تركيا: ضغط العامل الأمني ومأسسة العلاقات مع روسيا

تركيا: ضغط العامل الأمني ومأسسة العلاقات مع روسيا

في التاسع من يناير/كانون الثاني 2017 قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال خطابه في المؤتمر التاسع للسفراء الأتراك: “إن عام 2016 كان من أكثر الأعوام كثافة في عمل السياسة الخارجية التركية، وإن عام 2017 ستكون أجندته كثيفة أيضًا”(1).

وبالفعل كان عام 2016 -الذي افْتُتِح في يناير/كانون الثاني 2016 بتفجير لتنظيم داعش في ساحة جامع السلطان أحمد بإسطنبول، وشهد 30 عملية وهجوم، واخْتُتم بحادثة الهجوم على ملهى ليلي في إسطنبول أيضًا، وفي الهجومين، الأول والأخير، كان أغلب الضحايا من السياح الأجانب، والعام أيضًا كان حافلًا على مستوى السياسة الخارجية التركية على الأقل في نصفه الثاني؛ ففي مايو/أيار 2016 قدَّم رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو -الذي عُرف بأنه مهندس السياسة الخارجية التركية- استقالته، وأصبحت تركيا كأنها تحت نظام رئاسي بالأمر الواقع.

تسارعت الأحداث أكثر فأكثر تحديدًا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 من يوليو/تموز 2016؛ التي دخلت معها تركيا حالة الطوارئ، والتي أعقبها توتر في العلاقات التركية الغربية بسبب ردة الفعل الغربية (الأميركية والأوروبية) تجاه تركيا، وقد بدأت تركيا بعد حادثة الانقلاب الفاشلة بأربعين يومًا عملية “درع الفرات” في أغسطس/آب 2016، ثم دخلت في أزمة علنية مع الحكومة العراقية، لتكون أنقرة بعد ذلك على موعد مع استقبال سفير إسرائيلي جديد في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 تتويجًا لاتفاقية التطبيع، وفي نوفمبر/تشرين الثاني أيضًا قام أردوغان بزيارة أوزبكستان بعد 13 سنة من آخر زيارة.

وبالتزامن تزايد التوتر مع الاتحاد الأوروبي بعد توصية البرلمان الأوروبي بتجميد مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد، وقد جاء ذلك بعد عودة العلاقات مع روسيا، التي تقاربت معها أنقرة مجدَّدًا، وقد زار بوتين أنقرة في أكتوبر/تشرين الأول 2016 لأول مرة بعد حادثة إسقاط الطائرة، وجاءت زيارته بعد أول زيارة خارجية لأردوغان بعد المحاولة الانقلابية لموسكو، وقد عمل البلدان معًا جنبًا إلى جنب في التنسيق لإخراج 45 ألف سوري من حلب مرورًا بتجاوز عملية اغتيال السفير الروسي في أنقرة في ديسمبر/كانون الأول 2016، وصولاً إلى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الشامل في سوريا، وإطلاق مفاوضات الأستانة، وفيما يتعلق بهذه المفاوضات قال الرئيس أردوغان: “إن الدبلوماسية التركية عملت ليل نهار، وأملًا في تحقيق حل سياسي في 2017 أقدمنا على خطوات تاريخية”(2). تُشير العبارة الأخيرة إلى تحولات جدية؛ خاصة فيما يتعلق بالملف السوري.

افْتُتِح عام 2017 أيضًا بتطورات مهمة في عملية التفاوض بشأن المسألة القبرصية، وببدء حوار مباشر مع الحكومة العراقية، وبحضور قضية التعديل الدستوري نحو النظام الرئاسي، وتجهز الرئيس أردوغان لزيارة أربعة بلدان إفريقية لأول مرة، ولمزيد من الخطوات التطبيعية المتبادلة مع إسرائيل، فيما يستمر التنسيق التركي مع روسيا في عملية متابعة وقف إطلاق النار في سوريا وفي عملية درع الفرات؛ لهذا فإننا أمام ملمح مهم وواضح؛ وهو كثافة شديدة لأجندة السياسة الخارجية التركية.

وبعد هذا الاستعراض السريع تحاول الورقة أن تقف بشيء من التفصيل والتحليل على بعض ملفات السياسة الخارجية التركية من أجل استخراج مواطن التحول فيها خلال المرحلة السابقة والحالية.

العلاقات التركية الروسية وتفاعلاتها

كانت إحدى أهم سمات السياسة الخارجية لتركيا في عهد حزب العدالة والتنمية هي “أنه على تركيا ألا تتعامل مع الكتلة الغربية كخيار وحيد؛ بل عليها أن تحاول دفع شراكة استراتيجية مع لاعبين آخرين”(3)؛ ولكن تركيا وجدت نفسها أمام اختلافات كبيرة مع القوى الغربية بعضها يمسُّ أمنها القومي؛ مثل تمكين إقامة كيان كردي شمال سوريا؛ مما أدى إلى إحداث تغيير في أولويات تركيا التي تواجه تهديدات مباشرة من ثلاث منظمات تعتبرها إرهابية؛ هي: حزب العمال الكردستاني، وجماعة غولن، وتنظيم داعش، وقد أبدت موسكو تفهُّمًا لمخاوف تركيا أكثر من واشنطن والعواصم الأوروبية، كما أن روسيا بحاجة إلى الخروج بنهايات أقل تكلفة من خلال العمل مع تركيا في الملف السوري.

لهذا تعزَّز تقدم تركيا نحو روسيا انطلاقًا من هذه السمة، ومن التفهم الروسي لمخاوفها، وعلى الرغم من الخلاف حول عدة ملفات؛ مثل: الملف السوري، وملف شبه جزيرة القرم.. وغيرها، وقد أدارت تركيا في السابق علاقات جيدة مع روسيا من خلال نقاط الالتقاء؛ مثل العلاقات الاقتصادية؛ ولكن العلاقات تعرضت للتوتر عند التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، واختراق المجال الجوي التركي، الذي كانت تركيا عنده على موعد مع أزمة كبيرة مع روسيا بعد إسقاط مقاتلات تركية لطائرة سوخوي روسية في 24 من نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وسَبَّب ذلك حينها عددًا من المشاكل أدَّت إلى مزيد من المحدودية في الخيارات؛ ومن ذلك إحباط أي تفكير لتركيا بالتدخل في شمال سوريا، ورفع فرص إقامة الكيان الكردي؛ ولكن تركيا التي أدركت مخاطر ذلك عملت بقدر استطاعتها حتى نجحت في استعادة العلاقة في يونيو/حزيران 2016 بعد عدة محادثات ووساطات لتعلن عن أسفها عن حادثة إسقاط الطائرة الروسية(4).

وقد تزايد التقارب التركي الروسي مع فشل المحاولة الانقلابية في تركيا في 15 من يوليو/تموز 2016؛ خاصة عند مقارنة تركيا بين الموقف الغربي (الأميركي والأوروبي) والموقف الروسي تجاه المحاولة الانقلابية، التي تعتبرها تركيا مرحلة فاصلة في تاريخها السياسي؛ لتجد أن الموقف الروسي تقدَّم على الموقف الأوروبي في مساندة القيادة التركية، وتفهمه لمخاوفها، وإعلانه دعم موقفها في مواجهة المحاولة الانقلابية، كما تقدَّم على الموقف الأميركي الذي تشتبه تركيا في وقوفه خلف المحاولة، أو علمه بها على الأقل، فضلاً عن رفض واشنطن “إدارة أوباما” التجاوب مع مطالب تركيا بتسليم فتح الله غولن المتهم بتخطيط المحاولة الانقلابية.

تطوَّر الموقف عندما أعلنت تركيا عن بدء عملية درع الفرات شمال سوريا انطلاقًا من جرابلس، ووصولًا إلى مشارف مدينة الباب حتى الآن، وما كان للعملية أن تبدأ لولا وجود ضوء أخضر وتفاهمات مع روسيا، وقد ظهر هذا جليًّا في قصف سلاح الجو الروسي أهدافًا لتنظيم داعش جنوب مدينة الباب في ظل الوجود العسكري التركي هناك؛ مما يدلل على أن الأمر الذي انطلق من حل أزمة إسقاط الطائرة الروسية تجاوز التنسيق المباشر على مستوى العمليات بين الطرفين إلى مستوى تقديم الدعم، الذي ما زالت تمتنع الولايات المتحدة وحلف الناتو عن تقديمه، وقد صرَّح الرئيس التركي بأن بلاده لا تتلقَّى الدعم الكافي من قوات التحالف الذي تقوده واشنطن؛ بل ذهب إلى أبعد من ذلك لاتهام التحالف بدعم داعش ووحدات الحماية الشعبية الكردية مهددًا بقطع العلاقات مع التحالف”(5).

أبدى الأتراك استغرابهم الشديد من الموقف الأميركي الذي أوقف الدعم اعتبارًا من بدء عملية الباب في 9 من ديسمبر/كانون الأول 2016 حتى الآن(6)، علمًا بأنه كان هناك دعم جوي محدود مع بداية عملية درع الفرات في جرابلس ودابق؛ مما يعني أن الإدارة الأميركية كانت موافقة على تقديم الدعم فقط في مسافة 20 كيلومترًا داخل الحدود السورية، كما أن تأجيل واشنطن لعملية الرقة أغضب أنقرة؛ لأن هذ القرار جعل عناصر داعش يقومون بتحصين مدينة الباب بشكل أكبر(7).

قادت هذه التطورات إلى تهديد مبطَّن من تركيا جاء على لسان وزير خارجيتها؛ الذي قال: “إن إغلاق قاعدة أنجرليك ليس على أجندتنا؛ ولكن الدول الموجودة إذا لم تساعدنا في الحرب على داعش فليس هناك معنى لوجودها”(8). وردًّا على هذا أعلن الناطق باسم قوات التحالف الدولي العقيد جون دوريان أن واشنطن تنسق مع أنقرة بخصوص عملية تحرير الباب، ولها دور في عملية الطلعات الجوية الاستكشافية لمواقع داعش، فيما أعلن مسؤول سابق في تصريح متناقض أن واشنطن مستعدة لتقديم الدعم لأنقرة في عملية الباب بشروط؛ منها: عدم التعرض لقوات حزب الاتحاد الديمقراطي(9). وهذا يوحي بأن واشنطن لن تتخلَّى عن حزب الاتحاد.

قامت موسكو -أيضًا- باستغلال الأسابيع الأخيرة من فترة أوباما لاستعراض قوتها الدبلوماسية؛ فقد أسفر التعاون التركي الروسي في ظل حالة من التفرج الأميركي الأوروبي عن عملية إخلاء مجموعات المعارضة من حلب إلى إدلب، بدت كأنها تنازل تركي لروسيا في مقابل سماحها بتقدُّم عملية درع الفرات، وقد بدا واضحًا من خلال التصريحات التركية أن هناك تفاهمات حول تراجع الأتراك عن المطالبة بتنحي الأسد، وتأكيدهم على وحدة وسيادة الأراضي السورية. كان هذا مقدمة للاتفاق الثلاثي الذي وَقَّعت عليه تركيا وإيران وروسيا في 20 من ديسمبر/كانون الأول 2016 لوقف إطلاق النار في جميع أنحاء سوريا؛ الذي بدأ تنفيذه في 30 من ديسمبر/كانون الأول 2016، بضمانة موسكو وأنقرة، وكان مقدمة لمحادثات الأستانة؛ التي التزم بها نظام الأسد -أيضًا- حتى إن روسيا -التي لا تريد أن تُضَيِّع هذه الفرصة في التوتر الموجود بين تركيا والغرب- تجاوزت بسرعة موضوع اغتيال السفير الروسي من قِبَل شرطي تركي في أنقرة.

يبدو أن موسكو التي ترى في إبعاد تركيا عن المعسكر الغربي في حدِّ ذاته مكسبًا استراتيجيًّا، قد قدَّمت نفسها سيدًا للعبة، كما قدَّمت نفسها خيارًا يفتح طريقًا يشقُّ عزلة أنقرة الإقليمية والدولية؛ ولذلك فإن العلاقة بين روسيا وتركيا قد ألقت بظلالها على العلاقات بين تركيا والعراق منذ أن بدأت أزمة بعشيقة، حتى الحوار الجاري حاليًّا بين البلدين، مع تأكيد أهمية الحوار الثنائي بينهما؛ حيث إن الأزمة تصاعدت بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية، وتكوين التحالف المشترك بين موسكو وبغداد وطهران ودمشق.

حقَّقت تركيا -على الرغم من ظهورها خاسرة بعد سيطرة النظام السوري على حلب- بعض المكاسب؛ منها: ترسيخ عدم دعوة حزب الاتحاد الديمقراطي إلى مفاوضات الأستانة، ومحاولة خلق تشققات في جدار التنسيق الروسي الإيراني في سوريا والعراق، إضافة إلى إساهماتها الإنسانية في إجلاء المعارضين والسكان من حلب إلى إدلب؛ الذين كانوا يتعرَّضون لكثافة القصف الروسي؛ لكن هذه النقطة تحديدًا بدت فيها تركيا من جهة أخرى مساهمة في تفريغ السكان العرب السُّنَّة من حلب، وقد تلقَّت عدة انتقادات من الفصائل السورية(10).

مع هذا فإن تركيا التي تعمل على تطوير تعاونها مع روسيا -ومع وجود مجموعة محيطة بالرئيس أردوغان تريد مزيدًا من التقارب مع روسيا- ما زالت ترى في واشنطن حليفًا مهمًّا؛ كما أن الاتحاد الأوروبي لا يزال خيارًا مرجَّحًا لدى تركيا؛ لكن الأخيرة ترى أن العالم أكبر من الاتحاد الأوروبي، وفي حال لم يعتبر الاتحاد أولويات تركيا، ولم تكن الجهود التقاربية متبادلة، فإن العلاقة ستسير إلى مزيد من التوتر، وعليها أن تؤمِّن نفسها. تدرك تركيا -أيضًا- أنها تمر بمرحلة حساسة في العلاقة مع الولايات المتحدة، وتريد منها أن تقف حليفًا بلا تردُّد ضد داعش وجماعة غولن والمنظمات الانفصالية؛ لهذا تُقَدِّم أشياء ملموسة تُثبت من خلالها لإدارة ترامب أنها حليف يمكن الاعتماد عليه، ويستحق الوقوف معه ومساندته؛ ومن ذلك حملتها على داعش، وتحسين علاقاتها المتسارع مع إسرائيل والعراق(11)، إن استمرار واشنطن في تجاهل مخاوف تركيا سيعمل على تعزيز العلاقات الروسية التركية بشكل أكبر؛ لهذا من المرجَّح أن تقوم واشنطن باستحداث آليات لتخفيف المخاوف التركية.

وفيما يتعلَّق بالعلاقات التركية-الروسية وتداخلها في الملف السوري والعلاقات مع واشطن تكمن عدة ملامح للتحوُّل في السياسة الخارجية التركية، نرصدها في الآتي:

1- القيام بخطوات عملية، وعدم الاكتفاء بانتظار تحقيق الوعود الأميركية؛ وذلك استفادة من عدة دروس؛ منها: الخطوط الحمراء لأوباما في سوريا، والوعود بانسحاب قوات الحماية الكردية من منبج وغيرها. ومع ذلك ما زالت تركيا بحاجة إلى الدعم الغربي لجهودها.

2- إعطاء حيز أكبر للإدراك الواقعي في سلوك السياسة الخارجية وقراراتها؛ ومن ذلك التوقُّف عن المطالبة بعدم وجود الأسد في مستقبل سوريا.

3- اعتماد خيارات القوة الخشنة بشكل أكبر، ويتضح ذلك في عملية درع الفرات، والتواجد في بعشيقة تحديدًا، وهذا انطلاقًا من زيادة أثر الدوافع الأمنية في تشكيل السياسة الخارجية التركية.

4- القيام بعمليات عسكرية بتنسيق ضعيف ودون دعم من واشنطن أو الناتو.

5- تراجع حضور الجانب الإنساني في السياسة الخارجية التركية على الرغم من وجوده ومراعاته.

6- الانتقال من مرحلة التوازن بين الحرية والأمن إلى تغليب العامل الأمني، ومع الفوارق بين الحادثين فإن تركيا لطالما انتقدت خطاب الولايات المتحدة بعد 11 من سبتمبر/أيلول؛ الذي استبدل خطاب الحرية بخطاب الأمن؛ لكنها وجدت نفسها مضطرة إلى ذلك بعد 15 من يوليو/تموز 2016.

7- تجاوز أمور أو إسقاطها من خطاب السياسة الخارجية؛ حيث كانت تعد مبدئية وأخلاقية؛ مثل: موضوع الإصرار على تنحي الأسد، والمنطقة العازلة “الآمنة”، أو منطقة حظر الطيران إلى منطقة “خالية من الإرهاب”، ويرجع ذلك إلى تبدُّل الأولويات، وإلى الظروف الميدانية، وهذا يعني -أيضًا- تقديم تنازلات لم تكن واردة من قبل.

8- المضي قدمًا نحو التخلُّص من البيروقراطية التي تتحكَّم في تشكيل قرارات السياسة الخارجية التركية وتنفيذها، والعمل على الاستفادة من تداعيات ما بعد 15 من يوليو/تموز.

9- التحرُّك السريع والمرن من أجل تجاوز الأزمات السياسية وآثارها السلبية مع الاستعداد لتقديم تنازلات للنجاح في ذلك.

10- التناغم مع طبيعة التوازنات الميدانية؛ ويأتي الضغط على الفصائل السورية للمشاركة في مفاوضات الأستانة في هذا السياق؛ ولكن هذا الأمر سيضعف الموقف التركي؛ خاصة مع وجود احتمالات بمزيد من الانقسامات بين الفصائل، ورفض فصائل مهمَّة -مثل أحرار الشام- المشاركة في مفاوضات الأستانة.

تركيا والعراق: الحوار الصعب

في 12 من أكتوبر/تشرين الأول 2016 ظهرت إلى العلن من جديد أزمة تركية-عراقية بعد تراشق التصريحات بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي؛ وذلك على خلفية تواجد القوات التركية في معسكر بعشيقة الواقع شمال الموصل؛ حيث هددت بغداد بالتوجه للمجتمع الدولي لحل خلافها مع تركيا؛ محذرة أن انتشار القوات التركية على أراضيها يهدد بحرب إقليمية. جاء هذا في توقيت حساس قبيل بدء عملية الموصل؛ التي يسيطر عليها تنظيم داعش منذ عام 2014، وبعيد تصديق البرلمان التركي على السماح للقوات التركية بالبقاء على الأراضي السورية والعراقية؛ ولكن على الرغم من الحديث عن استنفاد الحوار المباشر بين الطرفين، والتهديد بتوجه العراق للحل الدولي إزاء رفض تركيا سحب قواتها من بعشيقة(12) فإن الحوار استمر بين الطرفين، وجرى اتصال هاتفي بين أردوغان والعبادي، وتكلل بزيارة لرئيس الوزراء التركي ابن علي يلدرم في 7 من يناير/كانون الثاني 20177 إلى بغداد، وقد سبقت الزيارة عدة دعوات وتعهدات أسهمت في إنجاح الحوار؛ منها:

1- تعهد تركيا بسحب قواتها من العراق مع بداية استعادة الجيش العراقي مدينة الموصل من تنظيم الدولة.

2- التأكيد التركي على أهمية أمن العراق وسيادته، وعدم تطلعها إلى السيطرة على أراض تابعة للعراق.

3- دعوة رئيس الوزراء العراقي قوات حزب العمال الكردستاني للخروج من قضاء سنجار، التابع لمحافظة نينوى شمالي العراق؛ ولكن ما زال حزب العمال الكردستاني يستخدم لعبة المسميات؛ حيث يخرج من مكان ما ويترك وراءه قوات تحت مسميات جديدة، وبحجج مختلفة، وهو ما سيجعل مشكلة سنجار مستمرة.

4- حديث وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري عن أهمية القضاء على تنظيم الدولة في الموصل، ومنع انتقالها إلى سوريا(13).

وكانت تركيا قد بررت وجودها في معسكر بعشيقة بوجود اتفاق مع العبادي نفسه؛ ولكن مع مطالبة العبادي لتركيا بإخراج قواتها أصرت تركيا على الرفض لعدة نقاط؛ منها:

1- وجود قوات حزب العمال الكردستاني في منطقة سنجار القريبة.

2- وجودها ضامنًا لعدم قيام الميليشيات الشيعية بمجازر في تلعفر(14).

على كل حال يبدو أن مصلحة الطرفين اقتضت تجاوز موضوع بعشيقة؛ سواء من قِبَل العراق؛ الذي يرغب في التطبيع مع أنقرة بسبب وضعه الاقتصادي السيئ، وحاجته لترتيب موضوع تصدير نفط إقليم كردستان عبر تركيا، وإدراكه لتأثير تركيا على الأطراف السُّنِّيَّة في العراق، وكذلك مصلحة تركيا في التضييق على حزب العمال الكردستاني؛ حيث وجَّهت رسالة في ذلك -أيضًا- من خلال قصف الطائرات التركية لمواقع في جبال قنديل أثناء زيارة يلدرم لبغداد، وفي العمل مع كلٍّ من أربيل وبغداد، وليس في النظر إلى أربيل بديلًا تحديدًا في مجال الاقتصاد والأمن والطاقة، وقد تأكد هذا من خلال قيام يلدرم بزيارة كلٍّ من بغداد وأربيل، وفي هذا اتساق مع الموقف الأميركي؛ الذي يريد التعاون بين بغداد وأربيل في عملية تحرير الموصل.

ومما سبق يمكن الوقوف على عدد من ملامح التحولات في السياسة الخارجية:

1- السرعة في تجاوز الخلافات والأزمات من خلال الحوار الثنائي.

2- التعامل مع أكثر من طرف للاستفادة من الجهود كافة لتحقيق الأهداف؛ ويتضح هذا في العلاقة مع كل من بغداد وأربيل من أجل مواجهة حزب العمال الكردستاني “تحالف ضد الإرهاب”.

3- عدم التعويل على أي تصريحات حول انسحاب حزب العمال الكردستاني من سنجار من دون وجود قوة تركية صارمة من أجل تجنب تكرار تجربة منبج.

4- العمل على تخفيف حدَّة التوتر مع العراق لفتح بوابة نحو العالم العربي في ظل إغلاق سوريا.

5- عدم ترك الساحة خالية أمام المنافسين، وتستهدف تركيا في هذه النقطة تحديدًا التمدد الإيراني؛ حيث إن الخلاف مع العراق سيعزز المشروع الإيراني في العراق.

6- تقديم شيء استباقي عملي لواشنطن للتعاون مع تركيا فيما يخص ترتيب استقرار العراق.

7- تهيئة الوسط السياسي لإعادة الاعتبار للعنصر الاقتصادي.

8- استثمار السلوك الخارجي في التأثير على التيار القومي؛ خاصة في المواجهة مع حزب العمال في قنديل وسنجار، وفي التوتر الحاصل مع الكتلة الغربية للحصول على دعمه في التغيير الدستوري.

خاتمة

يبدو أن أنقرة عازمة على المضي قدمًا في سياسة تخفيف العداوات أو إنهائها مع دول لها معها خلافات؛ مثل: مصر والإمارات.. وغيرها، وستجيِّر علاقاتها مع دول أخرى؛ مثل: روسيا والعراق وإسرائيل لتضع نفسها في حسابات إدارة ترامب. والأهم أن أنقرة ستواجه العديد من التحديات؛ منها: موقف الإدارة الأميركية من مخاوف تركيا؛ حيث من الوارد أن تقدِّم واشنطن تسهيلات في موضوع “جماعة غولن”؛ ولكن القدرة على إقناع واشنطن بالتخلي عن دعم الأكراد في سوريا سيكون تحديًا كبيرًا، إضافة إلى تحديات مهمة أخرى؛ مثل: نجاح العملية التفاوضية حول مستقبل سوريا، ومن ذلك قدرتها في إقناع الفصائل السورية المعارضة، وقدرتها على إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا والعراق، وتحدِّي المواجهة مع إيران في نقاط قد تختلف فيها إيران مع روسيا؛ ومن أهمها الاستمرار في النهج العسكري لاستعادة سيطرة النظام.

من الواضح أن تفاهمات تركيا الدولية قد أصابت صورتها التي رسمتها كدولة تساند “المظلومين” وتعادي الاستبداد، فهذه الصورة اهتزت بفعل أدائها في عدد من ملفات المنطقة.

مع وجود عدد من الملامح الجديدة في السياسة الخارجية التركية؛ مثل: التوجه للأسواق الشرقية لدعم الاقتصاد والاستعداد لتأدية دور الوساطة من جديد في عدة نزاعات دولية، وإعطاء أهمية أكبر للعمل الاستخباري الخارجي؛ فإن التحوُّل الأساسي يكمن في تعاظم الإدراك الواقعي في السياسة التركية، واستخدامه للانتقال إلى المبادرة للتأثير على مستقبل التحولات الإقليمية.

________________________________

محمود الرنتيسي: باحث متخصص في الشأن التركي

مراجع

1-             . Büyükelçiler Konferans? Vesilesiyle Düzenlenen Yemekte Yapt?klar? Konu?ma,TCCB, 9/1/2017, Giri? Tarihi: (19 Ocak 2017) https://www.tccb.gov.tr/konusmalar/353/70692/9-buyukelciler-konferansi-vesilesiyle-duzenlenen-yemekte-yaptiklari-konusma.html

2-             المرجع السابق.

3-             عبد القادر محمد، تحولات السياسة الخارجية التركية في عهد حزب العدالة والتنمية، ص577، العرب وتركيا تحديات الحاضر ورهانات المستقبل، مجموعة مؤلفين، المركز العربي للبحوث، 2012.

4-             Kremlin: Erdo?an özür diledi, BBC Türkçe, 27 Haziran 2016, Giri? Tarihi: (19 Ocak 2017) http://www.bbc.com/turkce/haberler/2016/06/160624_erdogan_rusya

5-             أردوغان: لدينا ما يثبت تورط التحالف الدولي في دعم داعش، ديلي صباح، 27 من ديسمبر/كانون الأول 2016، تاريخ الدخول: (19 من يناير/كانون الثاني 2017): http://www.dailysabah.com/arabic/politics/2016/12/27/erdogan-we-have-evidence-that-us-led-coalition-forces-have-supported-terror-groups-including-daes

6-             Selvi Abulkadir, ABD’nin 5 saati PKK’y? nas?l kurtard?, Hurriyet, 27 Aralik 2016, Giri? Tarihi: (19 Ocak 2017) http://www.hurriyet.com.tr/yazarlar/abdulkadir-selvi/abdnin-5-saati-pkkyi-nasil-kurtardi-40318270

7-             المرجع السابق

8-             Mevlüt Çavu?o?lu: ?ncirlik’in kapat?lmas? gündemimizde yok, Hürriyet, 6 Ocak 2017, http://www.karar.com/guncel-haberler/mevlut-cavusoglu-incirlikin-kapatilmasi-gundemimizde-yok-son-dakika-haberleri-362361#

9-             التحالف الدولي يواصل التنسيق مع تركيا بخصوص عملية الباب، ترك برس، 18 من يناير/كانون الثاني 2017، تاريخ الدخول: (19 من يناير/كانون الثاني 2017): http://www.turkpress.co/node/30162

10-           الدويسي، فاروق، دروس وعبر من سقوط حلب الشرقية، 21 من ديسمبر/كانون الأول 2016، تاريخ الدخول: (25 يناير/كانون الثاني 2017): https://ommahpost.com/lessons-from-the-fall-of-eastern-aleppo/

11-           مرجع سابق، حديث أردوغان للسفراء الأتراك.

12-           أردوغان للعبادي: اعرف حدودك.. وبغداد ترد، العربية نت، 11 من أكتوبر/تشرين الأول 2015، تاريخ الدخول: (19 يناير/كانون الثاني 2017): http://ara.tv/rhqn9

13-           صالحة سمير، يلدريم في بغداد… المعنى والأهداف، العربي الجديد، 12 من يناير/كانون الثاني 2017، تاريخ الدخول: (19 من يناير/كانون الثاني 2017): https://goo.gl/j0amB1

14-           المرجع السابق

محمود سمير الرنتيسي

الجزيرة