إدارة ترامب في شهرها الأول.. تحدّي الفوضى

إدارة ترامب في شهرها الأول.. تحدّي الفوضى

اتسم الشهر الأول من حكم إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بحالة من “عدم الكفاءة، والارتباك، والتسريبات غير المسبوقة”، فضلًا عن شعورٍ بالفراغ الناجم عن استمرار شغور مئات الوظائف في الوزارات الأساسية، كالخارجية والطاقة. ولأنها تركز السلطة في أيدي عدد محدود من المستشارين المقرّبين من الرئيس، وتستبعد التنسيق مع الموظفين المحترفين في البيت الأبيض أو الوزارات الأخرى؛ فقد أصدرت إدارة ترامب عددًا من القرارات المتسرّعة، انعكست سلبيًا على صورتها وأدائها في أسابيع حكمها الأولى.

فوضى في السياسة الخارجية
تتسبب مواقف إدارة ترامب المتناقضة من القضايا الأساسية في السياسة الخارجية بحالةٍ من عدم اليقين. فمثلًا، لا يعرف من يمثل الموقف الرسمي الأميركي من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أهو الرئيس الذي قال إن الحلف “عفا عليه الزمن”، أم نائبه مايك بينس الذي أعاد تأكيد التزام الولايات المتحدة به، مع مطالبته الحلفاء بمزيدٍ من المساهمة في نفقاته؟ فضلًا عن القضايا المحورية، كالعلاقات مع روسيا والصين التي تتقلب فيها مواقف ترامب وإدارته من دون ناظم موضوعي، ومن دون منطق؛ ففي حين يقول ترامب إنه يتطلع إلى علاقات أفضل مع روسيا، فإن أعضاء في إدارته يرفعون حدّة التوتر معها، وذلك كما فعلت سفيرته في الأمم المتحدة، نيكي هيلي التي انتقدت “العدوان” الروسي على أوكرانيا. وفي حين كان ترامب قد شكك في مبدأ “صين واحدة” بعد انتخابه، وقبل توليه مقاليد الأمور، ملمحًا إلى أنه قد يقبل الاعتراف باستقلال تايوان، فإنه عاد، وهو رئيس، إلى تأكيد قبوله مبدأ “صين واحدة”.
وفي خضم ذلك كله، جاءت صدمة طريقة تعامل ترامب مع مسألة إطلاق كوريا الشمالية لصاروخ باليستي قادر على حمل رأس نووي؛ فعندما أطلق الصاروخ في الثالث عشر من فبراير/ شباط الجاري، كان ترامب يتناول وجبة العشاء مع رئيس وزراء اليابان، شينزو آبي، في أحد النوادي التي يملكها في ولاية فلوريدا. وفجأةً تحولت الطاولة التي كانا يجلسان عليها، بين مئات آخرين من رواد النادي، إلى غرفةٍ للعمليات. فقد وضعت وثائق سرية على الطاولة، وجرى نقاش علني حول الموضوع، بل واستخدمت إضاءات الهواتف المحمولة لتسليط الضوء على الوثائق أمام الزعيمين، وهي الأمور التي أثارت استهجاناً كثيرا، ذلك أن البرتوكول المتبع في مثل هذه الحالات أن يتم تحضير غرفة آمنة، يمنع إدخال الهواتف النقالة إليها، مخافة التجسس. بل إن ترامب نفسه الذي يدين بفوزه، جزئيًا، لفضيحة استخدام منافسته المرشحة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، خوادم إنترنت خاصة، غير حكومية، لا يزال يستخدم هاتفًا نقالًا، على الرغم تحذيرات الخبراء الأمنيين من أن هاتفه قد يكون مخترقًا.

وفي مطلع أسبوعها الرابع في الحكم؛ شهدت إدارة ترامب فضيحةً مدوية، تمثلت باستقالة مستشار الأمن القومي، الجنرال مايكل فلين، بسبب تضليله نائبَ الرئيس في موضوع اتصالاته بالسفير الروسي، سيرغي كيسلياك، بعد قرار إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، فرض عقوباتٍ على روسيا بسبب محاولات تدخلها، كما تقول أجهزة الاستخبارات الأميركية، في الانتخابات الرئاسية لمصلحة ترامب وضد كلينتون.

فوضى في مجلس الأمن القومي
لا تتوقف فوضى مجلس الأمن القومي الأميركي عند إقالة الجنرال فلين، بل تتعدّاها إلى محاولة كثيرين من موظفيه الهرب منه، والعودة إلى وظائفهم الأصلية، وهو ما تسبب في إحداث فراغات كبيرة في كادره. ويضم مجلس الأمن القومي مئات الموظفين، ممن يتم انتدابهم عامين من بعض الوزارات والوكالات ذات الصلة، كالخارجية والدفاع والمخابرات المركزية (سي. آي. إيه) وغيرها. وفي خطوةٍ أثارت استهجاناً كثيرا؛ أصدر ترامب قرارًا، أواخر شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، أعاد بمقتضاه تشكيل المجلس، بحيث أخرج منه رئيس هيئة الأركان المشتركة ومدير الاستخبارات الوطنية، في حين ضم إليه كبير مستشاريه الإستراتيجيين، ستيف بانون. غير أنه، وتحت وابل من الانتقادات، عاد ترامب وعدّل قراره التنفيذي ليضم رئيس “سي. آي. إيه” في عضوية المجلس الذي يتكون من وزراء الخارجية والخزانة والدفاع والطاقة، فضلًا عن صناع السياسة الآخرين في واشنطن. وأيضًا، يشتكي كثيرون من العاملين في مجلس الأمن القومي من محاولات فرض صبغةٍ حزبية عليه، على الرغم من أنه مؤسسة مهنية وطنية. ويقول هؤلاء إن مسؤوليهم يرفعون شعارات ترامب الانتخابية، بل إن كثيرين من أولئك الموظفين قاموا بعمليات “تطهير” لحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، مخافة أن يُشتمَّ منها أي معارضة لمواقف الرئيس.
ولا تتوقف الأمور عند ذلك الحد؛ فقد ذكرت تقارير صحفية أن مجتمع الاستخبارات الأميركية يخفي معلومات حساسة كثيرة عن ترامب، احتياطًا من أن يتم تسريبها أو استغلالها. ويقول عاملون في مجلس الأمن القومي إن كبار الموظفين في المجلس طلبوا إليهم وضع ملخصاتهم في صفحة واحدة مع رسومات وخرائط كثيرة، ذلك أن الرئيس لا يحب القراءة كثيرًا. ووصل الأمر ببعض موظفي المجلس المستائين من استخدام الرئيس “تويتر” لمناقشة قضايا أمنية حساسة، إلى أنهم فكروا بتغذية الرئيس، على نحو غير مباشر، بأفكار لتغريداته في محاولة للتأثير في السياسة الأمنية الكلية.

وظائف شاغرة وفزع
بعد مرور شهر على تسلمها السلطة، ما زالت أغلب مكاتب الجناح الغربي فارغة، وكذلك الحال في مبنى المكتب التنفيذي (أيزنهاور) المجاور للبيت الأبيض. فحتى الآن لا يوجد، مثلًا، مدير للاتصالات في إدارة ترامب، إذ يشغل شون سبيسر، الناطق باسم البيت الأبيض،

المنصبين معًا. كذلك لا تزال وظائف حساسة كثيرة في وزارة الخارجية، بما فيها وظائف نواب الوزير ورؤساء الإدارات الكبيرة، وحتى السفراء، شاغرة هي الأخرى. ويتطلب تعيين نواب الوزراء والسفراء موافقة مجلس الشيوخ، غير أن إدارة ترامب لم ترشح أحدًا بعد مضي شهر تقريبًا من تسلّمها مهماتها. ويشكو أعضاء كثيرون في الكونغرس من الجمهوريين أن عدم تعيين بعض كبار الموظفين في الوزارات المختلفة يعقّد دورهم الرقابي المفترض، عبر مساءلتهم عن أعمال وزاراتهم ووكالاتهم، فضلًا عن أنه ينعكس سلبيًا على إعداد مشاريع القوانين التي وعد الحزب الجمهوري ناخبيه بها. بل إن غياب الكادر الوظيفي المؤهل انعكس على القرارات التنفيذية التي أصدرها الرئيس، لا من حيث المضمون فحسب، كما في قانون حظر السفر، بل وحتى من ناحية الشكل؛ إذ إن قراراتٍ للرئيس كان فيها أخطاء إملائية وطباعية، وفي حالات كثيرة كانت القرارات التي أرسلت إلى الإدارات والوكالات المختصة مختلفة عن التي وقعها ترامب مباشرة.
الأخطر من ذلك، أن ثمّة بلبلة حقيقية يعيشها الكادر الوظيفي في البيت الأبيض والمكتب التنفيذي الملحق به. فمن ناحية، لا تخضع السلطة لتراتبية هرمية، كما يفترض، بل إلى مستوى القرب من ترامب والبعد منه هو شخصيًا. ومن ناحية ثانية، لا يشعر موظفون كثيرون باستقرار في وظائفهم، في ظل تلميحات تصدر دائمًا عن مقرّبين من ترامب بأنه قد يتم التخلي عنهم في أي لحظة. وقد دفع غياب الشعور بالاستقرار الوظيفي لدى كادر الموظفين بعضَهم إلى التزلف، وبعض هؤلاء في مواقع حساسة تتعلق بالأمن القومي والسياسة الخارجية، في حين لجأ آخرون إلى أن يتصل بعضهم ببعض، عبر تطبيقات اتصالات مشفرة كـ “كونفايد” الذي يمحو الرسالة مباشرةً بعد الاطلاع عليها ولا يسمح بتصويرها، مخافة أن تستخدم ضدهم من مسؤوليهم. ويخشى موظفو البيت الأبيض أن تخضع هواتفهم المحمولة وبريدهم الإلكتروني للمراقبة، وخصوصًا في ظل تصاعد حملة التسريبات من داخل البيت الأبيض، والتي يبدو أن مصدرها موظفون مستاؤون من أسلوب قيادة ترامب والدائرة الضيقة حوله.

مأزق الجمهوريين
تُقلِق هذه الفوضى التي تعم البيت الأبيض الحزبَ الجمهوري كثيرًا؛ فعلى الرغم من أن الحزب أحكم سيطرته على السلطتين التنفيذية والتشريعية، في أغلب الولايات، في الانتخابات الأخيرة، ومع أنه في طريقه إلى بسط سيطرته كذلك على المحكمة العليا، فإن انعدام كفاءة ترامب وفريقه يثير الذعر في صفوفهم، وهم يخشون أن تتحوّل قيادتهم البيت الأبيض إلى عبء على أجندتهم في المئة يوم الأولى، وعلى فرصهم للاحتفاظ بمجلسَيِ الكونغرس؛ الشيوخ والنواب، في انتخابات التجديد النصفي أواخر عام 2018.
ويجد جمهوريون كثيرون أنفسهم اليوم في وضعٍ صعب، في محاولاتهم الدفاع عن ترامب، فما إن تهدأ عاصفة حتى تهب أخرى بسببه، أو بسبب مستشاريه المقرّبين. ويحاول الجمهوريون، عبثًا، إقناع ترامب بالتركيز في أجندة الحزب التي وصلوا على أساسها إلى السلطة، وأهمها نقض برنامج الرعاية الصحية الذي وضعه سلفه الرئيس باراك أوباما، واستبدال غيره به، فضلًا عن إصلاح النظام الضريبي المالي، غير أنهم عاجزون عن التقدم خطوة إلى الأمام في هذين الملفين؛ ذلك أن ترامب لا يزال مسكونًا بهواجس التشكيك في شرعيته الانتخابية. كما يشتكي جمهوريون كثيرون من أن البيت الأبيض لا ينسق معهم، وأنه لا ينسق مع الوزارات المعنية، في قراراته التنفيذية، والتي أدت إلى إحداث حالةٍ من البلبلة والفوضى؛ تحديدًا في

موضوع حظر دخول مواطني الدول الإسلامية السبع إلى الولايات المتحدة. وبسبب غياب هذا التنسيق، التزمت قيادة الحزب الجمهوري في الكونغرس الحياد في صراع الصلاحيات الدستورية بين ترامب والقضاء الأميركي.
وعلى الرغم من أن نائب الرئيس، مايك بينس، يحافظ على تواصل دائم مع قادة الجمهوريين في الكونغرس، فإن ثمة شكوكًا حول مدى النفوذ الذي يحظى به في أروقة إدارة ترامب. وقد أدت استقالة فلين وما نتج منها إلى إثارة مزيد من الشكوك الجمهورية في كفاءة إدارة ترامب، خصوصًا في ظل حديث مقرّبين من ترامب إن كبير موظفي البيت الأبيض، بينس بريبس، قد يُرغم، هو الآخر، على الاستقالة. ويمثل بريبس الذي كان رئيس اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري أحد كوابح المؤسسة الجمهورية الصلبة داخل إدارة ترامب، لكن تأثيره يبدو محدودًا إذا ما قورن بتأثير مستشارين أشدّ تأدلجًا وأكثر قربًا من ترامب، كستيف بانون، وستيفين ميلير، وكيليان كانواي.

خلاصة
كما أن ترامب كان مرشحًا غير عادي، فإنه اليوم رئيسٌ غير عادي، ولا يمكن إخضاعه في التحليل للمعايير السائدة. فهذا رئيس يعدّ نفسه في حالة خصام مع المؤسسة التي يرأسها، كما أنه يميل إلى تبسيط أشد الأمور تعقيدًا في عالم السياسة، داخليًا وخارجيًا، عبر تغريداتٍ لا تتجاوز إحداها مئة وأربعين حرفًا. وفي كل مرة يصطدم ترامب بأعراف المؤسسة التنفيذية التي الأصلُ أنه رأسها، أو بقيم البلد التي هو رئيسها وتقاليدها، وخصوصًا مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث؛ التنفيذية والتشريعية والقضائية، فيلجأ إلى قاعدته الانتخابية ليستمد منها قوة وتفويضًا شَعْبَوِيَيْنِ جديدين لـ “تجفيف” ما يصفه بـ “مستنقعات واشنطن”. هذا الصدام المستمر بين رئيس شعبوي، بل فوضوي، ودولة مؤسسات قائمة، هو ما يغري كثيرين بمحاولة استشراف تطورات الأحداث مستقبلًا، فإما أن تنتصر المؤسسات والأعراف والتقاليد المؤسسية الأميركية السائدة، فتثبت أن أميركا دولة مؤسسات قوية فعلًا، أو أن ينجح ترامب في قلب الهرم على رأسه. وبهذا، تنهار الثقة بمؤسسية النظام الأميركي وتتكشّف هشاشته، إن كان ذلك هو الحال فعلًا.

مركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات