طهران وبغداد: سعي للإخلال بالتوازن السكاني في ديالى

طهران وبغداد: سعي للإخلال بالتوازن السكاني في ديالى

ملخص

تناقش هذه الورقة أهمية الجغرافية السكانية لمناطق حزام بغداد ومحافظة ديالى في الاستراتيجيات الإيرانية في العراق والمنطقة، والسياسات المتوافقة بين الحكومتين الإيرانية والعراقية في إيلاء هذه المناطق ما يكفي من الاهتمام.

تركز الورقة على الإجراءات الميدانية الهادفة إلى فرض واقع جديد على مبدأ الإخلال بالتوازن السكاني القائم تاريخيًّا لصالح العرب السُّنَّة واستبدال أغلبية شيعية به، أو إفراغه تمامًا من العرب السُّنَّة من خلال التهجير القسري والاغتيالات والقتل الجماعي باستخدام القوة العسكرية لقوات الحشد الشعبي والجهد الاستشاري، أو القتالي للحرس الثوري الإيراني. كما تتناول الورقة استغلال قوات الحشد الشعبي للإنجازات العسكرية في استعادة المدن والمناطق من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، وتوظيف تلك الإنجازات في تغيير التركيبة السكانية عبر اتباع سياسة منع عودة السكان السُّنَّة إلى مدنهم ومناطقهم.

وتخلص الورقة إلى تناغم سياسات بغداد وطهران في تنفيذ سياسات التغيير، وغياب أي موقف مؤثِّر لممثلي العرب السُّنَّة في الحكومة والبرلمان لوقف تنفيذ تلك السياسات أو منعها مع الإقرار بسياسة اللامبالاة؛ التي تتبعها قوات التحالف الدولي التي أعطت الأولوية للانتصار في المواجهة مع الدولة الإسلامية بصرف النظر عن انعكاساتها على العرب السُّنَّة.

تقع محافظة ديالى إلى الشمال من العاصمة العراقية، تقطنها أعراق وطوائف متداخلة اجتماعيًّا، وهي ذات غالبية عربية سُنِّيَّة، تقع على خطوط التماس الجغرافي مع إقليم كردستان، وتضمُّ مدن عدَّة مختلف على عائديتها بين حكومتي الإقليم والمركز، وتشترك مع إيران بحدود طويلة، تعتبر الأقرب جغرافيًّا إلى العاصمة، ولها منفذان حدوديان لمرور البضائع والمسافرين، يُراد لهذه المحافظة ومناطق حزام بغداد أن تكون منطلقًا لتنفيذ السياسات الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان، ولن يتمَّ هذا إلا بتغيير التركيبة السكانية لهذه المناطق، وتمثِّل المحافظة أهميةً استراتيجية لكلٍّ من إيران والأطراف المحلية المتصارعة توازي أهمية حزام بغداد من النواحي الأمنيَّة والعسكريَّة.

أهمية الجغرافيا السياسية لمحافظة ديالى

لكي نفهم أهمية محافظة ديالى في العقل السياسي الإيراني، لابُدَّ من إلقاء بعض الضوء على أهمية موقع محافظة ديالى الجغرافي، وتركيبتها السكانية ذات الغالبية السُّنِّيَّة المطلقة؛ التي تُشَكِّل عقبة في طريق المشروع الإيراني في المنطقة انطلاقًا من العراق.

تتكوَّن محافظة ديالى -ومركزها مدينة بعقوبة- من ستِّ وحدات إدارية “قضاء”، تقطنها عشائر عربية مختلطة طائفيًّا بغالبية سُنِّيَّة راجحة تتواجد في مناطق مشتركة، وتتداخل فيما بينها بعلاقات اجتماعية وتجارية وزراعية وغيرها، تكتسب محافظة ديالى -60 كيلومترًا شمال شرقي بغداد- أهميتها من موقعها الجغرافي القريب من العاصمة؛ كما تقع على خطِّ التَّماس مع إقليم كردستان العراق، وتتبع لها بعض المدن التي تدخل في تعريف الأراضي المتنازع عليها بموجب الدستور العراقي بين حكومتي الإقليم والمركز، وتشترك محافظة ديالى مع إيران بحدود برِّيَّة لمسافة 240 كيلومترًا، ولها معبران حدوديان؛ هما: معبر المنذرية، ومعبر مندلي؛ الذي أُعيد افتتاحه مؤخَّرًا بعد إغلاقه في حرب الخليج الأولى، كما أنَّ موقع محافظة ديالى على الحدود الإيرانية جعلها محطَّ أنظار الإيرانيين؛ الذين يرون فيها بوابة عبور الزائرين إلى المقدسات الشيعية في العراق وسوريا، وتُعَدُّ ديالى ممرًّا بريًّا لعبور الأسلحة والميليشيات الإيرانية إلى سوريا، أو إلى العاصمة بغداد؛ التي تبعد عنها مسافة أقل من مائة كيلومتر.

العرب السُّنَّة في ديالى: مستقبل مظلم

من أجل التثبُّت من وجود سياسة معتمدة رسميًّا لتغيير التركيبة السكانية في محافظة ديالى سوف نعرض بعض السياسات المتعلِّقة بتعامل الحكومة الاتحادية من خلال مؤسساتها مع العرب السُّنَّة في المحافظة قبل أحداث الموصل، واستمرارها بشكل أكثر وضوحًا بعد أحداث الموصل.

منذ غزو العراق واحتلاله في عام 2003 يتعرَّض العرب السُّنَّة -الذين يُشَكِّلون الغالبية العظمى من تعداد سكان المحافظة؛ البالغ حوالي مليون وخمسمائة ألف نسمة(1)- لحملات اعتقالات، واغتيالات، وتهجير مستمرَّة؛ بغية تغيير التركيبة السكانية للمحافظة؛ وذلك في إطار خطَّة تطهير مدروسة على يد ميليشيات شيعية تمارس نشاطاتها دون أنْ تتخذ الحكومة الاتحادية ضدَّها أيَّة إجراءات، ومع اندلاع الحركة الاحتجاجية في عام 2013، كانت ديالى هي الأكثر استعدادًا للانخراط في هذه الحركة من غيرها؛ وذلك لما عانته من تهجير وإقصاء وتهميش بلغ أعلى مداه نتيجة منطقية لهيمنة الأحزاب والميليشيات الشيعية على أهمِّ -بل جميع- مفاصل إدارة المحافظة الأمنيَّة والعسكريَّة؛ التي أسهمت بشكل ما في تهجير أكثر من 235 عائلة سُنِّيَّة من قضاء المقدادية فقط(2) منذ بداية الحركة الاحتجاجية حتى منتصف يوليو/تموز 2013، وشهدت محافظة ديالى حوادث تفجير استهدفت المحتجِّين مباشرة، وذلك كما حدث في تفجير جامع سارية في بعقوبة عقب خروج المصلين من صلاة “جمعة خيارنا حفظ هويتنا” في 17 مايو/أيار 2013، وفي جمعة أخرى قامت الميليشيات بتفجير عدَّة عبوات عند مدخل الجسر المؤدِّي إلى جامع سارية؛ وذلك لمنع المحتجِّين من الوصول إلى المسجد وإقامة الصلاة الموحَّدة؛ للتعبير عن سخطهم على الحكومة الاتحادية وأجهزتها الأمنيَّة.

بعد أحداث الموصل تسارعت وتيرة الاستهداف المنظَّم للعرب السُّنَّة في إطار سياسة التطهير الطائفي، وقد شهدت محافظة ديالى حملات نزوح طوعية -بسبب العنف، أو تهجير قسري- واسعة شملت أكثر من 18 ألف عائلة(3) خلال شهرين فقط بعد أحداث الموصل، كما تَمَّ إفراغ مركز مدينة الخالص من السُّنَّة تمامًا بعد طردهم إلى كركوك، وتهجير أكثر من 53 ألفًا خلال الأسبوعين الأولين من عام 2015؛ نظرًا إلى استمرار الصراع في المحافظة(4)، وثمَّة عمل ممنهج وفق سياسة تستهدف تغيير التركيبة السكانية للعديد من المناطق المختلطة، وتؤكِّد ممارسات قوات الحشد الشعبي وجود “حملة إبادة منظمة تُرتكب ضد المكوِّن السُّنِّي لا علاقة لها بالحرب على داعش”(5).

قد لا تكفي سياسات التهجير القسري ومنع عودة السكان السُّنَّة لإفراغ المحافظة منهم واستبدال سكان شيعة بهم، ولتعزيز هذه السياسة ارتكبت القواتُ الأمنيَّة وقوات الحشد الشعبي المزيدَ من المذابح الموصوفة بالقتل الجماعي؛ فقد نَفَّذَت القوات الأمنيَّة والميليشيات بمشاركة كبرى العشائر الشيعية في المحافظة حملاتِ تهجيرٍ في القرى التابعة لقضاء المقدادية ومركز ناحية أبي صيدا والقرى المحيطة بها، وتفجير عشرات المساجد والمدارس الدينية(6)، كما مورست ضدَّ السُّنَّة عمليات اغتيال واعتقال واسعة، وشهد عموم المحافظة عددًا من المذابح؛ مثل: مذبحة جامع سارية، ومذبحة جامع الصديق في قرية الوجيهية، ومذبحة ناحية بهرز؛ التي أشرف على تنفيذها قائد الحشد الشعبي في المحافظة النائب هادي العامري، وغيرها الكثير من المذابح في قرى ومدن المخيسة والكاطون والمقدادية وشفتة ودلي عباس وكنعان والوجيهية وحمرين، وغيرها من مناطق ديالى، كما شهدت سجون ديالى مذابح عدَّة بتواطؤ من قيادة الشرطة؛ مثل: مذبحة سجن بعقوبة المركزي، وسجن مركز أبي صيدا، وسجن المفرق، وغيرها من المذابح والانتهاكات دون أنْ تتبنَّى الحكومة الاتحادية موقفًا حازمًا ضدَّ مرتكبيها.

منع عودة السكان سياسة حكومية تمهِّد للتطهير الطائفي

تُسيطر قوات الحشد الشعبي على القرار العسكري للقوات النظامية في مناطق سيطرتها ونفوذها، والسؤال: هل هذه السياسات العسكرية الهادفة إلى التغيير السكاني تُنَفِّذها قوات الحشد الشعبي من دون مباركة رسمية حكومية؟

بعد الانهيار الكبير للقوات العراقية في أعقاب أحداث الموصل في يونيو/حزيران 2014، كانت مدن عدَّة في محافظة ديالى قد سقطت دون مقاومة تُذْكَر من القوات العراقية أو قوات البيشمركة؛ لكن تطورات العمليات العسكرية بتدخُّل إيران الفوري من جهة، والدعم الكبير لقوات التحالف الدولي للبيشمركة الكردية والقوات العراقية من جهة أخرى أدَّيَا إلى تراجع واضح في أداء مقاتلي الدولة الإسلامية؛ الذين بدؤوا يفقدون سيطرتهم على العديد من المدن في حزام بغداد، ومحافظات: نينوى، وصلاح الدين، وديالى. تقوم قوات الحشد الشعبي -الإطار الرسمي الجامع للميليشيات الشيعية- بارتكاب أفعالٍ ترقى إلى جرائم حرب ضدَّ السُّنَّة في المناطق والمدن التي تستعيدها من سيطرة الدولة الإسلامية؛ وهي سياسة عقاب جماعي تعتمد على الخلط بين المنتمين للدولة الإسلامية وعموم السُّنَّة.

يمكن رصد أهمِّ ملامح السياسة المتبعة ضدَّ السكان السُّنَّة في أثناء وبعد عملية استعادة مدينة جرف الصخر في حزام بغداد الجنوبي، ومن أهمِّ ملامح تلك السياسة:

  • ارتكاب أعمال قتل نالت المئات من المدنيين.
  • إحراق آلاف البيوت والمزارع وإتلافها.
  • نهب الممتلكات الخاصة.
  • محاصرة القرى وتجويع سكانها.
  • حملات اعتقال عشوائي لآلاف الشباب.
  • منع عودة السكان الأصليين إلى تلك المناطق.

تكرَّرت ملامح تلك السياسة في مدينتي السعدية وجلولاء في محافظة ديالى بعد استعادتهما في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2014؛ حيث تتواجد في جلولاء بشكل ملحوظ “قوات الحرس الثوري الإيراني” بالتعاون مع 400 مقاتل من سرايا خراسان الشيعية؛ الذين ينتشرون في أحياء المدينة، ويمنعون عودة العائلات السُّنِّيَّة من أجل “تغيير ديموغرافية المنطقة بالتعاون مع إيران وبتعليمات منها”(7).

مَنْعُ العوائل السُّنِّيَّة من العودة إلى مدنهم بات ظاهرة تعكس سياسة حكومية تهدف إلى إلغاء الوجود السُّنِّي في مناطق حزام بغداد ومدنه، “وتخليص المناطق الخلفية المحيطة بالعاصمة من الأغلبية السُّنِّيَّة التي كانت تسكنها إلى الأبد”(8)، وهي المناطق التي يمكن أنْ تُشَكِّل حاضنة للمسلَّحين السُّنَّة تسهِّل عليهم مهمَّة الدخول إلى بغداد، وإسقاط الحكومة؛ وهي السياسة التي عبَّر عنها بوضوح النائب حنين القدو -نائب رئيس اللجنة المختصة بشؤون النازحين في البرلمان العراقي، وعضو الكتلة السياسية التي ينتمي إليها رئيس الوزراء حيدر العبادي- بقوله: “ليس من الممكن السماح لكل هذه الأسر بالعودة إلى بيوتها؛ حتى إذا تمَّ إخراج الدولة الإسلامية وتوقفت الاشتباكات؛ لأنَّ أغلب هذه الأسر في حزام بغداد كانت توفِّر ملاذًا آمنًا للدولة الإسلامية”(9).

لم تقتصر سياسة الحكومة في منع عودة السكان السُّنَّة إلى مناطقهم الأصلية على مناطق حزام بغداد؛ بل شملت -أيضًا- محافظة ديالى بشكل أكثر وضوحًا، وقد “أشارت معلومات إلى أنَّ المليشيات الشيعية ضمن تشكيلات الحشد الشعبي -التي يقودها زعيم منظمة بدر الشيعية المقرَّبة من إيران هادي العامري- تُصَعِّد من حملتها لتهجير السُّنَّة من المناطق المحاذية للحدود الإيرانية في محافظة ديالى؛ وذلك بهدف إخلائها من سكانها السُّنَّة، وتهجير الشيعة إليها لتأمين الحدود الإيرانية مع العراق”، حسب تقرير وكالة رويترز “داخل مناطق القتل في العراق”. وتعترض عملية عودة النازحين السُّنَّة المزيد من الإجراءات التي تعرقل عودتهم لأسباب تتعلَّق باحتمالات ارتباطهم بالدولة الإسلامية أو تعاطفهم معها، وهي إجراءات مرنة تكتسب صفة قانونية يمكن تطويعها بما يتلاءم مع سياسة التطهير الطائفي. أصدر المجلس المحلي في قضاء المقدادية سبع توصيات لعودة النازحين؛ من بينها: “إجراء تدقيق شامل لملف الأسر العائدة؛ خاصة بعد تورُّط الكثير منها في دعم تنظيم داعش”(10)، وهي إجراءات تشمل جميع مناطق محافظة ديالى؛ حيث “سيتمُّ التدقيق والمراجعة لجميع أسماء النازحين في المحافظة للتأكُّد من عدم تسلُّل بعض إفراد عصابات داعش مع النازحين، والتأكُّد من عدم انتماء النازحين إلى عصابات داعش”(11).

الدور الإيراني في ديالى

إذا كان كلُّ ما يجري من انتهاكات على يد قوات الحشد الشعبي يتمُّ بتأييد رسمي، ودعم لا محدود من الحكومة الاتحادية؛ فإن هذا الدعم عادة يُعَزِّزه وجود إيراني مباشر يتحكَّم في قرار قوات الحشد الشعبي، وهذا ما سنناقشه في الفقرات التالية بتناول الموقف الإيراني من أزمة العراق بعد أحداث الموصل في الجانبين السياسي والقتالي، وتوافق هذا الموقف مع مواقف الحكومة الاتحادية.

من منطلق رؤية إيران لوصايتها على العراق، وبذريعة الدفاع عن المقدسات الدينية، تُجيز إيران لنفسها التدخُّل المباشر في الشؤون الداخلية للبلد؛ فقد أعلن الرئيس الإيراني حسن روحاني في حديث خاصٍّ مع شبكة إن بي سي الأميركية، “أن إيران لا تسمح بسقوط بغداد أو النجف أو كربلاء، وتعتبر سقوط المقدسات الدينية بالعراق في يد الإرهابيين خطًّا أحمر”(12). أمَّا قائد القوة الجوية في الحرس الثوري الإيراني العميد أمير علي حاجي زاد فقد قال في تصريحات للتلفزيون الإيراني: “إن قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني قد تمكَّن برفقة 70 شخصًا فقط من الحيلولة دون سقوط مدينة أربيل العراقية في يد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية”(13). وهذا إشارة صريحة إلى تدخُّل عسكري إيراني مباشر في العراق.

دأبت إيران الرسمية على نفي تدخُّلها في الشؤون الداخلية للعراق؛ لكن ما ينشره الإعلام الرسمي الإيراني من تصريحات لقادة إيرانيين، أو تقارير مصوَّرة لتشييع قتلى من قيادات عسكرية سقطت في العراق تدحض الادعاءات الرسمية؛ ويُشير الكثير من الدلائل إلى ضلوع إيران بدور قتالي في حزام بغداد الجنوبي؛ مثل ناحية جرف الصخر، أو في حزام بغداد الشمالي؛ مثل قضاءي بلد وسامراء، إضافة إلى دور مباشر للحرس الثوري الإيراني أو غير مباشر عبر قوات الحشد الشعبي في محافظة ديالى. لقد نقلت صحف غربية عن مصادر في الشرطة العراقية شهادات تؤكِّد مشاركة قوات إيرانية في المعارك التي دارت في جرف الصخر إلى جانب القوات العراقية والحشد الشعبي، كما أن مراسل إحدى الصحف الغربية أكَّد “أنَّه سمع لغة فارسية بين الجنود المشاركين في المعارك”(14)، ولا تُخفي قيادات عراقية شيعية حضور المستشارين الإيرانيين، والإشادة بدورهم في عملية استعادة جرف الصخر(15)، وأكَّدت مصادر خاصة لوكالة الأناضول “أنَّ أكثر من مائة جندي إيراني ساندوا قوات البيشمركة الكردية في استعادة مدينة جلولاء بدعم من الطائرات الأميركية”(16).

يُعَدُّ الوجود الإيراني المباشر، أو غير المباشر في محافظة ديالى ضرورة استراتيجية للأمن القومي الإيراني لمنع امتداد القتال إلى حدودها المشتركة مع العراق، أو إلى الداخل الإيراني، وتعتمد إيران على نشاط غير اعتيادي للحرس الثوري في مدن محافظة ديالى، ووجود دور مباشر له، أو من خلال الميليشيات الشيعية التي تدين لإيران بالولاء المطلق؛ التي تُعلن صراحة اتباعها لسياسة ولاية الولي الفقيه(17).

أثارت سيطرةُ الدولة الإسلامية على مدن حدودية، مثل خانقين، أقل من 10 كيلومترات عن الحدود العراقية-الإيرانية، ومدن أخرى في ديالى، مثل مدينة جلولاء 20 كيلومترًا عن الحدود العراقية الإيرانية، مخاوف وقلق الحكومة الإيرانية من تهديد أمن واستقرار مدنها الحدودية بالتنسيق مع المجموعات السُّنِّيَّة الإيرانية المسلحة كجماعة جند الله وجيش العدل؛ خاصة في المدن ذات الخليط القومي، أو الطائفي، المتماثل على الجانب الآخر من الحدود؛ التي قد تتأثَّر بتداعيات حرب أهلية شاملة في العراق أو تقسيمه. وتنظر إيران بقلق بالغ إلى وحدة الأراضي العراقية من منطلق اعتبار أمن العراق جزءًا من الأمن القومي الإيراني، وهي سياسة واضحة المعالم(18)؛ وبهدف إبعاد خطر الدولة الإسلامية أعلنت إيران عن منطقة عازلة منزوعة السلاح كخطٍّ أحمر يمتدُّ إلى عمق 40 كيلومترًا داخل الأراضي العراقية، وحذَّرت على لسان قائد القوة البرية للجيش الإيراني -العميد أحمد رضا بوردستان- من مواجهة “ردٍّ ساحق من قِبَل القوات المسلحة الإيرانية فيما لو اجتازت الدولة الإسلامية الخطَّ الأحمر، وأنَّ الدولة الإسلامية تلقَّت هذه الرسالة وابتعدت عن تلك المناطق”(19).

الموقع الجغرافي المتميز لمحافظة ديالى على الحدود الإيرانية وأهميته في الجانبين الاقتصادي والأمني، وضرورات التواصل البري بين إيران وكلٍّ من سوريا ولبنان، استدعى شقَّ طريق يبلغ طوله 85 كيلومترًا يربط مدينة الخالص في محافظة ديالى بمدينة سامراء في محافظة صلاح الدين مرورًا بمدينة الضلوعية، وهو طريق يُشرف عليه النائب عن منظمة بدر هادي العامري شخصيًّا؛ يكتسب الطريق الجديد أهمية كبرى في جوانب عدَّة؛ منها:

أهميته “في حركة نقل المسافرين في اتجاه العتبات المقدسة بسامراء، إضافة إلى أهميته من ناحية تقديم العون العسكري في حالات الطوارئ”(20).
تسهيل عملية مراقبة ومنع تسلُّل المقاتلين السُّنَّة من محافظة صلاح الدين إلى مدن ديالى.
تأمين وصول الزوار الإيرانيين مباشرة إلى سامراء.
تأمين وصول الدعم الإيراني للحشد الشعبي وقيادات الحرس الثوري الإيراني المتمركزة في سامراء ومنها إلى الأنبار؛ التي ما زالت خارج سيطرة الحكومة الاتحادية.
إمكانية استخدامه على المدى البعيد لمرور المقاتلين، أو المعدات العسكرية، لدعم الحشد الشعبي في محافظة الأنبار؛ التي تمثِّل جغرافيتها الطريق البري الوحيد الذي يربط بين أقرب منطقة حدودية في إيران مع سوريا عبر محافظة ديالى.

نتيجة

الغالبية السُّنِّيَّة في محافظة ديالى تُقَلِّص حظوظ النجاح في تغيير التركيبة السكانية إلى حدٍّ كبير، وتجعله أمرًا غير واقعي في المدى المنظور؛ لكن استمرار هذه السياسات لعقود طويلة سيؤدِّي حتمًا إلى إحداث تغيير كبير لصالح الشيعة.

من الصعب التمييز بين السياسات الإيرانية ممثَّلة في الحرس الثوري الإيراني؛ الذي ينشط في العراق، وبين السياسات التي تتَّبعها الحكومة العراقية ممثَّلة في القوات الأمنية وقوات الحشد الشعبي في تكريس واقع جديد في مناطق حزام بغداد ومحافظة ديالى؛ وهي سياسات متناغمة ومتوافقة من شأنها أن تُعيد رسم التركيبة السكانية لهذه المناطق ذات الأهمية الحيوية لكل أطراف الصراع الشيعية والسُّنِّيَّة والكردية، والإقليمية أيضًا.

يؤدِّي التحالف الدولي دورًا كبيرًا في تحقيق تلك السياسات؛ حيث إنه اتَّبع سياسة انتقائية أحادية الجانب لمواجهة الدولة الإسلامية دون أن يمارس أيَّ شكلٍ من أشكال الضغط على الحكومتين العراقية والإيرانية لوقف الانتهاكات ضدَّ السكان السُّنَّة، هذه السياسات مجتمعة ولَّدت شعورًا عامًّا في أوساط المجتمع السُّنِّي بأنَّ العالم كلَّه يقف ضدَّه؛ وذلك في الوقت الذي يُعاني فيه المزيد من الظلم برعاية الحكومة الاتحادية وشرعية القانون، وهو ما سيؤدِّي إلى المزيد من العزوف عن الإقبال على الانخراط في مشروع الشراكة السُّنِّيَّة مع الحكومة الاتحادية والتحالف الدولي لمواجهة الدولة الإسلامية؛ بمعنى آخر: المزيد من القبول للدولة الإسلامية واحتضانها بشكل أوسع، والنظر إليها كخطٍّ أخير في معركة الدفاع عن المجتمع السُّنِّي المهدَّد بوجوده ودوره في العراق والمنطقة.
_________________________________________

المصادر والهوامش
(1) لا توجد إحصائيات دقيقة معتمدة يمكن الوثوق بها للتوزيع القومي والطائفي في العراق، موقع ويكيبيديا العربية ذكر أن نسبة العرب السُّنَّة 88%.
(2) قال عضو مجلس محافظة ديالى عبد الخالق العزاوي نقلاً عن دائرة الهجرة والمهجرين في المحافظة: إنَّ “حملات التهجير التي شهدها قضاء المقدادية وصلت حتى أمس إلى أكثر من 235 عائلة من “السُّنَّة” بسبب تهديدات من مجهولين طالبتهم بإخلاء منازلهم”، متهمًا “ميليشيات معروفة من قبل أهالي المحافظة بعمليات التهجير ضد أهالي المقدادية”، جريدة المدى، العدد 2845، 17 من يوليو/تموز 2013.
(3) جريدة الأمة الإلكترونية، نائبة عراقية: أكثر من 18 ألف عائلة نزحت من منازلها في ديالى شرقي البلاد، 21 من أغسطس/آب 2014:
http://www.al-omah.com/policy1/%D9%86%D8%A7%D8%A6%D8%A8%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-18-%D8%A3%D9%84%D9%81-%D8%B9%D8%A7%D8%A6%D9%84%D8%A9-%D9%86%D8%B2%D8%AD%D8%AA-%D9%85%D9%86%D8%B0-%D8%A8%D8%AF%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B6%D8%B7%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%AF%D9%8A%D8%A7%D9%84%D9%89.html
(4) “ازدياد أعداد النازحين في العراق وأكثر من مليونين و176 ألفًا نزحوا خلال 13 شهرًا فقط”، بوابة الأهرام، نقلاً عن تقرير للأمم المتحدة، (30 من يناير/كانون الثاني 2015):
http://gate.ahram.org.eg/News/591551.aspx
(5) “عشائر في ديالى تطلب التحقيق في انتهاكات الميليشيات”، جريدة الحياة، تصريحات كاصد الجبوري أحد شيوخ عشيرة الجبور، (30 من نوفمبر/تشرين الثاني 2014):
http://goo.gl/xo30eZ
(6) هذه المعلومات وما يليها في هذه الفقرة تَمَّ جمعها من خلال اتصالات شخصية أو من المواقع الإلكترونية؛ خاصة مواقع التواصل الاجتماعي.
(7) الميليشيات الشيعية: بداية نزاع مع الأكراد، موقع نقاش، تصريح مسؤول كردي في ديالى رفض الكشف عن اسمه، (18 من ديسمبر/كانون الأول 2014): http://www.niqash.org/articles/?id=3596&lang=ar
(8) تقرير خاص داخل “مناطق القتل” في العراق، وكالة رويترز، نقلاً عن قيادات عشائرية شيعية وسنية ومسؤولين أمنيين عراقيين، (18 من ديسمبر/كانون الأول 2014):
http://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKBN0JW12G20141218
(9) “تقرير خاص-داخل “مناطق القتل” في العراق”، وكالة رويترز، (18 من ديسمبر/كانون الأول 2014): http://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKBN0JW12G20141218
(10) “مجلس المقدادية بديالى يضع سبع توصيات لإعادة النازحين للمناطق المحررة”، السومرية نيوز، تصريح رئيس المجلس المحلي في قضاء المقدادية عدنان التميمي، (28 من يناير/كانون الثاني 2015):
http://www.alsumaria.tv/news/123188/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%AF%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%AF%D9%8A%D8%A7%D9%84%D9%89-%D9%8A%D8%B6%D8%B9-%D8%B3%D8%A8%D8%B9-%D8%AA%D9%88%D8%B5%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%84%D8%A5%D8%B9/ar
(11) “مجلس ديالى يُدقِّق أسماء النازحين للتأكُّد من عدم انتمائهم لعصابات داعش”، موقع المعلومة، تصريح رئيس لجنة الهجرة والمهجرين في مجلس محافظة ديالى، (26 من ديسمبر/كانون الأول 2014):
http://almaalomah.com/news/6739/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%B3-%D8%AF%D9%8A%D8%A7%D9%84%D9%89-%D9%8A%D8%AF%D9%82%D9%82-%D8%A3%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B2%D8%AD%D9%8A%D9%86-%D9%84%D9%84%D8%AA%D8%A3%D9%83%D8%AF-
(12) “الرئيس الإيراني: سقوط المقدسات في العراق بيد الإرهابيين خط أحمر لإيران”، جريدة الوسط، العدد 4395، 19 سبتمبر/أيلول 2014.
(13) “مسؤول إيراني: سليماني منع سقوط أربيل بيد تنظيم الدولة”، الجزيرة نت، (24 من سبتمبر/أيلول 2014): http://www.aljazeera.net/news/international/2014/9/24/%D9%85%D8%B3%D8%A4%D9%88%D9%84-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%B3%D9%84%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%85%D9%86%D8%B9-%D8%B3%D9%82%D9%88%D8%B7-%D8%A3%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D9%84-%D8%A8%D9%8A%D8%AF-%D8%AA%D9%86%D8%B8%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9
(14) “واشنطن بوست: قوات إيرانية شاركت بمعارك “جرف الصخر” قرب بغداد”، موقع الخليج أون لاين، (29 أكتوبر/تشرين الأول 2014): http://alkhaleejonline.net/lang/ar/articles/1414590689058245900
(15) “محافظ كربلاء: الاستشارات الإيرانية كانت نافعة بعملية تحرير جرف النصر”، موقع الوفاق أون لاين، نقلاً عن: وكالة أنباء فارس، (16 من نوفمبر/تشرين الثاني 2014): http://www.al-vefagh.com/News/62016.html
(16) 100 جندي إيراني يدعمون الجيش العراقي والبيشمركة باستعادة قرية شمال البلاد، الحدث العربي، (22 من أغسطس/آب 2014): http://www.alhadathnews.net/archives/133916
(17) ميليشيا عصائب أهل الحق تبايع خامنئي، العربية نت، (6 من نوفمبر/تشرين الثاني 2014): http://www.alarabiya.net/ar/iran/2014/11/07/%D9%85%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%B4%D9%8A%D8%A7-%D8%B9%D8%B5%D8%A7%D8%A6%D8%A8-%D8%A3%D9%87%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%A8%D8%A7%D9%8A%D8%B9-%D8%AE%D8%A7%D9%85%D9%86%D8%A6%D9%8A.html
(18) “روحاني: أمن العراق أمر حيوي بالنسبة لإيران”، قناة السومرية، (9 من ديسمبر/كانون الأول 2014):
http://www.alsumaria.tv/news/118532/%D8%B1%D9%88%D8%AD%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%85%D8%B1-%D8%AD%D9%8A%D9%88%D9%8A-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B3%D8%A8%D8%A9-%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7/ar
(19) “إيران: حددنا لداعش منطقة عازلة داخل العراق والتنظيم تلقى الرسالة والتزم بها”، سي إن إن العربية، (7 يناير/كانون الثاني 2015): http://arabic.cnn.com/middleeast/2015/01/07/iran-isis-iraq-borders
(20) “ديالى تشرع في شق طريق “استراتيجي” يربطها بسامراء مرورًا بالضلوعية”، السومرية نيوز، (15 من ديسمبر/كانون الأول 2014):
http://www.alsumaria.tv/news/119029/%D8%AF%D9%8A%D8%A7%D9%84%D9%89-%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%B9-%D8%A8%D8%B4%D9%82-%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A-%D9%8A%D8%B1%D8%A8%D8%B7%D9%87%D8%A7-%D8%A8%D8%B3%D8%A7/ar
رائد الحامد
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات