المشهد السوري بعد أستانا

المشهد السوري بعد أستانا

ما إن تمّ التوصل إلى اتفاق أنقرة لوقف إطلاق النار بين روسيا وفصائل من المعارضة السورية المسلحة، في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2016، حتى دعت موسكو إلى اجتماع أستانا (كازاخستان)، وقد سبقت الإشارة في بنود اتفاق أنقرة إلى أنّه سيُعقد خلال شهرٍ من تاريخ سريان الهدنة وحال الالتزام بها. عُقد الاجتماع في 23 – 24 يناير/ كانون الثاني 2017، على الرغم من الخرق الذي نفّذه النظام وحلفاؤه من المليشيات المدعومة إيرانيًا، وخصوصاً في محيط مدينة دمشق (وادي بردى، والغوطة الشرقية)، ومدينة محجة في ريف درعا الشمالي، وغيرها. وقد اقتصرت دعوة الراعيَين، الروسي والتركي، على وفد فصائل المعارضة المسلحة التي وقّعت اتفاق أنقرة، ووفد النظام السوري. أمّا الهدف من ذلك، فهو تثبيت وقف إطلاق النار وتنفيذ بقية بنود الاتفاق، وفي مقدمتها إدخال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة وإطلاق سراح المعتقلين والأسرى. وقد حضرت الولايات المتحدة الأميركية بصفة “مراقب”، واقتصر تمثيلها على سفيرها لدى كازاخستان. وتسبّب اعتراض طهران على دعوة موسكو الإدارة الأميركية لحضور الاجتماع بامتعاض روسي، جرى التعبير عنه علنًا من الكرملين، كما حضر المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، بعد أن أعلن سابقًا أنّه سيكتفي بإرسال ممثّل عنه لحضور الاجتماع.

جدل حول الدور الإيراني
حضرت الأطراف جميعُها مراسمَ افتتاح الاجتماع. ولكنْ، لم تُعقد محادثات مباشرة بين وفدَي

المعارضة والنظام، بل كان التفاوض يجري عبر المبعوث الأممي والراعيين التركي والروسي. ولم تُبدّد محاولة الروس إثارة أجواء من التفاؤل قبل الاجتماع حالةَ التوتر التي سادت طوال عقْد المؤتمر. وقد تمثّلت أسباب التوتر في محاولة إيران فرض نفسها بوصفها راعيًا للاجتماع إلى جانب كلٍّ من روسيا وتركيا، في حين كانت مليشياتها (حزب الله تحديدًا) مستمرةً في خرق الهدنة على الأرض، وقصف قرى وادي بردى وبَلداتها؛ في محاولة لاقتحامها والسيطرة عليها.
حاولت إيران استخدام اجتماع أستانا للخروج من حال العزلة التي وجدت نفسها فيها، مع تحفظها عن الجهد التركي – الروسي لإيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية، وقد بدأت باتفاق إخراج المعارضة السورية من حلب في منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2016، واستمرت في تسجيل اعتراضها على تمثيل وفد الفصائل المسلحة في اتفاق أنقرة لوقف إطلاق النار، عادّةً إياها فصائل إرهابيةً. وتأكيدًا لرفض مساعي إيران تقديم نفسها جزءًا من الحل في سورية، تحفَّظ وفد المعارضة عن عَدِّ إيران ضامنًا لأيّ اتفاق مع النظام، لأنّها طرفٌ في الصراع، وجزءٌ من المشكلة. كما رفض وفد المعارضة مناقشة أيّ موضوعٍ، باستثناء ما كان واردًا في جدول الأعمال (تثبيت وقف إطلاق النار، وإغاثة المناطق المحاصرة، وإطلاق المعتقلين)، خشية نجاح محاولات الالتفاف على دور الهيئة العليا للمفاوضات، أو تحويل أستانا نفسها إلى بديلٍ من عملية جنيف التي تُعَدّ مرجعية الحل المقبولة بالنسبة إلى المعارضة. وعلى الرغم من أنّ اجتماع أستانا لم يحقق للمعارضة المسلحة أهدافها، ولا سيما في ما يتصل بالحصول على التزامٍ قاطعٍ وفوري بوقف كل الأعمال القتالية على الأراضي السورية، باستثناء ما يخصّ منها تنظيم الدولة، فقد تمثّل مكسبها الأكبر في انتزاعها اعترافًا من النظام وحلفائه بشرعية تمثيلها، بعد أن ظلّ الروس والإيرانيون يصرّون على وصمها بالإرهاب، وخصوصًا أنّ هذه المناسبة أوّل مناسبة تُدعى فيها فصائل المعارضة المسلحة للمشاركة في جهد الحل السياسي.

مفاجأة الدستور
كان الاجتماع كلّه مخصصًا لمناقشة سُبل تثبيت وقف إطلاق النار، بوصف ذلك خطوةً أساسيةً نحو استئناف مسيرة الحل السياسي في جنيف التي أعلن المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا

عن إمكان استئنافها في 8 فبراير/ شباط 2017، غير أنّ الراعي الروسي فاجأ الجميع بطرحه مسودة دستور سوري، عكف على إعداده خبراء من الروس، بوصفه يمثّل مدخلًا إلى حلّ الأزمة التي تعصف بالبلاد منذ ستّ سنوات. وقد بدا واضحًا، من طرح الدستور، وجود محاولة روسية للتوصل إلى تسوية، بعيدًا عن مرجعيات جنيف، ووجود مسعىً لاحتكار الحل في إطار الصيغة الثلاثية التي ظهرت في أستانا (تركيا – روسيا – إيران)، في ظل انشغال الولايات المتحدة بعملية انتقال السلطة وتعيينات إدارة دونالد ترامب، إضافةً إلى تراجع الاهتمام الدولي بالشأن السوري، ووجود ما يشبه التسليم بدور روسيا القيادي في حلّ الأزمة السورية. كما بدا واضحًا، من خلال بعض بنود الدستور المقترح، وجود محاولةٍ روسيةٍ لاستمالة جزء من المعارضة (العسكرية خصوصاً)؛ وذلك من خلال إضعاف موقع رئاسة الجمهورية، بوصفه يمثّل مدخلًا إلى الحلّ. فقد نَصّت المادة 44 من مسودة الدستور الروسية المقترحة على أن يتولى مجلس النواب (البرلمان) الاختصاصات الآتية: إقرار مسائل الحرب والسلام، وتنحية رئيس الجمهورية، وتعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا، وتعيين حاكم المصرف المركزي السوري وإقالته. كما شدّدت المسودة على عدم جواز استخدام القوات المسلحة لغير الأغراض التي أُنشئت لها، إذ نص البند الرابع من المادة العاشرة على أن “تكون القوات المسلحة وغيرها من القطعات المسلحة تحت رقابة المجتمع”، وأن تنحصر مهمتها في حماية سورية وضمان وحدة أراضيها، وألا تستخدم ضد المواطنين السوريين، وألّا تتدخل في الشأن السياسي، وألّا تلعب دورًا في عملية انتقال السلطة”.
رفضت المعارضة مناقشة مسوّدة الدستور، بالنظر إلى أنّ وضع الدستور شأنٌ يقرّره الشعب السوري، ويكون نتيجةً للشروع في عملية سياسية، وليس مقدمةً لها، فضلًا عن أنّ المعارضة المسلحة غيرُ مخولةٍ بشأن الحديث في هذا الموضوع السياسي، في ظلّ غياب الهيئة العليا للمفاوضات. أمّا النظام الذي طالما أبدى حساسيةً مفرطةً تجاه مسائل السيادة، فلم يعلّق علنيًا على الطرح الروسي.

بيان أستانا
بالتوازي مع طرح مسودة الدستور، أقرّ البيان الختامي لاجتماع أستانا إنشاء آليةٍ ثلاثيةٍ لمراقبة احترام الهدنة، تتكون من الدول الضامنة لوقف إطلاق النار، على أن تبدأ عملها في أستانا في

مطلع فبراير/ شباط 2017، تمهيدًا للانتقال إلى جنيف، واستئناف مسيرة الحل السياسي. وقد سجلت الفصائل تحفظها عن مشاركة إيران في هذه الآلية. كما دعا البيان إلى ضرورة التطبيق السريع لكل الخطوات المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن رقم 2254 عام 2015، بما في ذلك وصول المساعدات الإنسانية للمحاصرين. وشدّد على “وحدة أراضي سورية كدولة متعدّدة الأديان والثقافات”، وأكد إصرار مُوقّعي البيان الختامي على قتال جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقًا)، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وفصلهما عن بقية فصائل المعارضة المسلحة التي تمّت دعوتها إلى المشاركة في محادثات جنيف للتسوية، إلى جانب المعارضة السياسية.

استقطاب بين الفصائل
لم تتأخر تداعيات اجتماع أستانا عن الظهور على الأرض، في شكل استقطابات حادّة بين الفصائل التي شاركت في الاجتماع والفصائل التي رفضته و”خوّنت” المشاركين فيه. ولم تلبث أن تطورت إلى صدامات مسلحة، عندما وجّهت جبهة فتح الشام ضربة استباقية إلى فصائل المعارضة التي شاركت في أستانا، بناءً على شكوكٍ في حصول اتفاقٍ على ضربها، تكون فصائل أستانا جزءًا منه. وكان المسؤولون الروس قد غذَّوا هذه الشكوك، من خلال زعمٍ مُفاده حصول استلامٍ وتسليمٍ لخرائط توضح أماكن وجود عناصر جبهة فتح الشام، تزامنت مع ضرباتٍ جوية سقط فيها مئات منهم، وهو أمرٌ عدّته “فتح الشام” بدايةً لعملية التخلص منها.
وكانت الخلافات قد أخذت تتفاعل قبل ذلك بين “فتح الشام” تحديدًا وبقية فصائل المعارضة. وقد انفجرت هذه الخلافات حربًا كلاميةً بعد معركة حلب؛ إذ اتهمت بعض الفصائل الجبهة بمسؤوليتها عن سقوط المدينة وتشريد أهلها، عندما رفضت، على الرغم من قلة عدد مقاتليها في حلب، عرضًا بمغادرة الجزء الشرقي من المدينة، في مقابل وقف الهجوم الروسي عليها. وقد بلغ الاستقطاب أشدّه بين الجبهة وحلفائها من جهة، وبقية فصائل المعارضة السورية من جهة أخرى؛ وذلك بحصول عمليات اندماج وتمايز بين معسكرين كبيرين متقابلين. فبعد أقلّ من أسبوع على اختتام اجتماعات أستانا، أعلنت كل من جبهة فتح الشام، وحركة نور الدين زنكي، ولواء الحق، وجبهة أنصار الدين، وجيش السنّة، عن اندماجها في جسم عسكري واحد أُطلق عليه اسم “هيئة تحرير الشام”. وقد سبق تشكيل هذه الهيئة انضمام فصائل مختلفة في ريفَي حلب وإدلب إلى حركة أحرار الشام، أبرزها “ألوية صقور الشام” و”جيش الإسلام” (قطاع إدلب)، و”جيش المجاهدين” و”تجمع فاستقم كما أمرت”، و”الجبهة الشامية” (قطاع ريف حلب الغربي)”، طلبًا للحماية؛ بالنظر إلى نزاعاتٍ تطورت إلى اشتباكاتٍ دامية مع فتح الشام؛ بسبب مشاركة بعض هذه الفصائل في أستانا والقبول بمخرجاتها، ما يعني أنّ المشهد المعارض السوري أخذ يتبلور بوضوح بين كتلتين كبيرتين ومشروعين متمايزين: الأول جهادي أممي تقوده “فتح الشام” وتحاول فرض نمط حياة معيّن على المجتمع السوري المحلي، حتى قبل التخلص من النظام القائم، والثاني وطني سوري، يقوده “أحرار الشام”، ويرى أنّ القضية الرئيسية هي التخلص من نظام الحكم.

مناطق ترامب الآمنة
إلى جانب تحوّل روسيا إلى لاعب رئيس في المشهد السياسي والميداني السوري، بدا لافتًا للنظر ضعف الدور الأميركي الذي عبّر، هو نفسُه، عن هذا الضعف بوضوحٍ في اجتماع

أستانا، فقد اكتفت الولايات المتحدة بالحضور بصفة “مراقب”، في حين تولّت روسيا، إلى جانب المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، الدور الرئيس في الوساطة بين أطراف النزاع السوريين. لكنّ هذا الغياب لم يستمر طويلًا، إذ عاد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في أسبوع حكمه الأول لطرح قضية إنشاء مناطق آمنة في سورية، من منطلق أنّ ذلك يمثّل حلًا لقضية اللاجئين، وهو أمرٌ كانت إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، ترفضه باستمرار. وقد طلب ترامب من وزارتي الدفاع والخارجية وضع خطةٍ لإنشاء مناطق آمنة داخل سورية في غضون 90 يومًا. ولم يُخفِ الروس استياءهم من هذا الطرح الذي جاء بمنزلة تشويشٍ على جهدهم، فقد بدَوا في أستانا مستفردين بوضع أُسس الحل السوري، سواء عبر نجاحهم في جمع الأطراف العسكرية السورية الفاعلة على الأرض، أو ترويج رؤيتهم لماهية الحل الذي ينشدونه في سورية.

خاتمة
شكّلت أستانا محطةً أخرى من محطات تسوية الأزمة السورية، وعلى الرغم من أنّ روسيا بدَت مهتمةً أكثر من أيّ وقت مضى باجتراح حلّ يُعزّز مكاسبها وموقعها على الساحة السورية، فإنّ عقبات كثيرةً مازالت تعترض الوصول إلى تسويةٍ تنهي الصراع، أبرزها موقف إيران، ومعها النظام السوري المعارض لوقف إطلاق النار، وهو موقفٌ يحاول إقناع روسيا بضرورة الحسم العسكري وإمكانيته. فإيران والنظام السوري يعملان على تجميع المعارضين لهما من محيط دمشق في إدلب (حيث تختلط “النصرة” بغيرها) آملَين أن تقوم روسيا أو التحالف الدولي بتصفيتهم بحجة عدم شمول الهدنة للإرهابيين. وثمة عوامل أخرى، لم يتضح تأثيرها بعدُ؛ منها ما سيكون عليه موقف إدارة ترامب، وما سوف تسفر عنه حال الاستقطاب بين فصائل المعارضة السورية التي بات لزامًا عليها اتخاذ موقفٍ حاسمٍ تجاه المشاريع التي لا تخدم المشروع الوطني السوري، والتي تضعه في مواجهةٍ مع الموقف الدولي، والتي تطيل من عمر نظام الطغيان. ويبدو أنّه من المهم، في هذه المرحلة تحديدًا، أن تُعيد قوى الشعب السوري الحية (السياسية والأهلية والفصائل المسلحة) تأكيد أنّ أيّ تسويةٍ لا بدّ أن تشمل التخلص من النظام القائم والانتقال إلى نظام ديمقراطي مدني تعدّدي في سورية موحدة. فوضوح الموقف وثباته ضروريان في ظل تداخل العوامل الإقليمية والدولية، وتشابكها، وتعدّد منصّات الحوار والتفاوض.

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات