الاختراقات الروسية لواشنطن وظلال الحرب الباردة

الاختراقات الروسية لواشنطن وظلال الحرب الباردة

تؤكد الدوائر السياسية والاستخبارية الغربية أن روسيا تستثمر في شخصيْ جوليان أسانج وإدوارد سنودن لشن ما يسمونها الحرب الإلكترونية خدمة لأهدافها وإحداث تغيرات سياسية بالأوساط الحاكمة بالولايات المتحدة وأوروبا، وترجيح حظوظ الشخصيات والأحزاب القريبة منها أو التي تراها أنسب لمصالحها.

تشي التسريبات المثيرة أثناء حملة الانتخابات الأميركية والاختراقات الروسية المزعومة لوثائق الخارجية الأميركية أو المخابرات المركزية (سي آي أي) وما تلاها بالعودة بقوة إلى سياقات الحرب الباردة، حيث دأبت روسيا على محاولات اختراق الأمن الأميركي، وكانت قضية اختراق حواسيب الحزب الديمقراطي أحد فصولها. وتذهب بعض التقارير الأميركية إلى أن موسكو نفذت من خلال عملية اختراق خوادم حواسيب اللجنة الوطنية لـ الحزب الديمقراطي الأميركي عملية استخباراتية كبرى سعت من خلالها إلى تسهيل وصول “مرشحها” دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، ضمن إحدى جولات الصراع المتجدد مع واشنطن.ورغم المبالغات الممكنة في هذا الأمر الذي تغذيه وسائل إعلام أميركية، فإن موسكو -وفق التقارير الرسمية الأميركية والتحقيقات الجارية- هدفت إلى زعزعة أركان الديمقراطية الأميركية وإحداث حالة من الفوضى السياسية تثير الشكوك في مدى تماسك النظام السياسي الأميركي.
قضية كبرى
وفي أكبر القضايا المتعلقة بالعمل الاستخباري بين روسيا والولايات المتحدة، طرد الرئيس باراك أوباما 35 من الدبلوماسيين الروس قبيل مغادرته البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني الماضي، في رد على مزاعم الاختراق الروسي الذي تنفيه موسكو دائما، وكانت تلك أضخم عملية طرد تنفذها واشنطن لدبلوماسيين روس، لم تحصل حتى إبان الحرب الباردة.ويؤكد مسؤولون في الاستخبارات الأميركية أن تحرك القراصنة الروس في أنظمة حواسيب الحزب الديمقراطي تواصل لعدة أشهر، وشملت الاختراقات عدة مسؤولين بالحزب وعصفت التسريبات الناتجة عن ذلك الاختراق الكبير بالحزب والحملة، وبحظوظ هيلاري كلينتون لاحقا، وفق تقارير “سي آي أي”.وتشير تقارير أخرى إلى أن قراصنة من روسيا نفذوا نهاية العام الماضي عملية اختراق للشبكة الكهربائية بالولايات المتحدة عبر شركة مزودة للكهرباء في فيرمونت شرق البلاد في ما يشبه عملية الاختبار لعملية أوسع جرت تجربتها في أوكرانيا، وتمهيدا لعمليات أكبر، وفق صحيفة واشنطن بوست.بدورها، أشارت وكالة أسوشيتد برس إلى أن الهدف الجديد للقراصنة الإلكترونيين الروس -والصينيين أيضا- هو قطاع النفط والطاقة الأميركية، وخاصة بـ ولاية تكساس حيث كبرى شركات النفط العالمية، وأكدت تعرض هذه المنشآت لأكثر من تسعمئة محاولة قرصنة خلال الفترة من 2011 إلى 2016.
حرب إلكترونية
وتشير الدوائر السياسية والاستخبارية الغربية إلى أن روسيا تستثمر في شخصين اثنين، هما جوليان أسانج وإدوارد سنودن لشن ما يسمونها الحرب الإلكترونية خدمة لأهدافها، وإحداث تغيرات سياسية في الأوساط الحاكمة بالولايات المتحدة وأوروبا، وذلك بترجيح حظوظ الشخصيات والأحزاب القريبة منها، أو التي تراها أنسب لمصالحها. ويطرح استقرار سنودن، الموظف السابق في جهاز المخابرات الأميركية وهو الذي فضح المخابرات الأميركية والبريطانية بعد كشفه عن برامجهما في التجسس على المواطنين والقيادات بالدول الغربية الحليفة، الكثير من الأسئلة حول علاقته بموسكو قبل وبعد استقراره فيها. ويتوقف الخبراء كثيرا عند الدور الذي يلعبه الأسترالي أسانج، صاحب موقع ويكيليكس الذي نشر الرسائل المقرصنة من الحزب الديمقراطي، ويؤكد الكثيرون منهم أن الاستخبارات الروسية نفذت عملية الاختراق وسربت الوثائق لاحقا لأسانج في مستقره بسفارة الإكوادور في لندن.وتؤكد صحيفة نيويورك تايمز أن أسانج يخدم المصالح الروسية في النهاية، باعتبار أن جميع الوثائق والرسائل التي نشرتها “ويكيليكس” طيلة أعوام، عندما بدأ بتسريب الوثائق الدبلوماسية للخارجية الأميركية، كان هدفها البيّن ضرب المصالح الأميركية وخدمة المصالح الروسية بشكل أو بآخر. ويعبر أسانج وسنودن -ومعهما جيوش من القراصنة الأشباح- عن توجه جديد في العمل الاستخباراتي الذي تمارسه روسيا بقوة ضد الولايات المتحدة والدول الغربية، كما تقوم به واشنطن حتى ضد حلفائها، من خلال التجسس الإلكتروني على قادة أوروبيين حلفاء، ووزراء، ومديري بنوك وغيرهم.
صراع متجدد
وبالعودة إلى سياقات الحرب الباردة، حينما كان التجسس يعبر عن عمل بشري صرف بقدرات عقلية ونفسية استثنائية قبل أن يحصل التقدم التكنولوجي الهائل، نفذ جهاز المخابرات الروسي “كي جي بي” عمليات كبيرة في الولايات المتحدة والدول الغربية، حينما كان العالم مقسما إلى غرب وشرق، أو “ليبرالي” و”شيوعي”.وتشير الوثائق إلى عدد من الجواسيس الروس الذين اخترقوا المؤسسات الأميركية، وبينهم من كان يعمل في مقر “سي آي أي” في لانغلي بولاية فيرجينيا لسنوات قبل الإطاحة به، أو في مكتب التحقيقات الاتحادي (أف بي آي).ومن بين هؤلاء “ألدريش إيميس” الذي كان محللا في قسم مكافحة التجسس بالولايات المتحدة، الذي تم تجنيده من قبل الروس عام 1985 لاستقاء المعلومات حول أسماء المخبرين والعملاء السريين الأميركيين العاملين في الاتحاد السوفياتي، ليعتقل عام 1994.وتعد عملية إيميس من أكبر النجاحات الاستخباراتية للاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، حيث يعتقد أن المعلومات التي قدمها تسببت في القبض على عدد من العملاء الأميركيين وإعدامهم، وسجن عشرات آخرين.أما العميل السابق بمكتب التحقيقات الفدرالي روبرت هانسن، فقد جندته الاستخبارات الروسية، وعمل لمصلحتها لنحو 15 عاما قبل اعتقاله عام 2001، وهو الذي قدم معلومات في غاية الخطورة عن أقمار التجسس الأميركية ونظم الأنذار المبكر وأنظمة الاتصالات الأميركية، ومعلومات أخرى للروس.وبعد الحرب الباردة، اشتهرت الجاسوسة الروسية آنا تشابمان التي اعتقلت مع آخرين بالولايات المتحدة عام 2010 بتهمة التجسس، وأعيدت إلى روسيا ضمن صفقة سرية كانت الأكبر من نوعها منذ نهاية الحرب الباردة، ولم يكشف بدقة عن حجم ما سربته من معلومات. وهذا الصراع الخفي الذي حققت فيه الولايات المتحدة أيضا انتصارات إبان الحرب الباردة، ينتقل اليوم إلى مجال أكبر اتساعا، ضمن ما يعرف بالتجسس الإلكتروني أو المعلوماتي بجوانبه السياسية الاقتصادية والعسكرية وغيرها، ولم تكن قضية الاختراق الروسي للحزب الديمقراطي الأميركي إلا الجزء البارز فيه من جبل الجليد الضخم الذي يمثله.
الجزيرة