موسكو عندما تخشى تقلبات مواقف البيت الأبيض

موسكو عندما تخشى تقلبات مواقف البيت الأبيض

اضطرّ الجنرال المتقاعد، مايكل فلين، مستشار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لقضايا الأمن القومي، المعروف بصداقته لروسيا وعدائه المسلمين، لتقديم استقالته، ليس بسبب تصريحاته المعادية للإسلام والمسلمين، ولكن لتورّطه في محادثات مع السفير الروسي في واشنطن، سيرغي كيسلاك، بشأن رفع العقوبات والحصار الاقتصادي ضدّ روسيا قبل إعلان فوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية، ما يدل على إمكانية استغلال موسكو العلاقة التي تربطه بالسفير الروسي في واشنطن. لكن، أخذًا بالاعتبار شخصية ترامب الثورية والمعقّدة للغاية، لم يجرؤ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على طرح قضية رفع الحصار الاقتصادي في المكالمة الهاتفية الأولى التي أجراها مع ترامب، ليس في هذا التوقيت الحرج للأطراف كافة على أيّة حال. كما يخشى بوتين من تبعات سياسة معاداة الإسلام التي تبنّاها ترامب علانية لوجود قرابة 20 مليون مسلم في روسيا. ويرغب الرئيس الروسي بتجنّب تأليب هذه الأقلية وتحريضها ضدّ سلطته، ويسعى غالبًا إلى التهدئة والمهادنة، خلافًا لقرارات ترامب المفاجئة التي غالبًا ما تقارب الطابع الثوري والاستفزازي، على الصعيدين، الأميركي والدولي.

روسيا والقرم وأوكرانيا
لم يتوقّع الكرملين الذي ساهم، بطريقة غير مباشرة، بفوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية، أن يطلق الأخير مثل هذه التصريحات، بعد فترة قصيرة من دخوله إلى البيت الأبيض، وكانت الفرحة قد عمّت أروقة الكرملين، حين أعلن فوز ترامب الذي أوضح، بما لا يقبل الشكّ، أنّه يتوقّع إعادة روسيا لبشبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا، حسب المتحدث باسم البيت الأبيض، شون سبايسر. وجاء تعليق ترامب في مؤتمر صحفي عقد لمناقشة قضايا عديدة، صاحبت استقالة مستشار الأمن القومي مايكل فلين، وتوضيح علاقة الأخير بالقيادة الروسية. وأكد سبايسر أنّ موقف ترامب حاسم بشأن ضمّ روسيا للقرم، على الرغم من أنّ إدارة أوباما السابقة بذلت قصارى جهدها للتحكم بموقفها الرسمي للحيلولة دون رفع معدّلات التوتّر مع روسيا. وطالب ترامب روسيا وقف أعمال العنف التي تشهدها أوكرانيا، وأكّد ترامب، في الوقت نفسه، على رغبته بالمحافظة على مستوى جيّد من العلاقات مع الكرملين. ردًا على مطالب ترامب، صرّحت المتحدّثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخارزفا، في مؤتمر صحفي، بأنّ إعادة القرم لأوكرانيا أمر غير وارد، ولا يقبل النقاش، لأنّ شبه جزيرة القرم جزء من روسيا الفيدرالية.
وذكّر سبايسر أنّ سفيرة البعثة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، دانت التدخّل

الروسي في الشؤون الداخلية لأوكرانيا. وصرح وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، أنّ للعام 2014 خصوصية، لأنّ آمالاً كثيرة متعلقة بعقد نوع من الشراكة مع موسكو قد انهارت مع صدور قرار ضمّ القرم لروسيا الفيدرالية، وأكّد الوزير، خلال توجّهه إلى بروكسل للمشاركة في اجتماع وزراء دفاع حلف شمال الأطلسي (الناتو) على ضرورة تحديث أداء الحلف ومقدّراته، ليتوافق مع التغيّرات الدولية التي فرضتها روسيا منذ 2014. وأشاد الوزير ماتيس بالحلف، موضّحًا أنّه أكثر التحالفات العسكرية نجاحًا عبر التاريخ، وطالب بتقديم ضمانات لتمتين علاقات ما خلف الأطلسي مع الحلف. وكان ماتيس قد وجّه اتهامات لموسكو بالعمل على هدم “الناتو” وتفتيته، عندما ترشح لوزارة الدفاع، علمًا أنّ ترامب انتقد حلف الناتو مرات، رافضًا، في أثناء حملته الانتخابية، تحمّل بلاده عبء حماية دول البلطيق، ورفع تعداد قوات الردع العسكري الموجودة هناك، ما يدلّ على توقّع تغيّر مواقفه خلال فترات زمنية قصيرة، وهذا ما يقلق الكرملين.

الكرملين يعارض الثورات والانقلابات
أوضحت دراسة أعدّها الخبير في العلاقات الدولية إيفان كريستيف، والبروفيسور الحقوقي في جامعة نيويورك ستيفن هولمز، الأسباب التي حالت دون احتفال روسيا بمناسبة مرور 100 عام على ثورة البلاشفة، على الرغم من أنّ الثورة بمثابة نقطة تحوّل في تاريخ روسيا. الحقيقة أن بوتين يرى في روسيا اليوم وريثة للثورة البلشفية والإمبراطورية الروسية في الوقت نفسه، لكن الكرملين حاليًا يرفض أيّ نمطٍ من الممارسات الثورية، والاحتفال بمرور مائة عام سيقدّم للمجتمع الروسي إشارات واضحة ومقلقة في هذا الاتجاه. وبدلا من ذلك، ستوضّح القيادة الروسية التبعات السلبية والمدمّرة للثورات على المستوى الوطني، وفشلها بحلّ المشكلات الاجتماعية والسياسية، وأكثر ما تخشاه القيادة الروسية مواجهة ثورة معاصرة قد تقلب الأنظمة السياسية، وأكبر مثال على ذلك فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية.
يربط الكرملين بين الفورات ذات الطابع التهديدي والتناقضات في المواقف السياسية للرئيس ترامب بشخصيته الفوضوية والإنتقامية والنرجسية. ويرفض الكرملين النظريات التي تروّج قدرة موسكو للتأثير على ترامب كأنّها تمتلك الخيوط، لتحريكه حسبما تشاء، وهذه مغالطة بعيدة عن الواقع، وأدرك محللون كثيرون، أخيرا، أنّ خلف قناع رجل الاستعراض ترامب تكمن شخصية متمرّدة ثورية، مستعدّة لهدم النظام القديم في أميركا، الأمر الذي سيترك أثره على الصعيد العالمي من دون شكّ.
تسعى سياسة ترامب إلى نشر الرعب في أنحاء الكونغرس، والبحث عن نقاط الضعف لدى الغرماء، لمباغتتهم بهجوم غير أخلاقي وغير متوقع، لتمتين موقفه في صراعه مع النخبة السياسية، كما تمنحه القدرة على ممارسة التطرّف من الوقوف حجر عثرة أمام عقد أيّ تحالفٍ ممكن ما بين النخبة السياسية للحزب الديمقراطي والجمهوري، للدفاع عن النظام الدستوري، وإضعاف دور أيّ معارضة تفكّر بمواجهته. مثالا على ذلك قرار حرمان مواطني سبع دول شرق أوسطية من دخول الأراضي الأميركية، بما في ذلك أطقم الطائرات، وتبعات نقض القرار وإقالة القائمة بأعمال وزير العدل، سالي ييتس، وموظفين في وزارة العدل. وحسب كبير مستشاري البيت الأبيض رجل الأعمال، ستيفن بانون، يعتبر ترامب بمثابة زعيم عالمي معادٍ لحركات العولمة والنخب السياسية والهيكليات المؤسساتية والليبرالية، ويطمح لبناء نظام عالمي جديد حسب رؤيته الخاصّة.
عودة إلى الخبراء الاستراتيجيين في روسيا الذين يبدو أنهم أدركوا أفضل من غيرهم النهج الراديكالي للتغيرات التي حدثت في واشنطن، آخذين بالاعتبار عدوى الثورات وإمكانية انتقالها إلى روسيا، خصوصا أنّ فئات المجتمع الروسي تشعر بالإرهاق من المواجهة المستمرة مع المنظومة الأوروبية، وتحمّل تبعات الحصار الاقتصادي المفروض على روسيا، بعد ضمّها شبه جزيرة القرم.

ترامب المتمرّد.. والمفاجآت
لا يمكن الجزم بصورة قاطعة إذا ما كانت موسكو قد لعبت دورًا بترجيح كفّة ترامب أمام

المرشحة الديمقراطية التي نافسته في انتخابات الرئاسة، هيلاري كلينتون، لكن الواقع يشير إلى ارتياح الكرملين لفوزه أمام كلينتون التي أعربت عن رضاها للثورة وحالة التمرّد التي شهدتها كييف خلال العام 2011 – 2012، وتوقّعت القيادة الروسية موقفًا أميركيًا معاديًا لسياستها حال فوز كلينتون. وعلى الرغم من الرؤية الاستراتيجية الروسية، والتقييم السياسي الجيّد، فوجئ القادة الروس بالتغييرات الجذرية التي شهدها النظام السياسي في واشنطن، وغابت مشاعر الارتياح والفرح بفوز ترامب، وباتت الأمور أكثر تعقيدًا من المتوقع.
وكان الكرملين يأمل بتخفيف الحصار الاقتصادي أو إلغائه نهائيًا مع بداية مرحلة ترامب، لكن الثورة التي أعلنها الرئيس الأميركي تبشّر بحالةٍ من عدم الاستقرار وإمكانية اندلاع معارك اقتصادية، وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، وهذا آخر ما تتمناه روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي المنهار.
من الملاحظ أن ترامب تمكّن من خطف الأضواء، بتصريحاته العنيفة وقراراته المفاجئة، وعدم القدرة على التنبّؤ بخطواته المقبلة، وإمكانية تبنّي مبادرات قادرة على هدم المعايير الدولية، بهذا خسر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، احتكار سياسة المفاجآت، وبات على بوتين والقادة العالميين توقّع خطوة ترامب المقبلة. وعلى الأرجح، ستكون مليئة بالمفاجآت غير التقليدية، وكان المعني بذلك إلى وقت قريب بوتين، عدا عن تراجع العداء تجاه أميركا لدى أوساط روسية كثيرة، في ظلّ تسويق فكرة تبعية ترامب للرئيس بوتين، وإذا أسفرت هذه الحقيقة عن تنحية ترامب من منصبه لاحقًا، سيصاحب ذلك عداء غير مسبوق لروسيا من النخب السياسية الأميركية، ما يعني أيضًا أنّ بوتين بات رهينة نجاح ترامب وقدرته على البقاء في منصبه، الأمر الذي سيحدّ من الإمكانات الجيوسياسية المتاحة أمام روسيا. وقد يؤدي ترويج العلاقة الحميمة بين ترامب وبوتين إلى استغلال الديمقراطيين الحلقة الروسية لتنحية ترامب. في المقابل سيستثمر الجمهوريون هذا العامل، للضغط على ترامب، للالتزام بمواقف صقور الحزب الجمهوري. لا يروق هذا الواقع للكرملين، وهو الخاسر، في نهاية المطاف، لإمكانية تنحية ترامب، أو تغيير مواقفه لإرضاء النخب السياسية في واشنطن، حرصًا منه على البقاء في البيت الأبيض. الجدير بالذكر أن بوتين أحجم عن مطالبة ترامب بدعمه بشأن ضمّ القرم في الاتصال الهاتفي الأول بينهما، وتجاهل أوائل تصريحات إدارته المعادية لروسيا.
بعد تجدّد القتال في شرق أوكرانيا، حاول بوتين جاهدًا التأكيد أنّ حكومة بيترو بوروشينكو هي المسؤولة عن ذلك، وهذا يعني أنّ بوتين بدأ يفضّل لعب دور المدافع، وهو المبادر دومًا بالهجوم.

إيران والصين
ترتبط روسيا بعلاقات اقتصادية وسياسية جيّدة مع إيران والصين، ولدى الكرملين توجّهات

لتحسين العلاقات مع الغرب أيضًا، لكنّ القيادة الروسية ترفض دفع ثمن التقرّب من الغرب والإدارة الأميركية مقابل تبنّي (أو دعم) مواقف معادية لشركائها في الصين وإيران، ولترامب شعبية كبيرة في روسيا الراغبة بوقف العداء مع الغرب، وحرمانها من السفر والتنقل عبر أوروبا وتحمّل تبعات الحصار الاقتصادي، وما إلى ذلك. وتجد هذه الفئات وجود تشابهٍ ما بين الرئيس ترامب والرئيس الروسي السابق، بوريس يلتسين، وهناك بعد عاطفي في هذه المقاربة، فكلاهما يتمتّع بكاريزما وقدرة على مفاجأة المجتمع والأوساط السياسية، وحصر الثقة بأعضاء العائلة والمقرّبين، وكلاهما، كما هو ملاحظ، عيّن عديدين من أعضاء عائلته في مناصب رفيعة. واشتهر يلتسين، كما ترامب، بشخصيته الثورية المتمردة، خلافًا لبوتين، الساعي نحو الاستقرار ورفض الثورات. لذا سارع الأخير بالبحث عن الدروس المستقاة من الثورة البلشفية عام 1917 بدلا من الاحتفال بهذه الذكرى.
قد تشهد المواصفات الشخصية المتناقضة للرئيس الأميركي بعض التغييرات وتحسين آليات التحكّم بالاندفاع والتهوّر، مع مرور الوقت، بتأثير من المستشارين والظروف الآنية والمستجدّات. وترامب، على الرغم من سلبياته، قادر على التواصل بسهولةٍ مع فئات واسعة من المجتمع الأميركي، تؤكّد ذلك آلاف التعليقات والردود التي يعلنها عبر شبكة التواصل الاجتماعي “تويتر”، مع أنّ معظمها لا يحمل طابعًا سياسيًا، ويحاول ترامب، من خلالها، تصفية حساباته مع مناوئيه السياسيين، وهذا يروق للقوميين واليساريين في الغرب، الذين انتهزوا ثورته المفاجئة ضدّ النخب السياسية، للتقرّب من موسكو بصورة علنية وجريئة، وطالب كثير من هذه الأحزاب تعجيل رفع العقوبات ضدّ روسيا، والتلميح بالاعتراف بالقرم جزءا من روسيا الفيدرالية، كما اعترف المجتمع الدولي بكوسوفو. لكنّ ترامب ووزير دفاعه فاجأوا مراقبين كثيرين بتصريحات جديدة أكثر حدّة تجاه موسكو، خصوصا بعد فضح محادثات مستشار البيت الأبيض لشؤون الأمن القومي السابق، مايكل فلين، مع السفير الروسي في واشنطن.
يدافع ترامب عن نفسه، من خلال مهاجمة مناوئيه كالعادة، وربط أخيرا بين محاولات ترويج علاقته مع موسكو، وخسارة كلينتون الانتخابات الرئاسية، ويبدو الكرملين محقًا في قلقه تجاه الطابع الثوري والمتمرّد لترامب، وإدراكه عدم الاعتماد على مواقف ترامب القابلة للتغير في أي لحظة مقبلة.

خيري شلبي
صحيفة العربي الجديد