العراق: ماذا بعد اعتراف الجميع بالأزمة؟

العراق: ماذا بعد اعتراف الجميع بالأزمة؟

طرحت في الأسبوع الأخير، وثيقتان سياسيتان في العراق، تضافان إلى وثيقة التسوية التاريخية التي تقدم بها التحالف الوطني قبل أشهر. الأولى مذكرة كانت نتاج لقاء موسع لبعض القيادات السنية في مدينة مونترو في سويسرا، تبعتها مبادرة قدمها زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، تطرح ما أسمته حلولا أولية لمرحلة ما بعد استعادة الموصل. ولا يمكن النظر إلى هذا التزاحم في تقديم هذه الوثائق سوى على أنه اعتراف صريح من الأطراف السياسية العراقية كافة، بأن ثمة أزمة سياسية حقيقية في العراق تحتاج إلى حل.
وعلى الرغم من التباينات الشديدة في توصيف طبيعة هذه الأزمة من جهة، أو في طبيعة الحلول المقترحة. إلى أن هذا الاعتراف الجماعي، غير المسبوق، بالأزمة يشكل خطوة أساسية، لم تتوفر من قبل، باتجاه الوصول إلى حلول يتم الاتفاق عليها بين الفرقاء جميعا.
لقد سبق لنا أن عمدنا في مقالة سابقة إلى تحليل المبادرة التي اقترحها التحالف الوطني، وأشرنا إلى أنها مع اعترافها بوجود أزمة سياسية في العراق تستدعي «تسوية تاريخية»، إلى أنها فشلت في تقديم توصيف موضوعي لطبيعة الأزمة، كما فشلت في تقديم حلول واضحة ومحددة لها. وقد أنهينا المقال في حينه بأن هذه المبادرة كشفت عدم وجود إرادة حقيقية لدى واضعيها للوصول إلى تسوية، وإن المبادرة كانت محض محاولة لفرض أمر واقع، في حال عدم قبوله، يبقى الوضع على ما هو عليه!
في مذكرة مونترو، طرح المجتمعون مجموعة من المبادئ التي تحدد رؤيتهم لمستقبل العراق، والمسائل الإجرائية الواجب اعتمادها على المدى القصير لضمان استعادة ثقة المواطنين بالدولة العراقية ومؤسساتها، وصولا إلى مؤتمر دولي تحت رعاية الأمم المتحدة، تقترحه المذكرة، للوصول إلى حل دائم للمعضلة العراقية بأوجهها المختلفة وبناء عراق على مبدأ الشراكة في السلطة، والتوزيع المنصف للموارد، والمقولة الأخيرة تعكس رفض المشاركين لصيغة الحكم الاحتكارية القائمة في العراق اليوم. وقد أشارت الورقة التي خرج بها المشاركون في اللقاء، إلى مبدأين أساسيين آخرين، يتعلق الاول بالالتزام الصارم بسيادة القانون، ويتعلق الثاني باحترام حقوق الإنسان وفقا للمعايير الدولية بعيدا عن أي تقييد أو تأويل.
على مستوى توصيف الأزمة، تحدثت المذكرة عن «دائرة نزاع عنيف» يمر به العراق، بحاجة إلى معالجات حقيقية، وانه ما لم تتخذ إجراءات سياسية لتخفيف حالة التهميش التي تمارس ضد المجتمع السني في العراق، فإن ثمة مخاطرة حقيقية لبروز تيار للتطرف ربما أشد عنفا من تنظيم الدولة/ داعش في المستقبل القريب.
على المستوى الإجرائي قصير المدى، تطرقت الورقة إلى المعايير الواجب توفرها في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بشكل لا يترك مجالا للتلاعب والاستغلال السياسي، فضلا عن قانون الانتخابات، تحديدا فيما يتعلق بالإبقاء على نظام التمثيل النسبي الذي يتيح التمثيل العادل للعراقيين جميعا. وعلى ضرورة ضمان عودة النازحين إلى مناطقهم، وتأمين سلامتهم، وتأمين فرصة كاملة لهم للمشاركة في الانتخابات.
وفي موضوع إصلاح قطاع الأمن، فان المسألتين المهمتين كانتا تتعلقان بوجوب سحب ميليشيا الحشد الشعبي من مناطق انتشارها الحالية، واستبدالها بقوات مهنية مؤهلة لضمان استقرار مستدام في المناطق التي تمت استعادتها من تنظيم الدولة/داعش، وذلك تمهيدا لسحب سلاح هذه الميليشيات وحلها نهائيا. وتعلقت الثانية بوجوب إصلاح الجيش الوطني بما يضمن التمثيل المتكافئ لجميع مكونات الشعب العراقي كما نصت على ذلك المادة التاسعة من الدستور.
سيادة القانون في العراق موضوع آخر حيوي أكدته المذكرة المطروحة، من خلال فرض احترام القانون على مؤسسات الدولة سواء في ذلك الحكومة العراقية والقضاء العراقي المطالب بالالتزام باحترام الحقوق القانونية للمتهمين والقواعد الدستورية والقانونية المتعلقة بمدد التوقيف، وأماكن الاحتجاز. والتأكيد أيضا على ضرورة إغلاق السجون غير الدستورية وغير القانونية المنتشرة في العراق. كما أشارت المذكرة إلى وجوب التزام القضاء العراقي بمعايير التقاضي الدولية، التي تضمن محاكمة عادلة للمتهمين.
أخيرا أشارت المذكرة إلى ضرورة ضمان تفويض الصلاحيات للمحافظات وفق النظام اللامركزي الذي قرره الدستور والقانون العراقي، وعلى وجوب أن تتيح الحكومة العراقية للمواطنين جميعا ممارسة حقوقهم الدستورية في التصويت في أي استفتاء لغرض تشكيل أقاليم جديدة، فيما إذا قرر مواطنو أي محافظة من المحافظات، أو حكومتها المحلية، الذهاب إلى هذا الخيار.
أما مبادرة السيد مقتدى الصدر، فقد عكست رؤية التيار الصدري للإجراءات الواجب اعتمادها في مرحلة ما بعد استعادة الموصل من تنظيم الدولة/ داعش. وبعيدا عن الدعوات المتعلقة بحل الأوضاع الإنسانية، فإن أهم ما ورد في هذه المبادرة، كانت الإشارة إلى إمكانية التعاطي مع «المجتمع الدولي» للمساعدة في حل بعض المشكلات القائمة، وهذا تحول نوعي في موقف التيار الصدري. فقد تحدثت المبادرة عن تشكيل خلية دولية تعنى بمسألة حقوق الإنسان في العراق «تكون مهمتها إزالة الانتهاكات والتعديات الطائفية والعرقية» في مرحلة ما بعد داعش، كما تحدثت عن إمكانية أن تكون هناك «رعاية أممية» للوصول إلى حلول للمشكلات القائمة مع إقليم كردستان. كما تضمنت المبادرة دعوة غير مسبوقة لأي تيار «شيعي» بضرورة إيجاد حل لمسألة الميليشيات. وذلك بضرورة «تمكين» القوات المسلحة العراقية والقوات الأمنية حصرا بالتواجد في المناطق التي تمت استعادتها من تنظيم الدولة/ داعش، والمطالبة بوضع استراتيجية متكاملة لإيجاد فرص عمل للذين شاركوا في القتال، مع إمكانية دمج بعض هؤلاء، تحديدا ما أسمتهم المبادرة «العناصر المنضبطة في الحشد الشعبي» ضمن القوات الأمنية.
وأخيرا تطرح المبادرة بعض الحلول العملية لحل واحدة من المشكلات الرئيسية التي أفقدت جمهورا واسعا من العراقيين بالدولة وسلطاتها ومؤسساتها، إلا وهي مشكلة عدم الثقة بالقضاء العراقي.
إن مقارنة لما جاء في الوثيقتين المذكورتين تكشف عن وجود تطابق في الرؤى غير مسبوق، مع طرح حلول عقلانية لبعض الإشكاليات القائمة في العراق، يمكن البناء عليها، إذا ما أتيحت الضمانة الدولية لتنفيذه، عبر مؤتمر دولي خاص بالعراق، لأن علاقات القوة في الداخل العراقي مختلة ولا تتيح إنتاج حل محلي، خاصة وأن التيار الصدري، لا يمتلك القدرة على فرض رؤيته على التحالف الوطني.

يحيى الكبيسي

صحيفة الشرق الاوسط