العرب والعامل الخارجي

العرب والعامل الخارجي

كثيراً ما لجأ الوعي العربي، في تفسيره أسباب الإخفاق في حلّ المسألة الكيانية منذ ميلادها في حقبة الأفول العثماني، إلى ردّ أسباب الإخفاق ذاك إلى العامل الاستعماري، الذي كان هو نفسُه في أساس ميلادها كمسألة. وفي سياق التفسير ذاك يُؤتى بالشواهد الدالة على الفرضية: «اتفاق سايكس-بيكو»، معاهدات الحماية والانتداب، «وعد بلفور»، رعاية مشروع جامعة الدول العربية (بريطانيا) ليكون بديلاً من التوحيد القومي وليكرّس مبدأ استقلال الدول العربية عن بعضها، تخريب الوحدة المصرية-السورية ودقّ الإسفين بين الدول العربية والتلاعب بخلافاتها على الحدود، التدخل العسكري العنيف لمنع أيّ دولة عربية من حيازة قدرة استراتيجية، عسكرية وعلمية، تسخِّرها للقيام بأدوار قيادية في محيطها أو لتحقيق نموذجٍ من التقدُّم جاذبٍ، هندسة حروب أهلية عربية (لبنان، الجزائر، العراق…) وحركات انفصالية (جنوب السودان، جنوب المغرب، شمال العراق، شمال سوريا) لإغراق البلدان العربية في مشكلاتها الداخلية وتحريض جماعات أقوامية على عروبة كيانها… الخ. والحق أنّ حُجَّة الوقائع هذه من القوّة والبيان بحيث لا تقبل الدحض أو الردّ، وإلى ذلك فإنّ التقدير العلمي لكلّ ما جرى منذ قرن أو -على الأقل- منذ ثمانين عامًا يقطع بأن «الڤيتو» الخارجي على أي مشروع للتوحيد القومي أمرٌ لا مبعثَ للشكّ فيه، وأنه تولَّد من اتصاله بجملة من الحقائق والعوامل في قلبها:
1-مصالح دول الغرب الكبرى المتعاقبةِ نفوذًا، في الوطن العربي (بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة)، وهي كثيرة ومتنوعة: من الموقع الجيوستراتيجي للبلاد العربية، كممرّ للتجارة البحرية الدولية التي عظُمَت منافعُها منذ شقِّ قناة السويس في ثمانينات القرن التاسع عشر، وكملتقى قارات ثلاث. وهي مصالح تعاظمت أكثر من الزاويتين الاقتصادية والأمنية منذ ثلاثينات القرن العشرين: منذ اكتشاف النِّفط، ومنذ اندلاع الحرب الباردة وتبيُّن الموقع الحيوي للبلاد العربية كحيِّزٍ أمامي لصدِّ المدّ الشيوعي السوفييتي، مع ما اقترن بذلك من سياسات أمريكية في زرع القواعد العسكرية، الجوية والبحرية، لمواجهة الاتحاد السوفييتي.
2-وجود الدولة الصهيونية في قلب البلاد العربية، بما هي جزء من منظومة المصالح الغربية ووكيلٌ إقليمي لتلك المصالح، والحاجة إلى حماية ذلك الوجود وتعزيزه في وجه المخاطر المحدِقة به، وأكبر المخاطر تلك وحدةٌ كيانية عربية يَقْوى بها العرب، وتشتد بها شوكتُهم وتضعُف بها، بالتالي، قوّةُ الكيان الوكيل. ولم تقتض الحماية الغربية للكيان الصهيوني توفير أسباب البقاء والتفوّق له -اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً- فقط، وإنما حملت دول الغرب، أحياناً، على التدخل العسكري لمصلحته، على مثال التدخل العسكري البريطاني الفرنسي في حرب السويس 1956 (العدوان الثلاثي على مصر)، وعلى مثال الجسر الجوي الأمريكي في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، أو على مثال تدمير القوة الصناعية والعسكرية للعراق. هذا دون الحديث عن حزام الأمان السياسي، الأمريكي والغربي، للدولة الصهيونية على جرائمها وانتهاكاتها للقوانين الدولية بتسخير سلطة «الڤيتو» في مجلس الأمن، ناهيك بابتزاز دول العالم الأخرى لمنعها من إدانة «إسرائيل» في الجمعية العامّة للأمم المتحدة.
في الحالين، في الحال التي تؤسِّس فيها مصالحُ الغرب في بلادنا سياساته نحونا، وفي الحال الذي تلْحظ فيه السياساتُ تلك مصالحَ الوكيل الصهيوني (وهي جزءٌ من مصالحه)، لاشيء يعترض السيطرة الغربية الكاملة على المنطقة وثرواتها سوى وحدة شعوب المنطقة تلك في كيانيةٍ جامعة: مركزية اندماجية، فيدرالية أو كونفدرالية، فالوحدة تلك -إنْ هي تحققت- ستخلق ميزان قوى جديدًا لا تضمن القوى الغربية أن يَترك لها سبيلاً مفتوحًا أمام تحقيق أغراضها بيُسر (في السيطرة على الثروات والأجواء والمياه والسياسات والقواعد)، كما لا تضمن لها أن يَبقى وجودُ الدولة الصهيونية خارج دائرة الخطر. وفي مقابل مشهد الوحدة، الذي تخشاه دولُ الغرب وتحاربُه بالأساليب كافة، لا يناسبُ مصالحَها ومصالح وكيلها غير استمرار التجزئة والفُرقة والتمزُّق وضعًا دائمًا ومستمرًّا، يفتح البوابات أمام النفوذ الأجنبي، ويضع أمن الكيان الصهيوني في حالٍ من الاطمئنان الكامل من أيّ أخطار مفاجئة.
لسنا نشكّ في وجاهةِ تحليلٍ يرُدُّ واحداً من أسباب عجز العرب عن حلّ المسألة الكيانية في بلادهم إلى دور الاستعمار والإمبريالية والصهيونية في ردع محاولاتهم الحلَّ ذاك. وهذه حقيقة تقوم عليها الشواهد منذ نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر: منذ ضرب مشروع إبراهيم باشا -ابن محمد علي باشا- لتوحيد مصر وسوريا من قبل البريطانيين والفرنسيين المتحالفين ضدّه مع غريمهم العثماني، أي قبل «سايكس بيكو» والانتداب بثلاثة أرباع القرن، وحيث لم يكن هناك نِفطٌ ولا «إسرائيل». ولكن المشكلة تبدأ حين يقبع الوعي العربي في هذه اليقينية لا يبارحها، فلا يكاد أن يتخيل أسبابًا وعواملَ أخرى لنكبته الكيانية غير الأسباب والعوامل الخارجية تلك، أو قل لا يكاد أن يفترض أنّ في جملة تلك الأسباب والعوامل ما هو ذاتي، ما يتعلق بقصورٍ وأخطاء في الخيارات أو في الرؤى والسياسات المطبَّقة. والنتيجة أنّ الوعيَ إيّاه يقدّم لخصومه، بإعراضه عن الاحتفال بالعوامل الداخلية وآثارها، أمثل مناسبة للقدح فيه، وفي موضوعيته، واتهامه منه بالانسجام في غيتو المؤامرة، تبرئةً منه للذات، أو تغطيةً منه للعجز والفشل، وما في معنى ذلك.
والحقّ أنه بعيدًا عن الحاجة إلى ردّ الاتهامات تلك، أو تبرئة النفس، لم يعد للوعي العربي من مهرب من واجب إعادة النظر في منظومة التفسير التي درج عليها في إدراكه أسبابَ الإخفاق الكياني، لأنّ التدقيق في التشخيص وفرز الأسباب وتصنيفها، وبيان أثقلِها وطأةً وأخفِّها، يفتح بابًا إلى نهج سياسات صائبة، أو على الأقل، أرشدَ من سابقاتها في مضمار حل المسألة الكيانية في الوطن العربي.

عبدالإله بلقزيز

صحيفة الخليج