مفارقات الزمن العراقي: بلد نفطي يعاني أزمات الكهرباء

مفارقات الزمن العراقي: بلد نفطي يعاني أزمات الكهرباء

يعاني العراق اليوم من نقص حاد في الطاقة الكهربائية بعد مرور قرن على دخول الكهرباء إلى البلاد، رغم إنفاق ما يكفي لبناء أحدث الشبكات الكهربائية في العالم منذ العام 2003. وقد أدى الفساد وسوء الإدارة إلى أن تصبح الشبكة واحدة من أسوأ الشبكات الكهربائية في العالم.

وفي مثل هذا الشهر قبل 100 عام دخلت الطاقة الكهربائية إلى العراق، بعد 38 سنة فقط من تقديمها للبشرية من قبل المخترع الأميركي توماس أديسون في العام 1879، ليسبق العراق بذلك معظم دول المنطقة. وعندما توفي أديسون في العام 1931 كانت جميع مدن العراق تنعم بالطاقة الكهربائية.

ولكن بعد قرن كامل يعاني العراقيون اليوم من انقطاع الكهرباء، رغم إنفاق عشرات المليارات من الدولارات منذ عام 2003، والتي التهمها الفساد المستشري في البلاد.

الكهرباء بين احتلالين

يقول الصحافي العراقي محسن حسين (82 سنة) في حديث لـ”العرب” إن العراق عرف الكهرباء في العام 1917 بعد دخول الاحتلال البريطاني إلى بغداد بنحو 6 أشهر، فيما الاحتلال الأميركي لم يوفر الكهرباء بعد 14 عاما من الاحتلال.

ويضيف أن أول مولد كهرباء نصب في بناية خان دلة في بغداد عام 1917 كان يعمل بالديزل بقدرة منخفضة، وبعدها تم نصب محركات ديزل في مناطق أخرى بينها منطقة السراي لإنارة مركز الحكومة، وفي شريعة المجيدية لإنارة المستشفى العام في باب المعظم، وفي كرادة مريم لإنارة معسكر الهنيدي، الذي حمل اسم معسكر الرشيد لاحقا. وقبل نهاية ذلك العام تمت إنارة أول شارع في مدينة بغداد وهو الشارع الذي سمّي لاحقا بـ”شارع الرشيد”.

وذكر أن الحكومة منحت “شركة التنوير والقوة الكهربائية” امتياز توفير الكهرباء لمدينة بغداد في العام 1928. وتم تأميم تلك الشركة عام 1955 وأطلق عليها اسم “محطة كهرباء بغداد” وارتبطت بوزارة المواصلات والأشغال.

وفي العام 1958 تم تأسيس مصلحة الكهرباء الوطنية التي تولت امتلاك وتشغيل كل من محطات توليد دبس وجنوب بغداد وخطوط النقل والمحطات الفرعية، التي شيّدها مجلس الإعمار، في العهد الملكي، ثم دمجت مصلحة كهرباء بغداد مع مصلحة الكهرباء الوطنية في العام 1964 وحلت محلها مديرية كهرباء منطقة بغداد على غرار المديريات الثلاث التي كانت ضمن تشكيلات المصلحة.

وفي العام 1975 استحدثت المؤسسة العامة للكهرباء لتضم تشكيلات الكهرباء كافة، ولكنها ألغيت في العام 1987 وأصبحت المنشأة العامة لتوزيع كهرباء بغداد دائرة من دوائر وزارة الصناعة والمعادن لتستحدث في العام 1999 هيئة الكهرباء، التي حلت محلها وزارة الكهرباء بعد احتلال العراق في العام 2003.

وكانت شوارع بغداد وأزقتها تُنار، قبل دخول الكهرباء، بالفوانيس التي تسمى اللمبة، وكانت إنارتها ضعيفة ولكنها تفي بالغرض وتؤمن الحاجة منها.

ولم تنقطع شكاوى العراقيين من سوء إمدادات الكهرباء منذ حرب الخليج الثانية وتدمير محطات توليدها بالقصف الأميركي بنسب بلغت قرابة 90 بالمئة، لكن المهندسين والخبرات العراقية استطاعوا إعادتها خلال شهور ولكن بطاقات أقل، وتواصلت الشكاوى منها إلى حدّ الآن.

وزير كهرباء صدام

يقول المهندس سحبان فيصل محـجوب، آخر وزير للكهرباء قبل الاحتلال، “إن تقرير خطة التنمية الوطنية للسنوات 2010-2014 الصادر عن وزارة التخطيط في يناير 2009، أشار إلى أن طاقة توليد الكهرباء في العراق بلغت قرابة 2458 ميغاواط قبل حرب الخليج الثانية عام 1990، وكانت تغطي كامل الطلب لغاية عام 1994″.

لكن عجز توليد الطاقة أخذ في التزايد بسبب الحروب والحصار الاقتصادي وتوقف الخطط التنموية وزيادة استهلاك العراقيين للطاقة الكهربائية.

ويضيف محـجوب لـ”العرب” أن طاقة الإنتاج المتحققة بلغت قبل الاحتلال عام 2003 نحو 3409 ميغاواط مقابل طلب يصل إلى 4653 ميغاواط أي بنسبة عجز مقدارها 27 بالمئة.

وبعد الاحتلال بنحو 7 سنوات ارتفعت طاقة التوليد بنسبة 63 بالمئة لتصل إلى 5442 ميغاواط، لكن الطلب وصل إلى 10 آلاف ميغاواط.

ويرجع محـجوب سبب انخفاض حجم القدرات الإنتاجية من الطاقة الكهربائية إلى عمليات التدمير والتخريب التي لحقت بالمنظومة الكهربائية والمنشآت التابعة لها، إضافة إلى عمليات السلب والنهب التي طالت معظم المنشآت الاقتصادية بعد العام 2003، إضافة إلى تدهور الأمن وعدم استقرار العاملين، وعدم وصول الوقود والمشتقات النفطية إلى معظم مشاريع إنتاج الطاقة الكهربائية.

وأشار إلى صعوبة الحصول على الأدوات الاحتياطية اللازمة لإدامة عمر المحطات المتقادمة، وشح المياه خاصة للمحطات الكهرومائية، حيث انخفض معدل الإنتاج المتحقق لتلك المحطات خلال النصف الأول من العام 2008 بنسب تراوحت بين 24 و59 بالمئة مقارنة بالعام 2007.

وأكد أن الإحصائيات قدرت حاجة العراق إلى الطاقة الكهربائية في العام 2016 بنحو 14 ألف ميغاواط، ومعدل حمل في أوقات الذروة بنحو 20 ألف ميغاواط. وفي حالة تشغيل المصانع المتوقفة وحدوث نهضة صناعية وتجارية، فإن الطلب سيصل إلى حدود 30 ألف ميغاواط وحمل الذروة إلى حدود 40 ألف ميغاواط.

فجوة بين الإنتاج والطلب

يرى وزير الكهرباء الأسبق أن إحدى مشكلات المنظومة الكهربائية هي الفجوة بين الإنتاج والطلب، ما يفرض قطع الكهرباء بشكل مبرمج وغير مبرمج، خاصة أن صناعة الكهرباء هي منظومة متكاملة ومسترسلة لا يمكن إغفال إحدى حلقاتها.

وقال إن الحلول المقترحة لإنتاج الكهرباء، حاليا، تجاهلت حلقتي النقل والتوزيع ومكملات هذه الصناعة من مراكز سيطرة ومحطات تحويل ومراكز صيانة متخصصة ومعدات تحسين معامل القدرة، وهي من مستلزمات إنتاج طاقة كهربائية مستقرة وبشروط نوعية قياسية.

وشدد على أن معالجة مشكلة الكهرباء تمر عبر مراجعة شاملة للعقود التي هي قيد التنفيذ الآن، والتركيز على أولويات التنفيذ وتحديد مسببات الفشل لتجاوزها، وإجراء تقييم شامل للمرحلة السابقة بجميع قراراتها وإجراءاتها التي ألحقت الضرر بالمنظومة الكهربائية.

وأكد ضرورة عدم إغفال مراجعة اتفاقيات الربط الكهربائي بين دول المنطقة ودراسة إمكانية الاستفادة من تنفيذ مشروعات الربط، من خلال تشكيل هيئة تنظيم مخولة بصلاحيات واضحة وملزمة لإدارة القطاع تعمل على مستوياته المختلفة.

ويشترط محـجوب أن يجري، بالتوازي مع عمل الهيئة التنظيمية المذكورة، العمل بجدية على وضع مواصفات فنية واضحة موحدة لمعدات الشبكة الكهربائية كافة، بحيث لا يسمح بتجاوزها.

وأشار إلى ضرورة وضع جرد بالشركات المصنعة المفضلة للتعاقد معها، في ضوء جودة معداتها ومستوى شفافية التعامل معها، واختيار مصادر المواد والمعدات بمهنية محايدة.

وأكد ضرورة العودة إلى سياقات العمل الصحيح عبر تدريب العاملين واختبارهم لصيانة وتشغيل أجزاء المنظومة المختلفة بعيدا عن المحاباة والمحاصصة الطائفية والحزبية والمجاملات التي تضرّ بمصلحة العمل الناجح، وانتهاج إدارة مركزية بعيدا عن السلطات المحلية في المحافظات والمناطق، نظرا لما للمنظومة الكهربائية من خصوصية إدارة لا تطابق خصوصيات الخدمات الأخرى مثل مشاريع المياه أو الاتصالات وغيرها.

ضرورة رسم استراتيجيات جديدة

واقترح الوزير الأسبق العمل على إنشاء مشروعات الطاقة البديلة كون العراق مشمسا لأيام طويلة من السنة، للحد من ظاهرة شح الوقود وتحقيق الفوائد البيئية، وتشجيع مشروعات التوليد الموقعي على مستوى المدن والتجمعات.

وقال إن ذلك يساعد في تخطي أزمات عزل المناطق على المنظومة الكهربائية، والإسهام في الإيفاء بالأحمال المتنامية إلى حين الانتهاء من إنجاز المشاريع الاستراتيجية.

وأشار إلى أن تلك الوحدات يمكن اعتبارها وحدات طوارئ مستقبلا، إلى جانب تحديث مراكز السيطرة الرئيسة والفرعية لتحقيق مراقبة وسيطرة عاليتي المستوى، وتفعيل دور الشركات الاستشارية العالمية والمحلية لمعالجة جوانب المنظومة الكهربائية بنحو فاعل أو استقدام خبراء في هذه المجالات للعون والاستشارة في إدارة الصيانة والتشغيل.

وأكد ضرورة الابتعاد عما يثير المواطن سلبا من وعود لا يلمس بعدها أي تحسن في الخدمة الكهربائية، بما يستلزم وضع سياقات إعلامية رصينة تتعامل مع المواطن بصفته زبون المؤسسة الأول بحذر وعلمية ومن الممكن كسبه إلى جانب المؤسسة في مراقبته أمن وسلامة معدات الشبكة الكهربائية وتحفيزه باتجاه سداد الفواتير بانتظام.

استغلال الخبرات الوطنية

مـحـجوب سخر من الزيادة غير المعقولة في عدد العاملين في قطاع الكهرباء، الذين قال عنهم إن عددهم في العام 2003 كان في حدود 30 ألف موظف، أما في العام 2015 فقد بلغ عددهم 104 آلاف موظف بحسب تصريحات المسؤولين الحاليين في قطاع الكهرباء.

واقترح وضع المعالجات الإدارية اللازمة للفائض الوظيفي، ودراسة إمكانية استغلال هذا العدد في المشاريع المستقبلية أو تحويلهم إلى قطاعات أخرى لتخفيف عبء البطالة المقنعة. وأوصى بالاستفادة من الخبرات الأكاديمية والميدانية الوطنية، بالنظر لما تتمتع به هذه الكوادر من إمكانيات عالية، باعتبارها من الطراز المتميز على مستوى المنطقة والعالم لتمتعها بخبرات مكتسبة من خلال ظروف العمل غير التقليدية التي أضافت إلى إمكانياتها عوامل قوة في الإشراف والتنفيذ.

وذكر أن كوادر القطاع الكهربائي عملت مع شركات عالمية متخصصة في فترة ما قبل تسعينات القرن الماضي واشتركت في حملة إعمار قطاع الكهرباء بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، وأعادت ما يمكن من وحدات توليد ومنظومات مدمرة بحملة شاملة كبرى أسهمت فيها قطاعات الدولة العراقية كافة.

وقال إن ذلك حقق امتزاج الخبرات المختلفة في ميدان عمل واحد، كما أن هذه الإمكانات نفسها تعاملت مع إجراءات الحصار الاقتصادي قرابة 13 عاما ولجأت إلى أساليب بديلة ومبتكرة لضمان ديمومة عمل المنظومة الكهربائية، وأدت إلى تطور قدراتها إلى حدودها القصوى.

سلام الشماع

العرب اللندنية