مظاهر فشل مشاريع التكامل الأوروبي

مظاهر فشل مشاريع التكامل الأوروبي

تزايد تأثير الأحزاب القومية أخيرا في الاتحاد الأوروبي، مع اقتراب سلسلة من الانتخابات في العديد من دول المنظومة، الانتخابات البرلمانية في هولندا، انتخابات الرئاسة في فرنسا، ولكن لا توجد مخاوف من انهيار الاتحاد الأوروبي، حتّى وإن فاز فيرت فيلدرز زعيم الحزب اليميني المتطرّف في هولندا، فعليه أن يتعامل ويتأقلم مع وسط سياسي متمايز ومختلف، من دون التمكّن من فرض رؤيته الخاصّة بالانسحاب من الاتحاد، وكذلك الأمر حال فوز مارين لوبين في فرنسا، فهذا لا يعني كذلك انتهاء الاتحاد الأوروبي، وعلى لوبين أن تواجه برلمانًا لا يخضع لجبهتها الوطنية المتطرّفة، ومن الطبيعيّ أن يعارض توجّهاتها ورغبتها الجامحة بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي، كما بريطانيا من قبل.

ألمانيا وزعامة الاتحاد الأوروبي
من المتوقّع أن تبذل المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، جهودًا جمّة، للإبقاء على التحالف الاستراتيجي مع فرنسا، بشأن زعامة الاتحاد في المستقبل، على الرغم من الصعوبات والتحدّيات التي تعصف في الجناح الشرقي من القارة الأوروبية. الانتخابات الألمانية تقليدية، وتبدو مملّة من دون مفاجآت، وستضمن سياسة التتابع في ألمانيا حالة الاستقرار على الصعيد الأوروبي، خلال سنة الانتخابات في دول أوروبية عديدة 2017. لكن العام المقبل 2018 هو الأهم، ويحمل في طيّاته مفاتيح مستقبل الاتحاد، فإمّا اتّحاد أقوى من أيّ وقتٍ مضى، بعد انتهاء الارهاصات ومرحلة المخاض الحالية، أو اتحادًا ضعيفًا لا يقوى على مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لا يمكن الاستهانة كذلك بقرار انفصال بريطانيا، وعلى ما يبدو، ستصاحب هذه العملية

مصاعب كثيرة، حسب توجّهات الحكومة البريطانية التي تحمّل بروكسل مسؤولية هذا القرار وتبعاته، وستحاول لندن التأثير على مواقف بعض الدول الأعضاء، لتبنّي مواقف سلبية وحادّة تجاه الاتحاد في مقابل بعض الوعود، مثالا إرسال مقاتلين بريطانيين إلى لاتفيا، والسماح لمزيد من المواطنين البلغار والرومان للعمل والإقامة في بريطانيا، الأمر الذي سيزيد من حدّة التوتّر بين الدول الأعضاء، وتوتّر المناخ العام في الاتحاد الأوروبي، تزامنًا مع أزمة اللجوء والترويج الإعلامي ضدّ المشرق والإسلام، بصورة باتت علنية، وكذا مشكلات نادي اليورو المرافقة لمشروع وضع واعتماد إطار موازنة النادي، لما بعد العام 2020. وسط عوامل التفرقة هذه، يبقى اللاعب الأقوى في هذه المعادلة بريطانيا، الراغبة بالحفاظ على مكتسباتها الاقتصادية ضمن السوق الأوروبية الحرّة، ومجموعة فيشغراد أيضًا، التي تفضّل حاليًا استخدام الفيتو لتحول دون تمكّن الاتحاد من اتخاذ قرارات تقدّمية مختلفة عن رؤية المجموعة التي تضمّ كلّا من (بولندا، هنغاريا، تشيكيا وسلوفاكيا).

مشاريع التكامل الأوروبي
تأسيس جيش دفاع مشترك، وهذه فكرة ليست جديدة، لكنّها لم تتمكّن من إحراز تقدّم ملحوظ. المشروع التكاملي الآخر حسب الكتاب الأبيض الذي أصدرته المفوضية الأوروبية يتمثّل بسعي بروكسل إلى تأسيس هيئة ادّعاء عام مشتركة، لرفع مستوى أداء النيابة وقطاع القضاء، وتحسين التعاون المشترك ما بين الدول الأعضاء، وشارك بوضع نصوص الكتاب، جان كلود يونكر رئيس المفوضية، فيرا يوأوروفا المفوّضة المسؤولة عن قطاع العدل والمستهلكين والمساواة بين الجنسين، والمفوّض غيونتر يوتنغر مسؤول شؤون المالية والموارد البشرية. ويهدف المشروع إلى مكافحة عمليات الفساد واختلاس أموال الصناديق الأوروبية، وتفيد التقارير المختصّة أن أموالاً كثيرة في دول الاتحاد تسربت من دون توظيفها في المجالات المعنية، عدا عن الجرائم ذات الطابع المالي الضرائبيّ المباشر، ووافقت 17 دولة حتّى اللحظة على التعاون في هذا المجال، لكنّ ذلك يحتاج خططاً وطنية، وتوافقا سياسيا لتحقيق النجاح المطلوب.
عجز الاتحاد عن تبنّي سياسة واضحة واستراتيجية طويلة الأمد للتعامل مع أزمة اللجوء، وغالبًا ما يلجا القادة إلى تقديم الأموال، كحلّ جذري لهذه الأزمة، لكنّ الأموال تصرف في مجالات مختلفة من دون تحقيق الفائدة المرجوّة، وتطالب دول التماس برفع تعداد فرق حرس الحدود المشتركة (فرونتكس)، وتقديم الآليات الحديثة لرفع أداء حرس حدود الدول المعرّضة لاقتحام اللاجئين أراضيها، كاليونان وبلغاريا.
كما فشل الاتحاد بتحقيق التكامل بين دول المنظومة على صعيد السياسة الخارجية، وتبنّي مواقف متماثلة، وغالبًا ما تتبنّى الحكومات اليسارية مواقف متباينة مع الحكومات اليمينية، حتّى في القضايا الاستراتيجية، إلى درجة يرى فيها المراقب أنّ بعض الحكومات تشكّك بفكرة التأسيس الأصولية للاتحاد، وغالبًا ما يكون الملف الروسي عاملا رئيسًا في هذا التباين، ما بين دعم العقوبات الاقتصادية ورفضها، وتحديد موقف واضح ومبدئيّ من الحرب والصراع الذي تشهده سوريا.

المسيرة الأوروبية وسرعات متباينة
يرى جوزيف يانينغ مدير مكتب برلين للمجلس الأوروبي للسياسة الخارجية (ECFR) منذ العام 2014، والخبير الاستراتيجي للسياسة الخارجية الألمانية، أنّ 2018 سيكون عاما

حاسمًا وسيشهد مسيرة أوروبية بسرعات مختلفة، ستؤدّي إلى تخلّف بعض الدول (أوروبا الشرقية) عن المركب الأوروبي. ويؤكّد يانينغ على ضرورة تعديل اتفاقيات الانضمام للاتحاد، للتوصّل إلى صيغة توافق، بشأن إصدار القرارات المهمة، وتحقيق أهداف التكامل الأوروبي، وتنفيذ مسيرته المستقبلية بسرعة موحّدة، هذه هي المرّة الأولى التي تطرح فيها مبادرة لتعديل اتفاقيات الانضمام. قد يكون هذا المطلب طموحا للغاية، لكنّه محفوفٌ بالمخاطر، ويتطلّب إعادة النظر باتفاقية ماستريخت التأسيسيّة، وهذه عملية معقّدة على الصعيد الإداري والمؤسساتي، وتحتاج لإعادة النظر في كل مؤسسات الاتحاد، الأمر الذي يتعذّر الشروع به عمليًا خلال العقدين المقبلين. لذا، يجدر البحث عن مبادرات أكثر واقعية وقابلة للتنفيذ، في إطار الاتفاقية الحالية، لكن الدول الأوروبية لا تبذل جهودًا في هذا المجال. مثالا، رفض قرار توزيع عدد من اللاجئين بين دول الاتحاد على مبدأ الكوتا الذي أقرّته بروكسل قبل سنوات. كيف يمكن تقدّم الاتحاد في ظلّ هذه الوضعية؟ التقدّم المرجوّ رهن إرادة الدول الأعضاء، خصوصا دول نادي اليورو الذي يشهد كذلك نموًا متباينًا، ففي وقت يشهد فيه الاقتصاد الألماني تقدّمًا واضحًا، تتراكم الديون الخارجية في موازنات عديد من دول نادي اليورو، كاليونان وإسبانيا وإيطاليا وغيرها. وكذا معاهدة الشنغن التي رفضتها بريطانيا وإيرلندا، ولم تتمكن بلغاريا ورومانيا من الانضمام إلى فضاء الشنغن، لمعارضة هولندا وبعض الدول الأخرى لهذه التوجّهات، وتوقّع تباين وخلاف داخل دول الشنغن ذاتها في المستقبل المنظور، لانعدام آليات السيطرة والتحكّم على الحدود المشتركة بينها.
سيشهد الاتحاد تشكيل عدّة مجموعات، تسعى إلى التكامل ما بينها لتقارب وجهات النظر والرؤية المستقبلية، من دون العودة أو الالتزام لقرارات بروكسل المركزية، الأمر الذي سيؤدّي إلى عدم انسجام أداء المؤسسات الأوروبية. ليس بالضرورة على أيّة حال، أن يقلق هذا الواقع الدول المعنية التي ترغب بدورها إرضاء رغبات الفئات المختلفة لمجتمعاتها، على الصعيد الوطني وليس الأوروبي، كما هو الهدف الأصوليّ لاتفاقية ماستريخ التأسيسيّة. يمكن للدول الأعضاء الموجودة في المدارات البعيدة عن المركز، الانصياع لإرادة بروكسل وقراراتها، حال تحقيق نتائج محسوسة وتقريب مستويات المعيشة ما بين دول المنظومة في غرب أوروبا وشرقها.

خطة لسرعات متباينة ومعارضة
رفضت عدّة دول أوروبية شرقية بزعامة بولندا وهنغاريا، الخطّة التي تقدّم بها رئيس

المفوضية يونكر، حسب “تلغراف”، لتخوّف هذه الدول من تبعات الخطة التي لا تأخذ بالاعتبار مصالحها، وستعمل على إيجاد نواة أوروبية فدرالية، ما بين ألمانيا وفرنسا تحديدًا وبدعم إسباني وإيطالي.
وحذّر وزير الاقتصاد الهنغاري، ميخالي فارغا، من اللاعبين الكبار في أوروبا الذين يتجاهلون مصالح الدول غير الراغبة بالانضمام لنادي اليورو، وأوضح الوزير أنّ هذه السياسة قد تؤدّي إلى قلق وتوتّر اجتماعي، ويخشى كذلك من بقاء الدول غير الأعضاء في نادي اليورو “خارج” نواة الاتحاد،
وأوضح بيتير كليبي مدير مكتب “Open Europe” أنّ مقترحات يونكر هي تكرار للدوغما الأوروبية البالية، وليست ثمرة لتجربة حقيقية للتعامل مع المشاكل البنيوية في المنظومة الأوروبية. والخطّة تكريس للواقع المليء بالتناقضات، وخسارة للإمكانات المتاحة أمام الاتحاد.
اعتبر جاني بيتيلا رئيس الكتلة الاشتراكية والديمقراطية في البرلمان الأوروبي خطّة يونكر بمثابة خطأ سياسي واضح، وقصر نظر للرؤية المستقبلية للمفوضية الأوروبية لمسيرة الاتحاد حسب بوليتيكو. وأعرب بيتلا، قبل يوم من طرح الخطّة، عن خيبة أمله من محتوى المسودّة التي تشمل خمس نقاط، خالية من أيّة تصوّرات سياسية، ورفض زعيم الكتلة الاشتراكية رهن مستقبل أوروبا والتضحية به، بسبب تخوّف المفوضية من الانتخابات الوطنية. ودعا يونكر المفوّضية لتقديم خيار سياسي واضح أمام الدول الأعضاء.
تدعم إسبانيا وإيطاليا خطّة يونكر لمسيرة الاتحاد بسرعات متباينة، تأكّد ذلك خلال اجتماع القمّة في قصر فرساي بالقرب من باريس قبل أيام، شارك في أعماله الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيس الوزراء الإيطالي، باولو جينتيلوني، ورئيس الوزراء الإسباني، ماريانو راخوي. اجتماع القمّة المصغّر يسبق اجتماع القمة الأوروبي في روما في 25 مارس/ آذار 2017، بمناسبة مرور ستّين عامًا على اتفاقية روما لتأسيس السوق الأوروبية المشتركة، حيث من المقرّر مناقشة مستقبل الاتحاد الأوروبي، بعد قرار انفصال بريطانيا.

أوروبا الشرقية في مؤخّرة القطار
من الواضح أن جوهر خطّة المفوّضية المقبلة يتنافى مع فكرة التأسيس لتكامل المنظومة الأوروبية، لتمضي بسرعة موحّدة، وبات هذا الهدف صعب المنال، بدليل استمرار الهجرة الداخلية من شرق أو أوربا إلى غربها، وهذا أحد العوامل الرئيسة لانفصال بريطانيا عن المنظومة. كما ترفض دول أوروبا الشرقية ومجموعة فيشغراد توجّهات المفوضية الأوروبية، والبقاء في القاطرات الأخيرة.
حذرت رئيسة الوزراء البولندية بياتا شيدلو من أنّ بلادها لن توافق على خطّة المفوضية، لأنّها ستؤدّي إلى مزيد من الانشقاق والخلاف في الاتحاد، إذا أصرّت الدول القوية والمتقدمة اقتصاديا على التكامل والتنسيق ما بينها في كل المجالات، على حساب الدول الضعيفة. واتّهمت الزعيمة البولندية الرئيس الفرنسي هولاند، بممارسة الضغوط على بولندا ومحاولة تجميد صناديق المساعدة المالية، بسبب موقفها الرافض انتخاب دونالد توسك، رئيسًا للمجلس الأوروبي لدورة ثانية، كما رفضت بولندا دعم البيان الختامي لمؤتمر القمّة في بروكسل.
من المتوقّع كذلك أن تبقى رومانيا وبلغاريا في مؤخّرة القطار، تزامنًا مع التوجّهات السياسية الجديدة في بلغاريا، الداعمة مواقف تبدو مخالفة لقرارات بروكسل ومواقفها، بشأن الملف الروسي وبرامج حلف شمال الأطلسي (الناتو) ورفض اتفاقية التجارة والتعاون مع كندا.
مجموعة فيشغراد أصدرت بدورها بيانًا مشتركًا في وارسو، طرحت خلاله اقتراحات محدّدة لتطوير وتنمية مستقبل الاتحاد، وستقدّم الوثيقة للنقاش خلال لقاء القمة المقبل في روما بتاريخ 25 مارس. وجاء في البيان أيضًا رفض المجموعة لتجزئة الاتحاد بصورة قطعية، لأنّ هذه التوجّهات ستمهّد لإضعاف القارة الأوروبية.
البيان يطالب كذلك بضمان عمل السوق المشتركة، ورفع آليات الإدارة وتحكّم السلطات الوطنية لدول الاتحاد ولعب دور فاعل لاتّخاذ القرارات في مؤتمرات القمة، والمشاركة في العمليات الحيوية لمؤسسات الاتحاد. وأكّد البيان على اعتماد عمليات إصلاحية، تأخذ بالاعتبار مصالح كافّة الدول الأعضاء بعدالة.
يرى مراقبون أنّ بولندا التي تتمتّع بامتيازات كبيرة، وتحصل على حصّة كبيرة من صناديق المساعدات الأوروبية، تجد في نفسها الكفاءة لاحتلال مكانة بريطانيا الشاغر، لكن شيدلو واجهت عزلة كبيرة في بروكسل، وفشلت بتنحية توسك عن منصبه، لتتبوّأ بولندا منصبًا متقدّمًا في مراكز القرار في بروكسل، كما هدّد وزير الخارجية البولندي، فيتولد فاشتشيكوفسكي، في نهاية المطاف، بتبنّي سياسة حادّة تجاه بروكسل، وكلّ ما يصدر عنها من قرارات، حسب “رويترز”، ما يدلّ على تنامي الخلاف، وتأكيد مسيرة الاتحاد بسرعات متباينة.

خيري حمدان
صحيفة العربي الجديد