هواجس الإرهاب والإسلاموفوبيا تلقي بظلالها على الكرة الأوروبية

هواجس الإرهاب والإسلاموفوبيا تلقي بظلالها على الكرة الأوروبية

شكّلت كرة القدم أحد أهم المجالات التي سمحت للمهاجرين ولأبنائهم بأن يجتازوا الباب الضيق للضواحي “المظلمة” التي يعيشون فيها ليتطلعوا إلى عالم الأضواء والشهرة. وكانت كرة القدم، قبل وقت ليس ببعيد، مجال تحقيق الذات لهؤلاء المهاجرين، الذين يلاحقهم هذا “اللقب” حتى وإن كانوا ولدوا في باريس أو برلين.

ونجحت مواهب كروية كثيرة في أن تصنع الحدث. وتكون اللاعب الرئيسي وقائدة الفريق في منتخباتها الوطنية (منتخبات الدول التي يحملون جنسيتها). وتذكر تقارير عديدة، ومنها دراسات أعدّها الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا”، أن اللعبة الشعبية الأشهر في العالم، تساعد فعلا المهاجرين الشباب على الاندماج، وأهدافهم هي صيحة نصر تحمل بين طياتها رسالة مفادها “نحن نصنع الحدث الوطني”.

لكن، هذا الوجه المشرق للعبة كرة القدم، التي وصفها الروائي الفرنسي ألبير كامو بأنها “اللعبة التي تحمل ثقافة الشعوب ودرجة تحضرها.. ولا تقل أهميتها عن الرواية والشعر والسينما”، لا يخفي أنها من أكثر المجالات عنصرية.

صحيح أن كرة القدم هي كما يقول الفرنسي باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في كتابه “كرة القدم والعولمة”، رياضة الفقراء ورياضة الجميع بغض النظر عن النشأة الاجتماعية أو العرقية، إلا أنها اليوم باتت متأثرة بشكل كبير بموجات الشعبوية والقومية والإسلاموفوبيا الصاعدة في الغرب، من ذلك ما تعرض له اللاعب التونسي الأصل الألماني المولد والجنسية أنيس بن حتيرة الذي وجد نفسه مجبرا على الاختيار بين إيمانه ومستقبله الرياضي.

وقبل صعود موجة العنصرية في ألمانيا كان أنيس بن حتيرة، ابن المهاجرين التونسيين، واحدا من أبناء ألمانيا المميزين. وحين سُجّل لأداء الخدمة العسكرية، التقط الجيش الألماني صورة تذكارية له لتسجيل حدث انضمامه إليه.

وعقد على شرفه حفل تكريم كانت على رأس الحضور فيه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وعدد من أعضاء الحكومة. واعتبر حتيرة “خير نموذج لاندماج المسلمين في المجتمع″، وظهر كأحد نجوم ألمانيا من المهاجرين الذين شاركوا في فيديو يحتفي بالتعدد الوطني حمل اسم “أنا أيضا ألماني”، فما الذي تغيّر؟

مع تبني المجتمع الغربي وجهة نظر أكثر سوداوية عن الإسلام هوى فجأة من كان يوما بطلا رياضيا من قمة نجاحه

يقول بونيفاس إن الرياضة لم تعد فقط مجرد لعبة، فقد صارت عنصرا أساسيا في تحريك السياسات، فيما يذهب الباحث البريطاني جيمس دورسي في كتابه “العالم المضطرب لكرة القدم” إلى القول إنّ “كرة القدم والدين هما من بين الأشياء التي يُعرّف بهما جزء كبير من الناس أنفسهم”.

ويشبّه دورسي كرة القدم بالنافذة التي يمكن من خلالها متابعة التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، معتبرا أنّ التطورات الاجتماعية غالبا ما تكون أكثر وضوحا في ملعب كرة القدم، وهذا يؤكده تقرير صحيفة واشنطن بوست الأميركية الذي تابع قضية لاعب نادي دارمشتات أنيس بن حتيرة.

وكان بن حتيرة حتى شهر مضى أحد أبرز صانعي ألعاب البوندسليغا، لكن مع تبني المجتمع الغربي وجهة نظر أكثر سوداوية عن الإسلام، هوى فجأة من كان يوما بطلا رياضيا من قمة نجاحه التي استغرق وقتا طويلا لبلوغها.

وتثير قصة إبعاد اللاعب الألماني المسلم، البالغ من العمر 28 عاما، عن فريقه وإجباره على المنفى الاختياري تساؤلا يتردد على جانبي المحيط الأطلسي: في الأزمنة سريعة التغيّر، ما الذي يدفع المسلم ليصبح “متطرفا”، خصوصا في نظر مجموعة كانت من أشدّ المعجبين به؟

بعد انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، واندلاع موجة من الهجمات الإرهابية في أوروبا، بات الإسلام تحت المجهر. وتعترف واشنطن بوست بأن الإرهاب يتسبّب في سياسة الفحص المشدد على المسلمين، لكنها تؤكد أن التفتيش عن التطرف وراء كل حامل للقرآن، يعد أيضا اختبارا لمدى الالتزام بمبادئ الحرية الدينية والديمقراطية الغربية.

وهذا يبدو واقعا حتى في ألمانيا، الدولة التي اشتهرت منذ سقوط جدار برلين، باعتبارها بلد المهاجرين. وتصدرت دول أوروبا في استقبال اللاجئين، عندما استقبلت أكثر من مليون لاجئ في خضم أزمة اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط، من سوريا والعراق أساسا، لدرجة أن دونالد ترامب نعتها بـ”الدولة الساذجة”.

لكن، وفي ظل المناخ الحالي يمكن للسمعة السيئة للتطرف أن تمتد لتطال حتى أكثر الرموز المحبوبة في المجتمع، وذلك ما حدث مع اللاعب الألماني التونسي الأصل الذي دفع ثمن ارتباطه بمؤسسة خيرية وصفت بـ”المتشددة”.

اتحاد كرة القدم الفرنسي يواجه اتهامات بالتمييز ضد اللاعبين من أصول مغاربية حين تم استثناء لاعبين نجوم من المنتخب الوطني

أعمال خيرية

يعتبر الخبراء والمتابعون من علماء الاجتماع والنفس أن نشأة اللاعبين، وخصوصا الإحساس بالتهميش والحاجة عند الصغر، تؤثر عليهم عندما يصبحون نجوما، فيسعون إلى التغلب عليها من خلال الأعمال الخيرية ودعم الآخرين.

وحالة أنيس بن حتيرة لا تختلف عن حالة كثيرين، حيث نشأ ابن الطبّاخ التونسي ونعتُ “كاناكي” يلاحقه، وهو توصيف ألماني يطلق على المهاجرين من ذوي الأصول التركية أو العربية. ودفع المال والشهرة اللاعب الألماني-التونسي، الذي يصف نفسه بأنه “ليس مسلما متديّنا في حقيقة الأمر”، إلى الانخراط في الأعمال الخيرية. وكان لنشاطه الخيري الفضل في حصوله على جوائز وطنية واكتسابه شهرة.

لكنه أثار الجدل حين تم الكشف عن علاقته بمنظمة “أنصار”، وهي منظمة إسلامية أسسها مغني راب ألماني اعتنق الإسلام يُدعى جويل كايسر.

وتساءل السياسيون في ألمانيا كيف لمسلم مشهور أن يتعاون مع منظمة متشددة؟ وسرعان ما نقلت وسائل الإعلام تقارير عن تمويل المنظمة لمنظمات إرهابية، لكنها تراجعت عن اتهاماتها بعد أن تبيّن عبر تحقيق قضائي عدم وجود دليل على ذلك.

لم يشفع ذلك للاعب دوري المحترفين في ألمانيا، الذي دافع عن نفسه، مؤكدا أن ما جذبه نحو المنظمة هو “شفافيتها” وأنها تعمل في المناطق التي تخشى المؤسسات الخيرية الأخرى الدخول فيها، مثل الصومال وسوريا.

وردّ عليه المنتقدون بأن هذه المؤسسة نظّمت، قبل عامين، فعالية لجمع الأموال، ألقى خلالها عدد من السلفيين المتشددين خطبا دينية. وكان من بين هؤلاء بيير فوجل، الألماني المثير للجدل الذي تحوَّل إلى الإسلام ودعا إلى إقامة صلاة جنازة شعبية لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن بعد مقتله في باكستان.

وبعد الحديث مع أجهزة الأمن الألمانية، أوقفت منظمة أنصار تعاملها مع الأشخاص الذين كانوا مسؤولين عن جمع الأموال. لكن بالنسبة إلى العديد من الألمان بمن فيهم أجهزة الاستخبارات فقد أظهرت “وجهها الحقيقي”، فيما يقول منتقدو علاقة بن حتيرة بالجمعية الخيرية إنها غير صائبة، في ضوء وضعه باعتباره قدوة في مجتمعه.

وقال وزير داخلية ولاية هسن، بيتر بوث، في تصريحٍ له “لا يمكن السماح للاعب كرة قدم محترف مثل بن حتيرة بربط اسمه بمنظمات متطرفة يضعها جهاز الاستخبارات تحت المراقبة. تقع مسؤولية خاصة على عاتق كبار الرياضيين. فهم يمثلون قدوة لغيرهم، وخاصة صغار السن الذين يميلون إلى التطبّع بطباع أبطالهم”. وردا على ذلك اختار بن حتيرة الرحيل.

أنيس بن حتيرة ليس أول لاعب أوروبي “لاجئ” في صفوف النادي التركي، الذي بات يوصف بأنه ملاذ للمسلمين من أوروبيي المنشأ

وبعد خروجه من دارمشتات، قال بن حتيرة إنّه “أصبح موصوما. ورفضت النوادي الألمانية التعامل معه”. واستمر ذلك حتى تلقّى اتصالا من إلياسا سومي، وهو ألمانيّ-تركي وقائد فريق غازي عنتاب الذي يلعب في دور المحترفين التركي.

وتابع سومي ورئيس ناديه الجدل الدائر في ألمانيا حول بن حتيرة. ورأت إدارة النادي أن تلك فرصة ذهبية للتعاقد مع لاعب موهوب و”دعم أخ مسلم في الوقت ذاته”. وبانضمامه إلى غازي عنتاب سبور، تعاقد بن حتيرة مع النادي التركي، في خطوة تعيد تسليط الأضواء على العلاقة بين كرة القدم والسياسة.

أنيس بن حتيرة ليس أول لاعب أوروبي “لاجئ” في صفوف النادي التركي، الذي بات يوصف بأنه ملاذ للمسلمين من أوروبيي المنشأ الذين لم تعد بلادهم تسعهم، فيما باتت ترحب بهم النوادي التركية لما يمكن أن يمثلوه من فرصة ستساعد تركيا على البروز أوروبيا وتلبية طموحاتها.

وتماشيا مع موجة العنصرية الصاعدة، وما يتعرض له اللاعبون قررت الجهات الرسمية المسؤولة وعلى رأسها الاتحاد التركي تعديل قانون استقدام اللاعبين الأجانب للعب في صفوف الأندية التركية المحترفة. وكان القانون السابق يسمح لكل ناد بالتوقيع مع 8 لاعبين أجانب ويشترط أيضا مشاركة 5 لاعبين فقط في أرض الملعب، لكن التعديلات التي وصفت بالثورية باتت تسمح للأندية بالتوقيع مع 14 لاعبا أجنبيا دون قيود مفروضة على عددهم في التشكيلة الأساسية.

عنصرية عرقية

ما جرى مع أنيس بن حتيرة تعرض له لاعبون آخرون في ألمانيا وعموم أوروبا، سواء بسبب الدين أو بسبب لون البشرة على غرار ما تعرض له جيروم بواتينغ، نجم المنتخب والمدافع في فريق بايرن ميونيخ.

كان بواتينغ محل انتقاد من ألكسندر جاولاند، نائب رئيس حزب البديل من أجل ألمانيا المناهض للمهاجرين، الذي قال في تصريحات، إن الألمان لا يريدون نجم كرة القدم جيروم بواتينغ المولود في ألمانيا من أب غاني جارا لهم.

وفي فرنسا، واجه اتحاد كرة القدم الفرنسي اتهامات بالتمييز ضد اللاعبين من أصول مغاربية حين تم استثناء لاعبين نجوم من المنتخب الوطني، مثل حاتم بن عرفة نجم خط وسط نادي نيس الفرنسي، وكريم بنزيمة، لاعب ريال مدريد، ولاعب منتخب فرنسا السابق ذو الأصول الجزائرية، الذي قال إنه بات يرفض أن يردّد السلام الوطني الفرنسي، ردّا على الأصوات المطالبة بـ”تنقية” منتخب الديوك من الدخلاء.

ويرجع المؤرخ الألماني رينيه فيلدانغل مثل هذه المواقف إلى شبح اليمين المتشدد الذي يحوم في أوروبا ويريد إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء. ويقول في إحدى مقالته “يرغب هذا الشبح في تأسيس ‘الأمة’ (الألمانية) على أسس عرقية من جديد، بحيث تتألف تشكيلة ‘المنتخب الوطني لكرة القدم’ من رجال بيض ينحدرون من رجال ألمان منذ أجيال عديدة. وبلغة الأيديولوجية العنصرية النازية: ألمان آريُّون، أو بلغة ألمانية حديثة وطنانة: ألمان أبا عن جَدّ”.

صحيفة العرب اللندنية