، والتي يحاول ترامب نفسه التصدّي لها عبر إعادة “التصنيع” إلى أميركا، وإنْ بأسلوبٍ لا يسمح بتجاوز الأزمة الاقتصادية الأميركية.

إذاً، ليس أساس الأزمة العالميّة في الشرق الأوسط، بل هي بالتحديد في الدولة الأولى عالميّاً، أي في أميركا؛ فهي ما تزال تعتمد السياسات الليبراليّة، وتفرضها عالميّاً وتقود العالم نحو مواجهاتٍ أمنيّة مع المجموعات الجهاديّة، وكأنّ تلك المجموعات هي فعلاً الخطر الأول على العالم. من دون أدنى شك، هناك ضرورة لاستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط، الشرق الذي يغلي، وينتفض منذ خمس سنواتٍ، وقد شُوّهت ثوراته بفعل التدخلين، الأميركي والأوروبي، أي بفعل هذا الشكل من التدخل الذي سمح لتنظيم داعش بالتشكّل في العراق، والتمدّد إلى سورية وليبيا وبلاد كثيرة، وكذلك سمح بغزو الحوثيين اليمن، وبدخول المليشيات الشيعية الطائفية لمواجهة الثورة السورية.
يتشكّل الشرق الأوسط الآن على جثثِ السوريين والعراقيين والليبيين واليمنيين، أي على جثث الثورات الشعبيّة، والتي استهدفت تغيير الأنظمة سلميّاً، لكن الأمر تطوّر سريعاً بسبب الصمت (التواطؤ) حيال تلك الأنظمة، أو الظاهرة الحوثيّة وحزب الله وإيران، ما أدى إلى الويلات الكارثيّة؛ ليس في البلاد العربيّة حرب أهليّة، ولا طائفيّة كما تزعم الإستراتيجية، بل هناك ثوراتٌ شعبيّةٌ، ودولٌ تتدخل لتشويهها، ولمنع انتصارها.
أيّةُ إستراتيجية لا تأخذ مصالح الشعوب بالاعتبار، وتنطلق من استيعاب ملايين العاطلين من العمل، وإنهاء مشكلة التمثيل الطائفيّ، وتشكيل أنظمة ديمقراطية، وتتمثل عبر الشعوب، وفقاً لمسألة المواطنة، مصيرها الفشل. وبعد احتلال الروس والتمدّد الإيرانيّ في الدول العربية، فإنّ أيّة إستراتيجية لا تُنهي هذا الوجود محكومٌ عليها بالفشل، فالشعوب لا تنهض تحت الاحتلال، بل عبر مقاومته.
يمكن الإيجاز بالقول إن هناك ضرورة لاستراتيجية وطنيّة وإقليميّة، بما يُنهي كل أشكال الاحتلال والتدخل الإقليميّ في الشؤون المحليّة، والاستجابة لمطالب الثورات، وكذلك تفكيك الدولة الصهيونيّة وتشكيل دولة لليهود وللفلسطينيين؛ حين تُكتبُ الاستراتيجيات وفق هذه الأفكار يُمكن أن يُكتب لها النجاح.
مادلين أولبرايت وستيفن هادلي ومستشاروهم والسفراء كتبوا إستراتيجية لا تُنقذ أميركا، ولا تُنهي المشكلات الأمنيّة، ولا تُوقف الثورات العربية، بل تُنذر بأزمات عالميّة مستمرة.

عمار ديوب

صحيفة العربي الجديد