مآلات الهلال الإيراني في المشرق العربي

مآلات الهلال الإيراني في المشرق العربي

 

مع تغيير موازين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط نتيجة تغير شكل النظام السياسي وطبيعته في عدد من الدول العربية خاصة ذات الثقل الإقليمي بالمنطقة في أعقاب ما بات يُعرف إعلاميًّا بـ”ثورات الربيع العربي”، وما أسفر عنه من صعود تيار الإسلام السياسي إلى سدة الحكم، لم يكن هناك جديد في وجود تنافس إقليمي ودولي للعب دور أكبر في المنطقة، ولكن الجديد هو رغبة النظام الإيراني بالقيام بدور القوى المتوسطة الصاعدة كقوة عظمى في النظام الإقليمي على الرغم من التحديات الداخلية الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية في إيران.

بداية لابد من الإشارة إلى ماهية القوة الإقليمية، وما العلاقة بين كلٍّ من القوة الإقليمية، والقوى المتوسطة بالنسبة للنظام الدولي؟ ومن الضروري توضيح فكرة القوة المتوسطة في الأساس، والتمييز بين القوى المتوسطة التقليدية، والقوة المتوسطة، الصاعدة والتي يمكن الإشارة إليها بأنها القوى الإقليمية.

فالقوة الإقليمية هي الوحدة الدولية التي تمتلك القوة، والقدرة على التأثير داخل حدود إقليمها، فهي مشابهة للقوى الكبرى في النظام الدولي، ولكن على مستوى الإقليم التابعة له فقط. والفرق بين القوة المتوسطة التقليدية والصاعدة ”الإقليمية” هو  قدرة الوحدة الدولية على القيادة في الأساس، فالقوة  الإقليمية ” المتوسطة الصاعدة ” تتمتع بتلك المهارة، بينما القوة المتوسطة التقليدية تفتقد لعنصر القيادة، فيقتصر دورته على تشكيل ائتلافات، بالإضافة إلى محاولة الخروج بحلول توافقية، وقائمة في الأساس على مبدأ الشراكة لتحقيق مصالح مشتركة “.

يقف النظام الإيراني اليوم في مفترق طرق فيما يتعلق بمحاولة تحقيق نفوذه الإقليمي، إذ قطع منتصف الطريق نحو تنفيذ أهدافه، ولم يكن وهو يتفاوض سرًّا مع المنظومة الغربية منذ 12 سنة حول برنامجه النووي بعيداً عن التحولات الإقليمية في الشرق الأوسط؛ بل كان فاعلاً رئيساً فيها، وبخاصة بعد الإحتلال الأمريكي للعراق في نيسان/إبريل عام 2003م، وبسبب هذا الاحتلال، تمكن النظام الإيراني من العودة لعمقه الطائفي، حيث تغلغل نفوذه داخل مؤسسات الدولة العراقية،  واستثمره أيضاً سياسيًّا وعسكريًّا في لبنان وسوريا واليمن، واستطاع الحرس الثوري أن يؤدي دورًا محوريًّا في إنتاج السياسي الخارجي الإيراني وتصريفه، عبر ترسيخ دور المليشيات المسلحة في جغرافية سياسية واسعة، تضم المكون الشيعي في تركيبتها السكانية.

ففي سورية استمثر النظام الإيراني علاقاته مع الرئيس السوري بشار الأسد من أجل الوصول بنفوذه إلى ساحل شرق البحر المتوسط بمعاونة مليشيات حزب الله اللبنانية، ويعتقد علي خامئني مرشد الثورة الإيرانية أن الخسارة في سورية قد تسهم في قطع الصلة معه، الذي يُعدّه اليد المقاتلة له داخل الدول العربية. وفي اليمن يدعم النظام الإيراني المتمردين الحوثيين سياسيًّا، وعسكريًّا، وهذا الدعم النظام الإيراني له أبعاد متعدّدة، تتمثّل في الصراع المذهبي بين السُنة، والشيعة في المنطقة، بالإضافة إلى الحرب الباردة، والحرب بالوكالة بين المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي من جهة، والنظام الإيراني من جهة أخرى، فضلا عن سعي الأخير لتوسيع نفوذه في المنطقة، حيث يسعى دائما لزعزعة استقرار الخليج بتحريك أذرعه الشيعية الموجودة هناك لتهديد أمن دول الخليج، وخلق حالة دائمة من الاضطرابات، تستنزف قُدرات دول المنطقة، لذا فقد أصبح الحوثيون من الأذرع الرئيسة التي يعتمد عليها النظام الإيراني لخلق بؤر للتوتر، والصراع في الخليج العربي، فنجاح الحوثيين في إحكام قبضتهم على اليمن، وبسط سيطرتهم على كامل البلاد، سيشجّع المواطنين الشيعة الموجودين في المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات ليحذوا، ويخرجون ضد الأنظمة الحاكمة، وهو ما يحقّق هدف  النظام الإيراني الاستراتيجي في تشييع الخليج العربي، وضمه إلى منطقة نفوذه. ويدعم هذا ما يقوله بعض المسؤولين في النظام الإيراني من أن الحوثيين نسخة من حزب الله في لبنان، مما يؤكد مشروع تصدير ثورة ولاية الفقيه في محيطها الإقليمي.

وفي سبيل تحقيق النظام الإيراني هلاله الإقليمي، استند إلى عاملين الأول: القوة الصلبة، ومنها

1- تقديم التدريب، والدعم الفني، والمالي للمعارضة: مثل تقديم دعم مالي يصل 100 مليون دولار سنويًّا لحزب الله اللبناني، وإرسال إيران مجموعات أمنية مدربة أشرفت على تقديم دعم تقني، وتدريبي احترافي لقوات الأمن السوري، وتدريب أحزاب الله الخليجية التي تصدّر إلى دول الخليج العربية؛ لإحداث اضطرابات فيها على النحو الذي جرى في البحرين والكويت، وذلك لتغيير أنظمة الحكم فيها. ومثل دعم لهيئة الحشد الشعبي في العراق، مما يؤدي إلى زيادة نفوذه هناك.

2- دعم المعارضة، والجماعات الشيعية عسكريًّا: كما في اليمن وجنوبي السعودية، والبحرين، وباقي دول الخليج العربي، وأبرز مثال على ذلك دعم إيران لحزب الله في لبنان، والأحزاب، والجماعات الشيعية الموالية لإيران في العراق بالأسلحة، مثل جماعة فيلق القدس في العراق بالأسلحة والذخائر، مثل الصواريخ المضادة للدبابات، والهاونات، وصواريخ عيار 107مم، 122مم وغيرها، وتقدم الأسلحة والصواريخ والذخائر والمعدات العسكرية الحديثة بما فيها صواريخ مضادة للدبابات وصواريخ مضادة للطائرات، وتنفيذ البنية الدفاعية التحتية لحزب الله في لبنان.

إذ يستطيع النظام الإيراني توجيه وكلائه إلى ساحات القتال المتعددة في حال اقتضت الضرورة ذلك، ويُعد إرسال حزب الله اللبناني، والمجموعات الشيعية العراقية والأفغانية إلى الحرب في سورية من الأمثلة على ذلك، كما أن النظام الإيراني لا يُبقي هذه المجموعات للاستفادة منها في حال نشوب حروب عامة فحسب، بل يستفيد منها في بمعاقبة أطراف أخرى.

3- السعي نحو امتلاك السلاح النووي: عمل النظام الإيراني على تطوير قدرات تقنية نووية قادرة على إنتاج السلاح النووي، وذلك من خلال زيادة حجم اليورانيوم المخصب، وارتفاع بنسبة التخصيب إلى 90% فأعلى، ومما يمكن من الحصول على الكمية اللازمة لصنع أسلحة نووية، تعد أداة غير مباشرة تعمل على زيادة القدرة الإيرانية زيادة نفوذها في الإقليم، وبعيدًا عن أنها أداة يتم استخدامها في السياسات التي يعتمد فيها على التهديد والإكراه إلا أنها من ناحية أخرى تعد عامل جذب للنظام الذي يمتلك السلاح النووي لأنه يضفي على الدولة المالكة له عنصر جذب أيضًا.  وعلى الرغم من الاتفاق النووي الذي دخل حيز التنفيذ في كانون الثاني/يناير العام الماضي، فلا يبدو أنه سيُحدث تغييراً في السياسة الإقليمية للنظام الإيراني، ولن يثنيه عن مواصلة حضوره في ساحات يصنفها بالمهمة له مثل: سورية والعراق واليمن، ومن غير المفترض الإفراط بالتفاؤل على هذا الصعيد، وتوقع دور إيراني أقل في جبهات الصراع هذه؛ إذ إن الاتفاق لا يتضمن بنودًا تصب في هذا الاتجاه.

كما اعتمد النظام الإيراني أيضاً على القوة الناعمة، ولعل أبرز أشكالها مبدأ تصدير الثورة، فعقب نجاح الثورة الإيرانية عام 1979م، تبنى النظام الايراني ذلك المبدأ وفق مقاربتين، وهما الأولى: هي تصدير الثورة بقصد إحداث ثورة حقيقية في الدول المجاورة في العراق البعثي-آنذاك- والمملكة العربية السعودية، والبحرين، والكويت، معتمداً في ذلك على المواطنين الشيعة في تلك الدول، حيث كان ذلك المذهب الشيعي في الفترات الأولى من الثورة يشكل قاعدة فكرية عالمية، من خلال شعار: “كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء”. وفي المرحلة التالية ظهر المذهب الشيعي على أنه مذهب يهدف للتأثير في المجتمعات الشيعية. أما في المرحلة الأخيرة ومع تولي الشيعة الذين كانوا مطوّقين ومتأثرين مقاليد الأمور في المناطق التي يوجدون فيها، فقد جرى تحفيزهم من أجل إقامة حكم مشابه لذلك الذي أقامه النظام الإيراني، لإعادة استدعاء الجانب الفكري للثقافة، ويُعد العراق أبرز نموذج لذلك. بينما المقاربة الأخرى: فتسمى نظرية القارة الأم، وتقوم على فكرة تصدير ثورة ثقافية، بالتركيز على قيم الثورة، بدلًا من تصدير الثورة ذاتها.

أما العامل الثاني عزز النظام الإيراني تحالفاته الدولية مع الدولة الروسية بوصفها ثقلاً موازنًا للضغط الأمريكي وآلة حرب تحرق الأرض بوجه المعارضة العسكرية السورية وحلفائها الإقليميين، وسنداً للقوات المدعومة من قبل النظام الإيراني كحزب الله اللبناني وكتائب الحرس الثوري والمليشيات الموالية له، واستفاد أيضاً من التحالف مع روسيا في تثبيت دعائم النظام السوري، وتنفيذ خطة الفرز الديموغرافي في سورية وتسييج مناطق نفوذه بقوى مذهبية تشكل قاعدة سيطرته فيها، وهذه المهمة لم تستكمل بعد، ويحتاج الى مزيد من الصراع العسكري وتطهير مناطق معينة تدخل في مشروعه داخل سورية.  ومع ذلك لم يجنِ حتى الآن أي ثمرات لتحركاته في الإقليم، ولا يزال يراوح مكانه في “منتصف الطريق”، مخلفاً وراءه دماءً جارية وأشلاء بريئة وحرباً مذهبية وأرضاً محروقة، وتدميرًا للبنية الاجتماعية في “هلال” طموحاته في كل من: العراق وسوريا ولبنان واليمن.

 وفي محاولة لفهم هذا السلوك العدواني للنظام الإيراني، نتساءل: ما طبيعة الخطر الذي كان يهدد وجود النظام الإيراني كي يقوم بأعمال من شأنها تهديد استقرار الإقليم برمته؟ الإجابة : لا خطر، وخاصة بعد إسقاط حكم الرئيس العراقي السابق نظام صدام حسين، وعدم الاهتمام الجدي من قبل إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بقضايا الإقليم، إذ كان جل اهتمامها  يتمحور حول التوصل إلى تسوية دبلوماسية للمشروع النووي الإيراني، وبُعد إسرائيل جغرافيا عن النظام الايراني، واستحالة أن تقدم على عمل عسكري ضده، وأول من سيمنعها الأمريكيون الذين لا يريدون اعطاء النظام الايراني فرصة لتقويض الأمن والاستقرار في الخليج العربي، ووقف إمدادات النفط، كما أنه بالنسبة لدول الخليج العربي فهي تتبع سياسات غير عدائية تجاه النظام الإيراني التي تستطيع تحسين علاقاتها معه، ولكنه لا يبدو حريصاً على ذلك بالقدر الواجب والمفروض.

من خلال ذلك يتضح أن النظام الإيراني قوة انتهازية أراد أن يستغل الفراغ الجيوسياسي الذي أحدثه الاحتلال الأمريكي للعراق، والاستفادة من مجريات الربيع العربي لتأكيد هيمنته على الدول المجاورة له دون اللجوء إلى الحرب المباشرة، والاعتماد على الحرب بالوكالة، وفي هذا السياق نتساءل هل النظام الإيراني عقلاني؟ أي يتخذ قراراته بناء على المصلحة، أم بناء على النسق الفكري؟ فالنظم الفكرية تتحرك بناء على معتقدات سابقة، وتتدخل القناعات الدينية والفكرية بصورة كبيرة في عملية اتخاذ القرار، ولاسيما في السياسة الخارجية، وتكون غير عقلانية، بل ربما تقدم على الانتحار أو التدمير المتبادل، إذا تطلب الأمر؛ لتحقيق تلك الأهداف الفكرية والدينية. فهناك تقييمات تفيد بأن النظام الإيراني فكري، لن يقبل إلا ما يحقق له أهدافه الفكرية، وعلى رأسها تصدير الثورة الإيرانية، واستدعاء الثارات التاريخية بين السُّنة والشيعة، بوصفها مهمة مقدسة مترسخة في العقلية الشيعية التي تنطلق من الإحساس بالمظلومية، بالإضافة إلى أن عداءها “للسُّنة” عداء وجودي تاريخي، لا يقبل الحلول الوسطى، ولا يقبل النفعية” البرغماتية” المصلحية. في حين تفيد تقييمات أخرى أن النظام الإيراني نظام عقلاني، بدليل أنه لم يستهدف إسرائيل بصورة مباشرة، ولو مرة واحدة في تاريخه، بل تعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في صفقة لتوريد أسلحة في أثناء الحرب مع العراق بوساطة إسرائيلية عام 1985م، فيما عُرف بفضيحة إيران كونترا، كما أن حليف النظام الإيراني الدولة الروسية، وهي دولة لا تتفق معه في القيم أو الدين أو الفكر؛ وهذا يفيد أن النظام الإيراني في المجمل لا يتحرك مدفوعاً بفكر أو عقيدة دينية، ولكنه في النهاية يحقق مصالحه العليا بنفعية.

لكن هناك تفسيراً آخر، هو أن النظام الإيراني يجمع بين النفعية والفكرية، ويستخدمهما بالتبادل لتحقيق كل مصالحه وعقيدته الدينية، فالمصالح تخدم الفكر، وهو له هدف أساسي لا يخجل من إعلانه صراحة، وهو السيطرة على إقليم المشرق العربي، وأن يبسط نفوذه على العالم الإسلامي في النهاية بمذهبيته الشيعية، بداية في الدول الهشة الساقطة في حروب الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش في كل من أفغانستان والعراق، وصولا إلى سورية التي ساند فيها النظام الإيراني نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وتفاخر بأنه يسيطر الآن على عدة عواصم عربية. ومن هذا المنطلق فإن النظام الإيراني يتحالف مع روسيا، وعقد الاتفاقية النووية مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة دمجه في النظام العالمي؛ وهو ما حدا بالجنرال مارتن ديمبسي رئيس الأركان الأمريكي السابق أن يقول إن النظام الإيراني هو “لاعب عقلاني”، وهي قناعاته التي خلُص إليها بناء على معطيات كثيرة، كان من أهمها التقارب الأخير بين الولايات المتحدة الأمريكية في عهد رئيسها السابق باراك أوباما  والنظام الإيراني، وما وصفه ديمبسي بالمسار الأكثر عقلانية بالنسبة للولايات المتحدة؛ فيما تصف الاستخبارات الأمريكية أنه غير عقلاني؛ بسبب طريقة صنع القرار والأدبيات الدينية التي يستخدمها في خطاباته، فيما أكدت تقديرات استخباراتية أخرى للولايات المتحدة أيضا عام 2007م أن ” القرارات الإيرانية يقودها منهج الربح والخسارة، لا الهرولة نحو اكتساب السلاح النووي، بصرف النظر عن التكاليف العسكرية والاقتصادية والسياسية”. إذن هناك خلاف داخل المجتمع الاستخباراتي الأمريكي؛ بل داخل وزارة الدفاع ذاتها على توصيف النظام وطريقة عملية اتخاذ القرار، ولاسيما الاستراتيجية الحاسمة، مثل حصوله على السلاح النووي.

ومن خلال التوليفة التي تجمع بين العقلانية والفكر لدى النظام الإيراني، نستطيع القول إن تحركاته الحالية، التي يستخدم فيها تلك الازدواجية بمهارة شديدة، ليس طبقاً لمنظومة القيم الحاكمة للرؤية الإيرانية، ولكن تبعاً للخصم الذي تتعامل معه؛ فهو يتعامل بفكر شديد مع الصراعات المذهبية في الإقليم، بينما يتعامل بعقلانية شديدة مع الدول الكبرى، وعلى رأسها روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، ويستخدم تلك العلاقة والازدواجية في تحقيق مصالحه التي ترمي في النهاية إلى تحقيق فكره، كما يستخدم الفكر والعاطفة المذهبية في الداخل الإيراني من أجل تسويغ تدخلاته الخارجية، التي يحرق فيها الموارد الاقتصادية المحدودة للدولة الإيرانية في محاولة تحقيق أهدافه الفكرية، التي يغطيها بغلاف مذهبي عندما يتعلق الأمر بخوض معارك خارجية في مناطق بعيدة عن حدوده القريبة بحجة الدفاع عن الأضرحة المقدسة في سورية، وباستخدامه التنظيمات المتطرفة في الإقليم سحابة دخان تخفي وراءها أطماعه التوسعية للسيطرة على إقليم المشرق العربي.

ومع استشعار الدول القائدة في الإقليم وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية النتائج الكارثية للعقلية المذهبية للنظام الإيراني، وتأثيره في البنية السياسية والاجتماعية في الإقليم، وتحديداً في 21 أيلول/سبتمبر عام 2014م ، حيث سيطرت جماعة الحوثي على مقر الحكومة والوزارات والمقرات الاستراتيجية في صنعاء، و في 26 آذار/مارس 2015م، جاء الرد على تلك السيطرة إذ بدأت عشر دول بقيادة المملكة العربية السعودية العملية العسكرية التي اصطلح عليها “عاصفة الحزم” ضد جماعة الحوثي، وقوات الرئيس اليمني المخلوع علي عبدالله صالح، وأثارت هذه العملية انتقادات واسعة من قبل النظام الإيراني، لأنها أي عاصفة الحزم فاجأته في التصدي لنفوذه في اليمن. ولم تعتمد المملكة العربية السعودية في ذلك التحالف العسكري على دول الخليج العربي فقط التي امتنعت عن مشاركة فيه سلطنة عُمان، بل ضمت إليه كلًا من مصر والسودان والأردن والمغرب وباكستان، لإدراكها أن النظام الإيراني عمل تفتيت الصف الخليجي بانتهاجه سياسة الاتفاقيات الثنائية، ويتعامل مع كل دولة على حدة، وفقاً لموقفها وعلاقاتها معه، فيوقع اتفاقيات أمنية مع دولة خليجية، ويفتح محادثات سرية مع دولة خليجية ثانية، ويرسل رسائل بمضامين سياسية واقتصادية إلى دولة خليجية ثالثة. أضف إلى ذلك  أن المملكة العربية السعودية تعد النظام الإيراني السبب الجوهري وراء حالة عدم الاستقرار في المنطقة والراعي الرسمي للصراع الطائفي عقب تدخله في شؤون المنطقة بانخراطه في حروب بالوكالة وبالتالي فإن جهودها لبعث التحالف الإسلامي تنطوي على رمزية ضمنية تتمثل، أساسا في بناء جبهة موحدة ضد خطره إقليميا.

لذا يعتقد النظام الإيراني بأن عدم تحييد باكستان ” النووية” ومصر ذات الثقل العربي في صراعه مع المملكة العربية السعودية  من شأنه أن يلحق الضرر بمشروعه التوسعي في المشرق العربي، فهل يستطيع ذلك النظام تحييدهما في صراعه مع المملكة العربية السعودية؟ بعد ما تأكد النظام الإيراني بأن تحالف الأخيرة مع تركيا لم يتوصل إلى نتائج ملموسة، إضافة إلى عن حجم التعاون الاقتصادي في مجال الطاقة بين النظام الإيراني وتركيا،  الذي يسهم قدر الإمكان في تحييد خلافاتهما السياسية.

فبالنسبة لباكستان تجتمع العديد من القواسم المشتركة بينها، وبين المملكة العربية السعودية، إذ تعد كل منهما في طليعة العالم الإسلامي، غير أن انضمام باكستان إلى التحالف الإسلامي بقيادة المملكة العربية السعودية، سيضعها في موقف محرج مع النظام الإيراني. ففي حين تعجز باكستان، ثاني البلدان المسلمة من حيث عدد السكان، عن إدارة ظهرها لبلاد الحرمين الشريفين، لا يمكنها أيضا أن تخاطر بعلاقاتها معه المتاخمة لحدودها. على الرغم من القواسم المشتركة التي تجمع بين باكستان والمملكة العربية السعودية ، فإن باكستان تتقاسم بدورها مع النظام الإيراني العديد من الروابط الثقافية واللغوية والدينية. بالإضافة إلى ذلك، تحتضن باكستان ثاني أكبر نسبة من الجالية الشيعية في العالم، على الرغم من كونها بلدا ذا أغلبية سنية. وبالتالي يمثل الحفاظ على سلاسة العلاقات مع النظام الإيراني، موطن أكبر عدد من الشيعة في العالم، أولوية قصوى بالنسبة إلى إسلام آباد.

مما يحفز المملكة العربية السعودية على السعي إلى كسب دعم عسكري باكستاني،  إذ تعد باكستان القوة النووية الوحيدة الرسمية في العالم الإسلامي، وصاحبة سادس أكبر جيش في العالم، ويعد ذلك مكسبا لأي تحالف عسكري. أضف إلى ذلك المعطيات التاريخية التي تجمع بينهما بغض النظر عن التقارب الديني، فعلى مر العقود السابقة أظهرت باكستان استعداداً لتقديم المساعدة إلى السعودية. وتبدّى ذلك في سياق الدعم الذي قدمته باكستان للرياض في حادثة احتلال الحرم المكي الشريف عام 1979 على يد مسلحين، كما نشرت باكستان قواتها لحماية السعودية في أثناء حرب إيران والعراق، يضاف الى ذلك أن العلاقات الشخصية بين قادة البلدين والسياسية والأمنية قوية جداً، فعندما عزل رئيس الحكومة الحالي نواز شريف من منصبه عام 1999 وجد في السعودية منفى مريحا، حتى سُمح له بالعودة إلى بلاده عام 2007. وكان للملف النووي دور بارز في تعزيز العلاقات إذ قدمت المملكة لباكستان دعماً مادياً سخياً من أجل صناعة “قنبلة نووية إسلامية”. ويذكر أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات على باكستان نتيجة إجرائها تجارب نووية، لكن الرياض قدمت الدعم المادي اللازم لباكستان لتخفيف أثر العقوبات، إذ منحتها بالإضافة إلى المال نفطاً خاماً. وعليه، ترجح التقديرات أن الدعم السعودي لباكستان في بناء قدراتها النووية يعني أن الأخيرة ستستجيب للسعودية عند طلبها الاستعانة بقدرات باكستان النووية أو التقليدية.

إلا أن رياح السياسة الباكستانية سارت بما لا ينسجم مع التوجهات السعودية عندما رفضت الانخراط في التدخل العسكري في اليمن بأي شكل من الأشكال. وعلى الرغم من التحالف التاريخي بين البلدين، قررت باكستان عدم الانضمام إلى التحالف العربي لمحاربة المد الحوثي في اليمن، والذي يتلقى دعماً من إيران. وكان من بين أسباب الرفض التخوف الباكستاني من التوترات الطائفية بداخلها، لكونها تضم نسبة كبيرة من الشيعة المتأثرين بإيران، إلى جانب سعي باكستان للحفاظ على علاقتها الاقتصادية مع إيران خاصة من ناحية الملف الثقيل المتعلق بأزمة الكهرباء، كما أن الجيش الباكستاني مشغول بحماية ومراقبة حدوده مع الهند وأفغانستان، ويبدو أنه لم يكن معنياً بفتح جبهة جديدة. هذا إلى جانب المصلحة المشتركة بين إيران وباكستان في قمع الحركة الانفصالية البلوشية الناشطة في كلا البلدين.

 لذا تحاول باكستان المحافظة على علاقاتها الاستراتيجية مع السعودية البلد الذي فتح أبوابه للآلاف من العمال الباكستانيين وقدم دعما تاريخيا لإسلام آباد. إلا أن النظام الإيراني الذي يسعى للتوغل في المنطقة ويستهدف الأمن القومي لدول الخليج العربي والمشرق العربي يضع باكستان في مهمة صعبة تتطلب التوازن بين روابطها المشتركة مع السعودية، وبين ما تفرضه من ضغوط اقتصادية ونعرات طائفية تعرقل تحالفها مع الرياض.

أما بالنسبة لمصر، يحاول النظام الإيراني توظيف التوتر القائم في العلاقات التاريخية المصرية السعودية بما يخدم مصالحه، وقد بدا هذا التوتر حينما صوت مندوب مصر في مجلس الأمن الدولي في تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي على مشروع القرار الذي ينسجم مع المصالح الروسية في سوريا. فالتصويت قد سلط الضوء على التباين في وجهتَي النظر المصرية والسعودية تجاه الصراع السوري. فالرياض تتخوف من أن يؤدي صمود بشار الأسد إلى توطيد قوة خصمها الرئيس النظام الإيراني، بينما تتخوف القاهرة من التنظيمات الإسلامية السنية الأشد انخراطاً في القتال ضده، انطلاقاً من حذرها من معاركها الخاصة ضد التنظيمات الإسلامية (مع أن عدد القتلى المترتب على هذه المعارك الأخيرة أقل بكثير). وكانت القاهرة صريحة بشأن هذا التباين في وجهات النظر الاستراتيجية، إذ قال وزير خارجيتها سامح شكري بعد لقائه بنظيره الإيراني خلال أيلول/سبتمبر  الماضي إنّ “التحالف الذي يخوض الحرب في سوريا قد يرغب في تغيير النظام في البلاد، ولكن هذا ليس موقف مصر”.

وإزاء ذلك لم يتأخر الرد السعودي على هذا الموقف المصري إذ أبلغت الهيئة العامة للبترول شفهيًا مطلع تشرين الثاني/ أكتوبر الماضي بالتوقف عن إمدادها بالمواد النفطية. فالقرار السعودي سواء جاء على خلفية الأزمة الدبلوماسية بين الدولتين، أو على خلفية الأزمة الاقتصادية تواجهها الرياض، ففي جميع الحالات، لا يمكن إنكار أن العلاقات بينهما خلال الفترة الأخيرة سادها التوتر والفتور، فعوضًا عن الملف اليمني الذي توقعت فيه السعودية دعمًا أكبر من القاهرة، تأتي اتفاقية جزيرتي تيران وصنافير اللذين حكمت المحكمة ببطلانها. ويأتي مؤتمر جروزني الذي حضره 200 عالم سني من مختلف الدول العربية والإسلامية وتم تنظيمه في الشيشان، ضمن معطيات الأزمة؛ خاصة بعدما أثار غضب السعودية بسبب استثناء علمائها منه، حيث حضر المؤتمر وفد مصري برئاسة شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، ومفتي مصر، شوقي علّام، ومستشاري الرئيس، علي جمعة، وأسامة الأزهري، الأمر الذي أثار انتقادات قاسية خرجت من أوساط سعودية.

ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد، دخل النظام الإيراني على خط الازمة الدبلوماسية بين مصر والسعودية، عبر البوابة العراقية، فمن أجل تفادي مصر أزمة توقف الإمدادات النفطية السعودية،  اتجهت مصر صوب العراق إذ وافق الأخير على تزويدها بالنفط مقابل مشتقات نفطية ودفعات سلاح وذخيرة مصرية، وبمباركة إيرانية وقّع العراق هذا الاتفاق خاصة أن ملف النفط بات أحد أبرز ظواهر تبعية بغداد للنظام الإيراني، وظهر ذلك أخيرا في اجتماعات منظمة الدول المصدرة لنفط (أوبك) ومساعي خفض الإنتاج. فقرار منح العراق نفطا لمصر يعد قراراً سياسيًا أكثر من كونه اقتصادياً وجاء رداً على السعودية قبل كل شيء، مما لاشك فيه أن الخلاف السعودي المصري لا يخدم القضايا العربية بل بالعكس يزيدها تأزيما كما يصب في مصلحة النظام الإيراني الذي يتنفس الصعداء حينما يرى دولتين عربيتين محوريتين كمصر والمملكة العربية السعودية في حالة شقاق و قد يعمل على تغذيته بكل الوسائل الممكنة، وبهذا المستوى لن يكتف النظام الإيراني في تحييد مصر في صراعه مع المملكة العربية السعودية بل سيستخدم جميع اوراقه الدبلوماسية والاقتصادية سواء بطرق مباشرة أو غير مباشرة لكسب هذا الثقل العربي لجانبه. وهذا التقارب الإيراني – المصري إن تحقق فإنه يعني انكشافًا عربيًا لا مثيل له أمام النظام الإيراني في تاريخنا المعاصر. ويؤسس لمرحلة جديدة من الصراع والمواجهة.

 وأمام هذا الصراع الصفري في العلاقات السعودية – الإيرانية، نستطيع أن نجمل خيارات النظام الإيراني في المشرق العربي، بناء على متغيرات أساسية في المحددات الاقتصادية والسياسية والمذهبية، لعلاقته بين مختلف دول الإقليم، ويمكن إجمالها كالآتي:

أولاً- المحدد الاقتصادي: في ظل انخفاض أسعار النفط، ومحاولة حسن روحاني الرئيس الإيراني تنويع مصادر الدخل، في ظل الإنفاق المتزايد على الحرب السورية، التي ينفق فيها النظام الإيراني ما نحو 6 مليار دولار سنويًّا، فإن الدولة الإيرانية ستدخل في حالة من تعثر الاقتصاد، ولا سيما أن قطاعات كاملة-بعد سنوات من العقوبات الاقتصادية- بحاجة إلى ضخ أموال وفيرة فيها، لتقف على قدميها مرة ثانية، وعلى رأسها صناعة النفط ذاتها التي تحتاج إلى تحسين بنيتها التحتية، والإنفاق على عدد من مصافي وتكرير النفط، لسد العجز في هذا القطاع المهم، وكذلك فإن احتياطات النفط الصخري في الولايات المتحدة الامريكية وكندا، ودخول دول جديدة في المنافسة على تصدير الغاز إلى أوروبا ولا سيما في حقول شرق البحر المتوسط ستسبب ضغطاً كبيرًا على الاقتصاد الإيراني الذي يعتمد بصورة أساسية على النفط والغاز، بالاضافة إلى أن الحليف الأكبر للنظام الإيراني وهو الاتحاد الروسي، يعاني اقتصادياًّ هو الآخر. لذا فإن البعد الاقتصادي سيكون حاكماً في القرار السياسي الإيراني فيما يتعلق بنفوذها في الإقليم، واستمرار دعم بشار الأسد.

ثانيا- تحول التحالفات الإقليمية: هدف روسيا من وجودها في سورية هو المحافظة على قواعدها العسكرية، والترويج لأسلحتها المتقدمة للحفاظ على حصتها في سوق السلاح العالمية، استخدام الورقة السورية لإعادة تأكيد أهميتها السياسية على المسرح الدولي، لذلك فإن روسيا تعدّ الحجر الزاوية في إستراتيجية النظام الإيراني الحالية للهيمنة على الإقليم، باستخدامه روسيا هراوةً لا تملكها ضد معارضي الرئيس السوري بشار الأسد، ولكن روسيا تستطيع في أي وقت مقايضة بشار الأسد بصفقة مع حلف شمال الأطلسي تتعلق بمنظومة الدرع الصاروخي الغربي الذي يهددها، وكذلك قبول حلف شمال الأطلسي ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وتعلم روسيا أن النظام الإيراني سيظل إلى وقت قصير تابعًا لها فيما يتعلق بتصدير السلاح، كما أنها تستطيع أن تحافظ على قواعدها في سورية في ظل أي اتفاق مع كل من القوى الغربية والإقليمية كذلك، وعلى رأسها الخليج العربي وتركيا، فروسيا من الممكن أن تتخلى عن بشار الأسد شريطة المحافظة على مصالحها العسكرية والاقتصادية في مرحلة ما بعده.

ثالثاً- تحول الأوضاع المشتعلة بين السنة والشيعة إلى حرب طائفية واسعة، والمحدد الحاكم لهذا الاحتمال هو إخفاق محادثات “أستانة”، وتصاعد الحرب الطائفية في الإقليم، بعد دحر تنظيم داعش وانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الإقليم مرة ثانية، ويصاحب ذلك انسحاب روسي، باعتبار أن روسيا لا تتحمل استنزاف قواتها، والبقاء في مثل تلك الأوضاع دون سقف زمني، وكذلك دون القدرة على حسم الأوضاع على الأرض بصورة نهائية لصالح بشار الأسد. وإن انسحاب القُوى الكبرى من الإقليم ربما سيؤدي إلى اشتعال حرب بين السنة والشيعة، وبدلاً من أن تكون حرب بالوكالة بين الطرفين، فإن اشتعال حرب يمكن أن يؤدي إلى تدخل عسكري بري من قوات التحالف الإسلامي من الجنوب، وبتدخل مشابه من الشمال للقوات التركية. وهذا لن يصب في مصلحة النظام الإيراني الذي لن يتحمل مواجهة تحالف سني يمتلك أحدث الأسلحة الغربية، وعدداً هائلاً من القوات البرية، كما أن استدعاء الصراع السني – الشيعي سيحفز مشاعر المسلمين حول العالم للتطوع في تلك الحرب الدينية، التي من المتوقع أن تكون نتائجها كارثية على الجميع.

نلحظ من هذه الخيارات أنها خيارات بمجملها سلبية، ولا تخدم دول إقليم الشرق الأوسط وشعوبها فمع هذه الخيارات لا معنى للسلام والاستقرار والرفاهية لتلك الدول وشعوبها، وإنما هناك مزيد من الفوضى والتشرذم، والانقسام والدخول في أتون حروب طائفية ومذهبية تذكرنا بذات الحروب التي عاشتها أوروبا في القرن السابع وعشر،  والتي كانت حصيلتها الكلية الخسارة للجميع. وهنا نتساءل ما الأفضل للنظام الإيراني والدول القائدة في المنطقة؟ التعاون والتنافس أم الصراع؟

ونرى أن الخيار الأمثل للنظام الإيراني ولدول الإقليم كافة هو العودة إلى حدود التعاون المشترك، وهنا تبرز أهمية الدولة التركية التي تتعامل مع النظام الإيراني بنفعية”برغماتية” كبيرة، وأنشأت معه مجلس تعاون تركي – إيراني، حيث تمثل تركيا فيما يبدو الشرطي الطيب في العلاقة مع النظام الإيراني، بينما تقمصت المملكة العربية السعودية في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز دور الشرطي الشرس، وذلك من أجل دفعه إلى التراجع عن إستراتيجيته الهدّامة، انطلاقاً من فكر مذهبي، الذي يهدف إلى تصدير ثورة أخفقت إخفاقاً كبيراً في الالتزام بأدبياتها، وأخلاقيتها في مختلف مناطق الصراع في المشرق العربي.

معمر فيصل خولي

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية