الاستفتاء التركي: تصويت على دستور ما بعد الكمالية

الاستفتاء التركي: تصويت على دستور ما بعد الكمالية

معمر فيصل خولي*

مثل الجامع الضخم الذي أمر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بتشييده على قمة واحد من أعلى تلال مدينة اسطنبول يأمل مؤيدوه أن يكون استفتاء على تعديلات دستورية يوم غدٍ” الأحد” تتويجا لمسعاه لتغيير تركيا. فهي على موعد مع  أهم استفتاء شعبي في تاريخها المعاصر، حيث سيتوجه أكثر من 55 مليون ناخب (تحديدا 55 مليونا و336 ألفا و960 ناخبا) إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم حول التعديل الدستوري المتمحور حول تحويل نظام الحكم في الدولة التركية من نظام سياسي نيابي إلى رئاسي. وقد يأتي الاقتراع، بأكبر تغيير في نظام الحكم في بلادهم منذ تأسيس الجمهورية التركية المعاصرة على أنقاض الامبراطورية العثمانية قبل نحو قرن من الزمان.

عرفت تركيا في تاريخها ستة استفتاءات على دساتير أو تعديلات دستورية أولها الاستفتاء على دستور جديد عام 1961 (بعد الانقلاب العسكري بعام) وآخرها استفتاء عام 2007 الذي أقر انتخاب الرئيس من الشعب مباشرة، ولعله ما جهز تركيا للحظة الحالية: فكرة النظام الرئاسي واستفتاء الناخبين عليها، وهو الاستفتاء الأهم والأخطر الذي سيغير الكثير في تركيا المستقبل.

يعتبر حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا هذا الاستفتاء عبارة عن استشارة شعبية  تأخر إنجازه، في حين يراها المعارضون انقلابا على مبادئ الجمهورية التي أسسها كمال أتاتورك. يأتي الاستفتاء في ظروف داخلية وخارجية صعبة، فالحكومة تشن حربا شعواء على جماعة فتح الله غولن المتهمة بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة خلال العام الماضي، بالإضافة إلى هجمات تنظيم داعش وحزب العمال الكردستاني.
يتوقع أن يشكل الاستفتاء نقطة تحول كبيرة على المستوى الداخلي والخارجي لتركيا خاصة على مستوى السياسات الخارجية. ويضع الناخب التركي نصب عينيه نتيجة الاستفتاء التي ينتظر بعدها حلا لكثير من المشاكل الداخلية، إضافة إلى أن السياسة الخارجية التركية ستُرسم من جديد بناء على نتيجة الاستفتاء.وقد شهدت السياسات التركية الخارجية تحولات كبيرة في الفترة الماضية  كان آخرها الخلاف الكبير مع الاتحاد الأوروبي. الذي جوهره سياسة التعددية الثقافية التي لا تزال تهيمن على السياسة الاجتماعية الأوروبية، فرد فعل بعض القادة الأوروبيين تجاه سعي القيادة التركية للتواصل مع الجاليات في الخارج ترجع إلى سوء الفهم والعداء وعدم الاستعداد لقبول خصوصيات الآخر، اعتقادا بأن البلدان الشرقية والأوراسية لديها ثقافة مختلفة، وربما طريقة مختلفة في التفكير والسلوك. وحقيقة أن أوروبا تنظر إلى هذه الاختلافات على أنها غير ديمقراطية تثبت أنها ليست مستعدة لأشكال أكثر تنوعا من الديمقراطية.

ثمة عوامل عدة تؤثر في بلورة رأي الناخب التركي في هذا الاستفتاء، لعل أهمها انتماؤه السياسي والحزبي رغم أن المناسبة ليست انتخابات نيابية أو رئاسية. يلي ذلك الموقف من الرئيس رجب طيب أردوغان أردوغان حيث أظهر استطلاع رأي أجرته شركة (A&G) قبل شهرين من الآن أن %70 من الذين سيصوتون لصالح التعديل الدستوري سيفعلون ذلك ثقة بأردوغان، بينما قال %30 من الذين سيصوتون ضده أنهم سيفعلون ذلك لأن أردوغان يدعمه. وبالتأكيد فهناك عوامل أخرى مؤثرة في قرار الناخب التركي، مثل منطقة سكنه الجغرافية ومستوى تعليمه ومدى اطلاعه على المواد المستفتى عليها، لكن ما هو أهم من ذلك يبدو الحالة الاقتصادية في البلاد قبيل الاستفتاء والأوضاع الأمنية قبيل الاقتراع وخلاله، وهي المجالات التي تحاول بعض الأطراف تقليديا اللعب على وترها للتأثير في رأي الناخب.

وهنا خمسة أسباب محددة تفسر  إقرار التعديلات الدستورية في الاستفتاء القادم :

1- لا ضمانات لدى المعارضة على انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي

جميع التقارير التي أصدرها الاتحاد الأوروبي بين عامي 2004 و2014 بشأن انضمام تركيا تقدم صراحة وبسخاء على الدور الذي لعبه أردوغان وحكومته في إضفاء الطابع الديمقراطي على المؤسسات التركية.

في عام 2006، على سبيل المثال، رحب تقرير الاتحاد الأوروبي بالسماح للأكراد بحرية ممارسة حقوقهم الثقافية والتعليمية.

وفي عام 2007، رحب تقرير آخر بحقيقة أن الديمقراطية سادت في ذلك العام على محاولات الجيش التدخل في العملية السياسية واعترفت بالتقدم الذي أحرزته المؤسسات العامة ومنظمات المجتمع المدني بشأن حماية المرأة من العنف.

وفي عام 2014، أشاد التقرير ببرنامج الحكومة لإرساء الديمقراطية، ورحب بإنشاء مؤسسات جديدة تحمي حقوق الأفراد وحرياتهم.

وفي عام 2015، رحب برلمان الاتحاد الأوروبي باعتماد خطة العمل لمنع انتهاكات الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان كخطوة هامة نحو مواءمة الإطار القانوني التركي مع الاتفاقية.

وبالنظر إلى سنوات التقارير التي تعترف بإنجازات أردوغان وحكومته، فإن الدول الأوروبية تحتاج حقًا إلى العمل الجاد الآن لإقناع الناخبين الأتراك بأن التقدم نفسه الذي توصلوا إليه واعترفت به الدول الاوروبية قد انعكس.

لذلك عندما يخبر أردوغان شعبه بأن الاتحاد الأوروبي هو ما يؤخر انضمام تركيا له، فإن تعليقه يمكن تصديقه فقد كان قريبا جدا من تحقيق الانضمام، وهو ما رفضته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي، لذا فإذا فقدت ميركل الانتخابات في بلادها، يمكن أن يبدأ أردوغان بداية جديدة أكثر واقعية في هذا الشأن.

2- المعارضة لا تمتلك خطة لتحسين اقتصاد تركيا

على الرغم من أن الاقتصاد التركي يمر بعاصفة قوية، فقيمة الليرة تتراجع بشكل غير مسبوق مقابل الدولار إلا أن هناك عدم ثقة في أي شخص أخر ليدير الوضع بشكل أفضل.

خلال الانتخابات الأخيرة، تمكن أردوغان من الحفاظ على شعبيته بشكل كبير بسبب قدرته على الحفاظ على النمو الاقتصادي للبلاد وحمايته من الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008.

وليس هناك ما يشير إلى أن الأتراك فقدوا ثقتهم في قدرته على إدارة الاقتصاد، كما لم يقدم أي من المحتجين أي بدائل جذابة على المدى القصير والمتوسط، فلا يزال أردوغان وحزبه أفضل أمل لهما.

ومع استمرار تطبيع تركيا مع روسيا وإسرائيل، هناك آمال بأن السياحة سوف تلتقط هذا الصيف، كما أن المستثمرين الصغار ومجتمعات الأعمال والمجموعات التجارية الرئيسية قلقة بشأن أي تأثير قد يحدث إذا ما فشل الاستفتاء.

تتشكل العلاقات الخارجية التركية الآن بطريقة تتسع فيها حجم تجارتها وتنوعها خارج أوروبا والصين. وحققت تركيا، في تجارتها مع دول الخليج، فائضا قدره 85 مليار دولار بين عامي 2012 و2015. وفي قمة منظمة التعاون الاقتصادي التي عقدت مؤخرا في إسلام أباد، سعت تركيا إلى زيادة حجم تجارتها مع بلدان آسيا الوسطى.

ومع اقتصاد أقل اعتمادا على أوروبا، صار لدى تركيا نفوذ أفضل للمساومة مع الاتحاد الأوروبي.

3- ثقة أردوغان في تحسين الحالة الأمنية

بسبب الهجمات الإرهابية المتكررة في البلاد في السنوات الأخيرة، سنجد أن أهم مسألة تواجه الأتراك الآن هي الحالة الأمنية.

ويعتقد معظم الناخبين أن الجماعات الكردية المسلحة في سوريا وتركيا وتنظيم الدولة والقاعدة وشبكة فتح الله غولن هي المسؤولة

عن الهجمات الإرهابية منذ عام 2015، وينظر الأتراك إلى الدعم الأمريكي والأوروبي للأكراد المسلحين في سوريا بشكوك كبيرة.

ومع ذلك، أرسلت الحكومة الحالية عدة رسائل تفيد بأن الحكومة الحالية يمكنها المضي قدما في هزيمة تنظيم الدولة دون الاعتماد على الدعم الأمريكي، ووصل الأمر إلى اعتذار وكالة المخابرات المركزية رسميا لتركيا على مزاعم وجهتها في عام 2014 بشأن تداول النفط بين أنقرة وتنظيم الدولة.

4- أردوغان له سجل حافل في سوريا

كانت تركيا على وشك الانغماس في الحرب السورية بشكل سيء إلا ان أردوغان اتخذ سلسلة من الاجراءات التصحيحية بما في ذلك تطبيع العلاقات مع روسيا وتعيين رئيس وزراء جديد اكثر مرونة في السياسة الخارجية من سلفه احمد داود اوغلو.

هل يرفض الأتراك حقا سياسة أردوغان السورية؟ بعد زيادة التعاون التركي الروسي في سوريا، ازدادت ثقتهم في قيادة أردوغان.فتركيا توفر الملاذ لثلاثة ملايين لاجئ سوري رغم أن اتفاق اللاجئين بين الاتحاد الأوروبي وتركيا وصل عمليا لطريق مسدود.

5- الناخبون أكثر اهتماما بـ “تركيا قوية” عن “تركيا الديمقراطية”

وكان هناك دائما توافق في الآراء بين الأتراك بأن دستور عام 1982، الذي صاغه وأقره قادة الانقلاب العسكري في ذلك العام، ينبغي أن يتغير بشكل تام. ولكن لم يتمكن أي حزب سياسي منذ ذلك الحين من تحقيق أغلبية كبيرة بما فيه الكفاية لبدء هذه العملية. وإذا تمت الموافقة عليه، فإن الاستفتاء سيحقق هذا التغيير في النهاية.

الاستفتاء الدستوري في تركيا الذي سيعقد يو غد “الأحد” يعد معلما بارزا وحدثا بالغ الأهمية في التاريخ تركيا المعاصر وغني عن البيان أنه سيكون مؤثرا في الوضع السياسي لا في محيط تركيا فحسب، بل في الشرق الأوسط بأسره. تركيا هي فاعل قوي ومهم في الأحداث الإقليمية. الاستفتاء ليس مجرد نموذج حكومي للإصلاح، بالتحول من الجمهورية النيابية إلى الجمهورية الرئاسية. بل هو أيضا بطريقة ما تحول في التجربة السياسية التي جمعتها تركيا في القرن العشرين.

وفي حال موافقة الشعب التركي على حزمة التعديلات الدستورية فإن الدولة التركية قطعت شوطًا كبيرًا نحو دستور ما بعد الكمالية، دستور يتميز بتعدد الهويات، واحترام أنماط الحياة الفردية وسيادة السلطة المدنية على العسكرية. نظام حكم ما بعد الكمالية سيحافظ على نموذج دولة الأمة، ويعترف بالتعددية الإثنية، ويحترم العلمانية ويعيد تعريفها بحرية، حتى لا يتم فرض وجهة نظر معينة على المواطنين. بالضرورة هذا لا يشجب الكمالية”كفكرة”، ولكن يتيح للشعب الإختيار من بين مجموعة من الأفكار المتاحة في بيئة من حرية الأفكار. ربما يتبنى الناس بعض الأفكار إذا اختاروا ذلك، ولكن يجب على الدولة أن تبقى محايدة وأن تكون أساس لتوافق الآراء. لقد انقضى عهد الدول الفكرية. هناك حاجة الآن إلى الدول التي تقدم لشعوبها الخدمات والحماية وليس الأفكار أو أساليب الحياة. باختصار، سيمهد إقرار التعديلات الدستورية باستفتاء يوم غد “الأحد” لجمهورية ما بعد الكمالية من أجل ترسيخ الديمقراطية وترسيخ السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية،وإعادة تعريف العلمانية، وحل المسألة الكردية المستعصية.

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية