الفاشية ودستورها

الفاشية ودستورها

تنسج الفاشية شباكها في الواقع العربي بما يتقدّمها من إرهاصات التمجيد والتخدير والغفلة، وما تجرّه من عواقب قد تحرق البلاد والعباد إن لم تكن قد فعلت بعد.

تمجيد العسكرة
تتضاءل أهمية التفاصيل المتزاحمة في المنعطف العربي الراهن، لحساب عناوين عريضة. لا يتوقف الأمر عند حدود العسكرة، بل يتجاوزها إلى تمجيدها أو تقديسها ضمن الجمهور الذي تتصدّره صفوة السياسة والثقافة والإعلام والعمائم والصلبان.

في طوابير المصفِّقين حشد من وجوه وأسماء قضت حياتها تنظيرا للديمقراطية والحريات والمجتمع المدنيّ والدولة الحديثة، فآثرت أن تختتم مسيرتها بالتنكّر لذاتها والخروج من التاريخ بدل النهوض بمسؤولياتها في التصدِّي والتوعية.

هي إشارة أخرى إلى الفاشية، إذ تمتطي نخب السياسة والإعلام والثقافة والفنّ والمناصب الدينية، فتؤول وجوه بزغت وأسماء لمعت إلى أعباء تُثقل ذاكرة الأمّة التي ستتجرّع خيبة الرجاء.

يعبِّر خطاب السياسة والإعلام والثقافة عن سطوة العنف المادي واللفظي. يغترف المتحدثون من قاموس الفتك والانتقام والوعيد ما يصنع عناوين الأخبار ومتونها بما يبرهن على مدى التشوّه الذي بلغه الواقع.

لا تحتمل الفاشيةُ أمما حيّة، فتباشر الإجهاز على المجتمع ضمانا لفرض النظام واحتواء الدولة.

تتفاقم الهيمنة على الأصوات الإعلامية والمنابر الدينية، فتتمّ تعبئتها بخطاب يُنعش البطش والسحق والتخدير، بما يضمن انقياد الجماهير الأعمى خلف رجل الخلاص الذي ستتعلّق به الآمال ويغدو عنوانا للولاء الجمعي.

إنّه الرمز المعبِّر عن الوطن، فيرتهن مؤشِّر الوطنية بمدى الولاء للصنم أساسا وقبل أي شيء.

وتأتي الهجمة على تيّارات السياسة وأطياف المجتمع ورموزه اليقِظة تباعا، ما لم تعلن الرضوخ أو تقبل المُداهنة. ولأنّ حظرها لا يكفي، لا يتورّع المنطق الفاشي عن استحضار وصمة “الإرهاب” بحقها، بما يُعفي عصا السلطة من الالتزامات القانونية والضوابط الأخلاقية. فمن يلتصق بهم النعت المشؤوم لا يستحقّون الانتماء إلى شعبهم أو وطنهم، بل هم مثل “برابرة” الأمس مُجرّدون من الإنسانية فيجوز الفتك بهم دون وخز الضمائر.

تنخرط الجوقة في تسعير النيران التي ستُقذَف فيها القوى السياسية والمجتمعية التي ترفض الانسياق، خاصّة إن تأهّلت لكسب المجتمع في الماضي أو الحاضر.

وستجد تشريعات التصنيف بالإرهاب مَن ينتقدها من جوقة “الحكماء”، لأنها أتت “متأخرة” أو “غير كافية”، وستعلو عبر البثّ المباشر مزايدات التنادي لنصب أعواد المشانق بحقّ “أعداء الشعب والوطن”.

تقويض الدولة
ما إن تُمسِك الفاشية بخناق الدول حتى تخطّ دساتيرها وتسنّ قوانينها وتفرض تقاليدها، دون أن تعجز عن حشد الجماهير المُخدّرة لشرعنة المسار، أو للتفويض باقتراف الفظائع، ثمّ صرف الجماهير ذاتها بانتظار الاستدعاء القادم.

لا مكان لجماهير مستقلّة عن النظام الفاشي، بما يعني نزع الصفة الإنسانية عن ميادين بكاملها تمهيدا لفعل السحق الشامل.

تلتهم الفاشية الدولة ذاتها، لحساب النظام الذي يجري فرضه بلا هوادة، فتتجرّد مؤسسات الدولة من هيبتها وتتنازل عن تاريخها ومكتسباتها لمغامرات الصاعدين الجدد.

تنتفي الحاجة إلى البرلمان ابتداء، لصالح قطاعات محسوبة من الجماهير يجري استحضارها في الميادين والنفخ فيها بمقاييس أسطورية تتوارى صناديق الاقتراع خجلا منها.

ويؤول المشهد الحزبي إلى لافتات وفيرة العدد لا تجد من يحملها، بعد سحق الأحزاب الفاعلة أو الإمساك بخطامها وجرِّها إلى حظيرة الإخضاع.

ويتّضح مع الوقت كيف يستحيل القضاء حلبةً لتصفية المجتمع ومطاردة الهيئات والمنظمات والأحزاب والجمعيات الأهلية، فتتوسّع عرائض الاتهام دون أن تستثني من تعجّلوا بالتصفيق للعهد الجديد.

إنها مقدِّمات لما هو أسوأ وحسب، ذلك أنّ التأسيس لجيل جديد من القضاة الملائمين تماما لمقتضيات العهد الفاشي سيمضي على قدم وساق دون ضجيج.

يُعيد النظام ترتيب سلّم المكانة الرمزية طبقا لمقتضيات الحظوة العسكرية والأمنية، يتضاءل الرئيس ويتقلّص لصالح الدبابة التي حملته إلى القصر، وفي حضرة سيد العسكر الذي يتصدّر المشهد لا تكترث الأضواء برئيس الحكومة.

يتطلّب الموقف تزجية الوقت بتوزيع مناصب شكليّة على مَن لا يحكمون حقّا، مع تشكيل لجان تمنح الانطباع بأنها تمارس التشريع وكتابة “دستور الأمة” الذي ستقدِّمه الأبواق كأفضل وثيقة منذ شرعة حمورابي.

وما إن يستتبّ الأمر في عاجله أو آجله لمن بيده الأمر حتى تنتظم الأشكال وفقا لميزان الحظوة، فتُزاح الهياكل الشكلية لصالح السيد الممسك بكلّ الخيوط، أو لفائدة طبقة النبلاء الجدد التي تهيمن على المشهد.

حالة تشبيك عربية
مُفزع أن ترضخ دنيا العرب لهذا المسار الكارثي في القرن الحادي والعشرين، بعد أن خبر العالم تجارب وخيمة العواقب تبرّأت منها أممها وشعوبها، وبُعيْد نسائم الحرية التي داعبت شعوب المنطقة.

ولئن برزت مصر في بؤرة الحدث، فإنّ تجلِّيات الظاهرة الفاشية تمتدّ عبر الأفق العربي في أنشط حالة تشبيك تُحرِز التكامل بين مَن يَسحق، ومَن يبرِّر السحق، ومَن يدفع له بسخاء بالغ.

وفي تفسير ذلك أنّ النموذج السلطوي الذي تسيّد الرِّقاع العربية بعد إعلانات الاستقلال قد تضعضع حقّا مع الهبّات الشعبيّة، فلم يعد قابلا للاستدامة، وهكذا تمضي الأمّة على سكّة صراع مفتوح بين نموذجيْن متناقضيْن بصفة وجودية. فهناك الانشداد إلى نموذج دولة الحرية والكرامة التي تستمدّ شرعيّتها من إرادة شعبية حرّة تدرك مكانتها اللائقة بها في الإقليم والعالم، ويقابله ارتكاس إلى نموذج الاستبداد الشامل الذي يراهن على إعادة إنتاج المجتمع برمّته فيَضيق حتى بالهوامش الشكليّة التي أتاحتها الأنظمة السلطوية في ما سَبق.

لا يُراد لربيع الحرية أن ينكفئ وحسب، بل يتسارع التأسيس لحقبة الاجتثاث والاستئصال التي تتفرّغ فيها الأنظمة للانقضاض الشرس على مقوِّمات الحرية والكرامة، فيزيائيا ومعنويا.

في الشقّ الفيزيائي يتفاقم فعل الانقضاض على البشر والمؤسسات، حتى يتحوّل التنكيل بالمجتمع، والفتك بالمواطنين فرادى وجماعات، إلى ممارسة يومية مُستساغة، تتضاءل معها قيمة الإنسان إلى الحضيض ويتلاشى تقدير المجتمع لذاته. يغدو الضحايا مجرّد حصيلة عددية مألوفة في ثنايا الأخبار لا تستدعي صرف النظر إلى ما يتوارى خلفها من وجوه وأسماء وقصص صادمة، وكأنّ القتيل يتحمّل وزره في حضرة القاتل.

وفي الشقّ المعنوي تتفاعل عملية التعبئة والتخدير على شتى الأصعدة، فلا تستدعي المذابح وحملات الحرق أيّ كبح للمنافسات الكروية والاحتفالات الغنائية، أو التخلي عن المفاخرة بالألعاب النارية في رأس السنة مثلا.

ولإخضاع الوعي الجمعي، يتفاقم شراء الذمم في ساحات الإعلام والثقافة والفكر والوعظ، فتتحوّل مئات الفضائيات مثلا إلى نسخ متكاملة في دعاية التحريض والتشويه التي تتجرّد من أقنعة المهنيّة بالكامل.
وتتزاحم الأعمال الدرامية المموّلة بسخاء لتحشو رؤوس ثلث مليار عربي بوجبات فاقدة الصلاحية. ويتعزّز ذلك كلّه بفيض الشبكات الاجتماعية التي يجري غزوها بجيوش المدوِّنين المدفوعي الأجر بعد أن وجدت الشعوب فيها متنفّسا في لحظات الانعتاق.
مّ يتوالى الإفصاح عن مبادرات متعدِّدة الأشكال والألوان، منها تأسيس “مراكز بحثية متخصِّصة” لتنخرط في مواجهة “الإرهاب الفكري”، بعد تسخير كلّ ما هو قائم من أدوات الثقافة لتعبئة الجماهير بمضامين التضليل الذي يستنزف المحابر.

إنها الفاشية ذاتها التي تُكرِّس المقدِّرات لغسيل الأدمغة وتغييب الوعي ونحت الأجيال بمواصفاتها المرغوبة.

وقد يشبه الأمر عملية تفكيك وتركيب متسرِّعة تأتي على الأنظمة السياسية ومكوِّنات المجتمعات والحياة العامّة دون الإفصاح عن المقاصد والملابسات، في مقامرة كبرى بمصائر الأمة وشعوبها وأقطارها.

العدو رقم واحد
تفرض الفاشية أولويّاتها، حتى على مستوى الدفاع والأمن القومي. يتجلّى هنا فارق جوهريّ بين نمط الفاشية التي تسعى لاختطاف المشهد العربي الراهن، وما عرفته أوروبا خلال النصف الأوّل من القرن العشرين من نماذج توسّعية حلمت بسيادة القارّة والعالم بخطاب يقدِّس العمل والتشغيل والتصنيع والعسكرة وأوهام النقاء العرقي.

فما يشهده العرب اليوم هو فاشية الاستبداد الذي يجازف بإعلان الحرب على الداخل دون أن يأبه بتآكل حضوره الإقليمي واحترامه الدولي.

إنها فاشية النخب الضيِّقة التي تستأثر بالثروات والامتيازات والمصالح مهما كلّف ذلك الأوطان والشعوب في معادلة الاستقلال والتبعية والتماسك الداخلي والوحدة الترابية.

لا تحمل فاشية المشهد العربي الجديد أي وعود بالنهضة والتنمية والتقدّم وتنفيذ مشروعات كبرى، فتأتي بهذا متأخرة بمراحل عن نماذج شمولية بائسة عرفتها عواصم العرب في النصف الثاني من القرن العشرين.

لا يطيق القوم حديث الإستراتيجيا فينهمكون بالتكتيك المنصرف إلى شواغل الداخل، فليس هذا عهد السدّ العالي وتأميم القناة والتصنيع الحربي وتصفية الاستعمار، بل هو زمن “سد النهضة” وشركات الحماية البحرية والاتكال على المساعدات العسكرية وتمرير الطائرات دون طيار.

بهذا المنطق تتكرّس احتفالات تخريج الضباط لشحن الشعب ضد ذاته وإعلان الحرب على المجتمع.

تتساقط تصنيفات العداء المُعلَن والمُضمَر بحقّ دول الاحتلال والمنافَسة والمناكَفة في الإقليم، لتحظى قوى المجتمع التي تتبنّى رؤى الحرية والاستنهاض بامتياز “العدوّ رقم واحد”.

إنّه التصنيف الذي يُوجِّه مقوِّمات الدفاع وأجهزة الاستشعار إلى الداخل، بما يستدعي حتما الهيمنة الخارجية المطلوبة لتثبيت مَن لا شرعية لهم في أزمتهم الوجودية.

الحاجة إلى الدماء والأشلاء
تبقى الحاجة إلى المسوِّغات الميدانية، فتأتي الروايات والمشاهد بما هو مطلوب من هجمات وتفجيراتٍ مُفعَمة بالدماء والأشلاء والدموع.

يتأكد التلازم الموضوعي بين الفاشية الصاعدة ونسخ العنف المسلّح التي تستقطب المفتونين بالأحزمة الناسفة ومقاطع الفيديو التي يتلقّفها العالم. هم النتاج الشرعي لنظم التعليم المشوّه والثقافة السلطوية والتجهيل الديني والبطش الأمنيّ وتقاليد الاستهانة بكرامة الإنسان.

وخلف ستار الغموض تتوارى الاتهامات التقليدية عن “بصمة القاعدة”، لتُحال الوقائع إلى المارد الذي تمّ استدعاؤه من صميم المجتمع وإلباسه عباءة “الإرهاب”.

ستنتج بعضهم أنّ خطيئة ابن علي كانت في استهانته بالشاب البائس محمد البوعزيزي، فلم تسعفه خبرته الأمنية المديدة في تحوير واقعة الإحراق الذاتيّ إلى رواية “إرهابي حاول تفجير نفسه”.

بيد أنّ خبرات الاستبداد تتراكم ولا تنقطع، وها هي الفاشية قد تعلّمت الدرس خلال محاولتها المستميتة للإمساك بزمام الأمة وشعوبها واحتواء دولها والهيمنة على مقدراتها.

في تبرير الانصراف إلى قاموس الاتهامات الجديد تُحاك الأساطير عن تماهي القوى السياسية والشعبية العريضة، المشهود لها بالعمل المدني والسلمي، مع “القاعدة” ونسخها المحلِّية، وتَنسج الخيالات الخصبة رواياتٍ شيِّقة عن تعاون حثيث بين الجانبين.

وبضربة واحدة يتحوّل رجال الدولة وأعضاء المجالس النيابية الذين انتخبهم الشعب إلى “شياطين”، وقادة “خلايا إرهابية”، فتفترش صور “اصطيادهم” مساحات الإعلام، ومَن لا يناله حظّ من ذلك ستتكفّل به اتهامات التخابر والعمالة التي يتمّ إغداقها بلا حساب، في كنف قضاء تملّص من طقوس الاحترام.

وفي حضرة جوقة لم تُدرِك معنى الانشداد إلى القاع، تتضافر القرائن على الوجهة البائسة التي تُساق المصائر إليها. هي الفاشية التي تحذر منها الجمهرة بعد فوات الأوان، بعد أن تفلح في الصعود عبر تواطؤات تنخرط فيها صفوة العسكر والسياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة والفن.

ولكنّها الفاشية ذاتها التي تحمل في أحشائها بذور فنائها الحتمي، ليبقى السؤال متعلِّقا بالأثمان التي ستضطر الشعوب إلى دفعها والحطام الذي سيلحق بالأوطان حتى ذلك الحين.

حسام شاكر

الجزيرة