خطط إعادة رسم الشرق الأوسط: مشروع “الشرق الأوسط الجديد”

خطط إعادة رسم الشرق الأوسط: مشروع “الشرق الأوسط الجديد”

“الهيمنة قديمة قدم البشرية نفسها…” -زبيغنيو بريجنسكي، المستشار الأسبق للأمن القومي الأميركي.
تم تقديم مصطلح “الشرق الأوسط الجديد” New Middle East للعالم في حزيران (يونيو) 2006 من تل أبيب. وقدمته وزيرة الخارجية الأميركية في ذلك الوقت، كوندوليزا رايس (التي أسندت إليها وسائل الإعلام الغربية الفضل في نحت المصطلح)، ليحل محل المصطلح الأقدم والأكثر مهابة “الشرق الأوسط الكبير” Greater Middle East.
تزامن هذا التحول في اللغة الدلالية مع افتتاح خط أنابيب “باكو-تبليسي-جيهان” لنقل النفط في شرق المتوسط. وبعد ذلك، بشرت وزيرة الخارجية الأميركية ورئيس الوزراء الإسرائيلي بمصطلح “الشرق الأوسط الجديد” ومفهومه في ذروة الحصار الإسرائيلي للبنان برعاية أنجلو-أميركية. وأخبر رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، ووزيرة الخارجية الأميركية، رايس، الإعلام الدولي بأن ثمة مشروعاً لخلق “شرق أوسط جديد”، يجري إطلاقه من لبنان.
جاء ذلك الإعلان تأكيداً لـ”خريطة طريق عسكرية” أنجلو-أميركية-إسرائيلية في الشرق الأوسط. ويتكون هذا المشروع، الذي كان في مراحل التخطيط للعديد من السنوات، من خلق قوس من عدم الاستقرار والفوضى والعنف، والذي يمتد من لبنان، إلى فلسطين وسورية، إلى العراق، والخليج العربي، وإيران، وحدود أفغانستان التي تحتلها قوات حلف شمال الأطلسي.
خرج مشروع “الشرق الأوسط الجديد” إلى العلن في واشنطن وتل أبيب، مع توقع بأن يشكل لبنان نقطة الضغط الأساسية لإعادة تنظيم وترتيب الاصطفافات في الشرق الأوسط كله، وبذلك إطلاق قوى “الفوضى الخلاقة”. وسوف يتم استخدام هذه “الفوضى الخلاقة” -التي تولِّد ظروفاً لاندلاع العنف والحرب في كل أنحاء المنطقة- بحيث تستطيع الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وفقاً لحاجاتها وأهدافها الاستراتيجية.
خريطة جديدة للشرق الأوسط
قالت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس في مؤتمر صحفي “إن ما نراه هنا (تدمير لبنان والهجمات الإسرائيلية عليه)، يجسد النمو بأحد المعاني -أي “الولادة من الألم”- لـ”شرق أوسط جديد”، ويجب أن نكون متأكدين، (يعني الولايات المتحدة)، من أن أي شيء نفعله يدفع أماماً في اتجاه تكوين شرق أوسط جديد (و) ليس العودة إلى القديم”. وقد تعرضت الوزيرة رايس للانتقادات مباشرة على تصريحها، سواء في لبنان أو على المستوى الدولي، بسبب هذا التعبير الصارخ عن اللامبالاة تجاه معاناة أمة بكاملها، والتي تتعرض للقصف العشوائي بلا تمييز من سلاح الجو الإسرائيلي.
خريطة الطريق العسكرية الأنجلو-أميركية للشرق الأوسط وآسيا الوسطى
مهدت كلمة وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، عن “الشرق الأوسط الجديد”، الأرضية. وقامت الهجمات الإسرائيلية على لبنان -التي شُنت بمصادقة كاملة من كل من واشنطن ولندن- بالمزيد من تحقيق وتجسيد الأهداف الجيو-استراتيجية للولايات المتحدة، وبريطانيا، وإسرائيل. ووفقاً للبروفسيور مارك ليفاين، فإن “جماعة عولمة النيو-ليبرالية والمحافظين، وفي النهاية إدارة بوش، سوف يربطون أنفسهم بالتدمير الخلاق كطريقة لوصف العملية التي أملوا أن يخلقوا بها نظامهم العالمي الجديد”، وأن “الفوضى الخلاقة تمثل بالنسبة للولايات المتحدة، بعبارات فيلسوف النيو-ليبرالية ومستشار بوش، مايكل ليدين، ‘قوة ثورية رائعة’ لـ(…) التدمير الخلاق”.
يبدو أن العراق الذي تحتله القوة الأنجلو-أميركية، وخاصة كردستان العراق، يشكل الأرض التمهيدية لبلقنة (تقسيم) وفنلندة (تحييد) الشرق الأوسط. ويجري فعلياً وضع صيغة الإطار القانوني، في ظل البرلمان العراقي وباسم العراق الفيدرالي، لتقسيم العراق إلى ثلاثة أقسام.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن “خريطة الطريق العسكرية” الأنجلو-أميركية تعمل لتأمين الوصول إلى آسيا الوسطى عن طريق الشرق الأوسط. ويشكل الشرق الأوسط، وأفغانستان وباكستان، نقاط انطلاق لتوسيع نفوذ الولايات المتحدة إلى مناطق الاتحاد السوفياتي والجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى. ويشكل الشرق الأوسط، إلى حد ما، الطبقة الجنوبية من آسيا الوسطى. وتسمى آسيا الوسطى بدورها “الطبقة الجنوبية لروسيا” أو “الخارج القريب” لروسيا.
العديد من المفكرين الروس ومن آسيا الوسطى، والمخططون العسكريون، والاستراتيجيون، ومستشارو الأمن، والاقتصاديون والساسة، يعتبرون آسيا الوسطى (الطبقة الجنوبية لروسيا) بمثابة المنطقة الهشة و”الخاصرة اللينة” للاتحاد الروسي.
من الجدير ملاحظة أن مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، زبغنيو بريجنسكي، ألمح في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى: التفوق الأميركي وضروراته الجيو-استراتيجية” إلى أن الشرق الأوسط المعاصر يشكل أداة للسيطرة على منطقة يسميها هو، بريجنسكي، البلقان الأوراسي. ويتكون البلقان الأوراسي من القوقاز (جورجيا، وجمهورية أذربيجان، وأرمينيا) وآسيا الوسطى (كازاخستان، أوزبكستان، قيرغيستان، طاجاكستان، تركمانستان، أفغانستان)، وإلى حد ما كل من إيران وتركيا. وتشكل كل من تركيا وإيران التخوم الأبعد شمالاً للشرق الأوسط (باستثناء القوقاز) وتتداخل حدودهما مع أوروبا غرباً والاتحاد السوفياتي السابق شرقاً.
خريطة “الشرق الأوسط الجديد”
كانت الخريطة غير المعروفة نسبياً للشرق الأوسط، وأفغانستان التي يحتلها الناتو، وباكستان، قيد التداول في أوساط الدوائر الاستراتيجية، الوعسكرية، والناتو، والدوائر السياسية والعسكرية منذ أواسط العام 2006. وقد سُمح بظهورها إلى العلن، ربما في محاولة لبناء إجماع، وتهيئة الرأي العام بشكل عام لتغييرات محتملة ربما تكون كارثية في الشرق الأوسط. ومرفقة بهذا المقال خريطة الشرق الأوسط بعد إعادة ترسيمه وهيكلته ليكون “الشرق الأوسط الجديد”.
ومع أن الخريطة المرفقة لا تعكس رسمياً عقيدة وزارة الدفاع الأميركية، فقد تم استخدامها في برنامج تدريبي لكبار ضباط الجيش في كلية الدفاع التابعة لحلف شمال الأطلسي. كما تم استخدام هذه الخريطة، إلى جانب خرائط أخرى مشابهة، في الأكاديمية الوطنية للحرب، وتم استخدامها أيضاً مع خرائط عسكرية أخرى في دوائر التخطيط العسكري.
يبدو أن هذه الخريطة لـ”الشرق الأوسط الجديد” قد اعتمدت على خرائط أخرى عدة، بما فيها خرائط أقدم للحدود الممكنة في الشرق الأوسط، والتي تعود وراءً إلى عهد الرئيس الأميركي ووردو ويلسون والحرب العالمية الأولى. لكن هذه الخريطة الجديدة قُدمت على أنها من بنات أفكار الكولونيل المتقاعد من الجيش الأميركي، رالف بيترز، الذي يعتقد أن الحدود معادة الترسيم الواردة في الخريطة سوف تحل مشكلات الشرق الأوسط المعاصر بشكل جذري.
شكلت خريطة “الشرق الأوسط الجديد” عنصراً أساسياً في كتاب الكولونيل المتقاعد، “لا تترك القتال أبداً”، الذي كُشف عنه النقاب للجمهور في 10 حزيران (يوليو) 2006. كما تم نشر هذه الخريطة للشرق الأوسط معاد الرسم أيضاً، تحت عنوان “حدود الدم: كيف سيبدو شرق أوسط أفضل”، في مجلة القوات المسلحة التي يصدرها الجيش الأميركي، مع تعليق من رالف بيترز.
ومن الملف أن ذلك الكولونيل، بيترز، أُرسل في نهاية المطاف إلى نائب رئيس هيئة الأركان لشؤون الاستخبارات في وزارة الدفاع الأميركية، وكان من أبرز مؤلفي وزارة الدفاع؛ حيث كتب العديد من المقالات حول الاستراتيجية للمجلات العسكرية ومؤسسة السياسة الخارجية الأميركية.
وكُتب أن “كتُب (رالف بيترز) الأربعة السابقة حول الاستراتيجية كان لها أثر بالغ في الدوائر الحكومية والعسكرية”، لكن المرء سيكون معذوراً إذا تساءل عما إذا كان العكس تماماً هو الذي يحدث في واقع الأمر. هل يمكن أن يكون الكولونيل بيترز بصدد الكشف فقط عما استشرفته واشنطن ومخططوها الاستراتيجيون للشرق الأوسط؟
أياً يكن، فقد تم تقديم مفهوم إعادة ترسيم الشرق الأوسط على أنه ترتيب “إنساني” و”صالح”، والذي سوف يفيد شعوب الشرق الأوسط ومناطقه الطرفية. ووفقاً لرالف بيترز، فإن:
الحدود الدولية ليست عادلة بالكامل أبداً. لكن حجم الظلم الذي توقعه بأولئك الذين تجبرهم الحدود على العيش معاً أو تفصلهم عن بعضهم بعضاً، يصنع فرقاً هائلاً -والذي في كثير من الأحيان، الفرق بين الحرية والاضطهاد، والتسامح والعدوان، وحكم القانون والإرهاب، أو حتى بين السلام والحرب. تقع الحدود الأكثر اعتباطية وتشوهاً في العالم في أفريقيا والشرق الأوسط. ولأنها من رسم أوروبيين معنيين بمصلحتهم الذاتية (والذين كان لديهم ما يكفي من المشاكل في رسم حدودهم الخاصة)، تستمر حدود أفريقيا في التسبب بموت الملايين من السكان المحليين. لكن الحدود غير العادلة في الشرق الأوسط -بالاقتباس عن تشرشل- تولد قدراً من المتاعب أكثر كثيراً مما يمكن استيعابه محلياً.
في حين ينطوي الشرق الأوسط على مشكلات أكثر بكثير من الحدود المختلة وظيفياً وحدها -من الركود الثقافي، إلى اللامساواتية الفاضحة، إلى التطرف الديني المميت- فإن أكبر المحرمات في الكفاح لفهم أسباب فشل المنطقة الشامل ليس الإسلام، وإنما الحدود المروِّعة، وإنما المقدسة، التي يعبدها دبلوماسيونا.
بطبيعة الحال، ليس هناك أي تعديل للحدود، مهما كان جريئاً وقاسياً، والذي يمكن أن يجعل كلَّ أقلية تعيش في الشرق الأوسط سعيدة. وفي بعض الحالات، تتشابك المجموعات العرقية والدينية في الشرق الأوسط وتتزاوج فيما بينها. وفي أماكن أخرى، ربما لا تكون عمليات لمّ الشمل على أساس رابطة الدم أو المذهب الديني مفرحة تماماً كما يتوقع الذين يقترحونها حالياً. وتعالج الحدود المتصورة في الخرائط المرفقة في هذه المقالة المظالم التي عانت منها أكثر مجموعات السكان “المخدوعين” حجماً وأهمية، مثل الأكراد، والبلوش، والعرب الشيعة، لكنها تفشل مع ذلك في مخاطبة مشاكل مسيحيي الشرق الأوسط، والبهائيين، والإسماعيليين، والنقشبنديين، والكثير من الأقليات الأخرى الأقل عدداً. وثمة خطأ لا تمكن معالجته أبداً بأي مكافأة من الأراضي: الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية المحتضرة في حق الأرمن.
مع ذلك، ومع كل المظالم التي تتركها الحدود المتخيلة هنا من دون مُعالجة، فإننا من دون إجراء مثل هذه المراجعات الرئيسية للحدود، لن نرى شرقاً أوسط أكثر سلاماً أبداً.
وحتى أولئك الذين لا يستسيغون موضوع تغيير الحدود، سوف يخدمهم أن ينخرطوا في تمرين عقلي يحاول تصور تعديلٍ أكثر عدالة، ولو أنه سيظل بعيداً عن الكمال، للحدود الوطنية في المنطقة الممتدة بين مضيق البوسفور والسند. ويعني القبول بحقيقة أن الحكم الدولي لم يطور مطلقاً أدوات فعالة -باستثناء الحرب- لإعادة تعديل الحدود الخاطئة، فإن بذل جهد عقلي لفهم حدود الشرق الأوسط “العضوية” سوف يساعدنا مع ذلك على فهم مدى الصعوبات التي نواجهها وسوف نستمر في مواجهتها. إننا نتعامل مع تشويهات ضخمة من صنع الإنسان، والتي لن تكفَّ عن توليد الكراهية والعنف إلى أن يتم تصحيحها.
“خطة ضرورية”
إلى جانب الاعتقاد بأن هناك “ركوداً ثقافياً” في الشرق الأوسط، يجب ملاحظة أن رالف بيترز يعترف بأن اقتراحاته ذات طبيعة قاسية، “دراكونية”، لكنه يصر على أنها آلام ضرورية لا بد أن تعانيها شعوب الشرق الأوسط. وتتماهى هذه النظرة عن الألم والمعاناة الضروريين بشكل كبير مع اعتقاد وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، بأن قيام الجيش الإسرائيلي بتدمير لبنان كان ألماً ضرورياً، أو هي “آلام المخاض” الطبيعية من أجل خلق “الشرق الأوسط الجديد” الذي تتصوره واشنطن ولندن وتل أبيب.
بالإضافة إلى ذلك، تجدر ملاحظة كيفيات تسييس موضوع الإبادة الجماعية للأرمن واستحضارها في أوروبا من أجل إزعاج تركيا.
تم تغليف فكرة إصلاح وتفكيك وإعادة تجميع الدول القومية في الشرق الأوسط وتقديمها على أنه الحل للعداوات والمنافسات القائمة في الشرق الأوسط، لكن هذا الطرح مضلل، ومزور، ووهمي بالمطلق. ويتجنب أنصار فكرة صنع “شرق أوسط جديد” وإعادة ترسيم الحدود في المنطقة، ويفشلون، في التعامل صراحة مع جذور المشكلات والصراعات الجارية في الشرق الأوسط المعاصر. وما لا يعترف به الإعلام هو حقيقة أن كل الأزمات الرئيسية التي تعاني منها منطقة الشرق الأوسط هي نتيجة لتداخل الأجندات الأنجلو-أميركية-إسرائيلية فيها.
تجيء الكثير من المشكلات التي تؤثر على الشرق الأوسط نتيجة مفاقَمة مقصودة للتوترات الإقليمية الموجودة مسبقاً. وقد استغلت الولايات المتحدة وبريطانيا، تقليدياً، الانقسامات الطائفية، والتوترات العرقية والعنف الداخلي في أجزاء مختلفة من العالم، بما في ذلك أفريقيا وأميركا اللاتينية ومنطقة البلقان والشرق الأوسط. ويشكل العراق مثالاً واحداً من أمثلة كثيرة على استخدام الاستراتيجية الأنجلو-أميركية: “فرق تسد”. ومن الأمثلة الأخرى رواندا، ويوغسلافيا، والقوقاز وأفغانستان.
من بين المشكلات القائمة في الشرق الأوسط المعاصر، ثمة الافتقار إلى الديمقراطية الحقيقة، التي كانت السياسات الخارجية الأميركية والبريطانية تعمل على عرقلتها بشكل متعمد. وأصبح تحقيق “الديمقراطية” على النمط الغربي مطلوباً فقط في تلك الدول الشرق أوسطية التي لا تنصاع لمطالب واشنطن السياسية، وما تزال تعمل بثبات كذريعة للمواجهة. وثمة الكثير من الدول غير الديمقراطية التي ليست لدى الولايات المتحدة مشكلات معها، لأنها مصطفة بحزم في داخل المدار الأنجلو-أميركي.
بالإضافة إلى ذلك، عملت الولايات المتحدة بدأب على تعطيل أو الإطاحة بالحكومات الديمقراطية بشكل أصيل في الشرق الأوسط، من إيران في العام 1953 (حيث رعت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة انقلاباً ضد الحكومة الديمقراطية لرئيس الوزراء مصدق)، إلى الكثير جداً من الدول العربية؛ حيث يدعم التحالف الأنجلو-أميركي سيطرة العسكر، ونظم الحكم المطلقة، والزعماء الطغاة بشكل أو بآخر. ولعل آخر مثال على ذلك هو ما يحدث في فلسطين.
الاحتجاج التركي في كلية الناتو العسكرية في روما
أثارت خريطة المقدم رالف بيترز لـ”الشرق الأوسط الجديد” ردود فعل غاضبة في تركيا. ووفقاً لتصريح صحفي تركي يوم 15 أيلول (سبتمبر) 2006، فإن خريطة “الشرق الأوسط الجديد” كانت معروضة في الكلية العسكرية لحلف الناتو في العاصمة الإيطالية، روما. وذُكِر أيضاً أن الضباط الأتراك غضبوا على الفور من عرض تركيا مختزلة ومجزأة في الخريطة. ولا بد أن تكون هذه الخريطة قد تلقت شكلاً ما من أشكال الموافقة من الأكاديمية الوطنية للحرب في الولايات المتحدة قبل كشف النقاب عنها أمام ضباط الناتو في روما.
في رد الفعل، اتصل رئيس هيئة الأركان المشتركة التركية، الجنرال بويوكانيت، برئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، الجنرال بيتر بيس، واحتج على عرض الخريطة معادة الرسم للشرق الأوسط، وأفغانستان وباكستان. وعلى الأثر، خرجت وزارة الدفاع الأميركية عن صمتها لتعمد إلى طمأنة تركيا إلى أن الخريطة لا تعكس السياسة الرسمية للولايات المتحدة وأهدافها في المنطقة، لكن هذا يبدو متعارضاً مع تصرفات التحالف الأنجلو-أميركي في المنطقة وفي محمية الناتو في أفغانستان.
هل هناك صلة بين خطة بريجنسكي “البلقان الأوراسي”، وبين مشروع “الشرق الأوسط الجديد”؟
فيما يلي مقتطفات وفقرات رئيسية من كتاب مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي “رقعة الشطرنج الكبرى: التفوق الأميركي وضروراته الجيو-استراتيجية”. وفيه يذكر بريجنسكي أيضاً أن كلاً من تركيا وإيران، الدولتين الأكثر قوة في “شرق البلقان” واللتين تقعان على حدوده الجنوبية، “ضعيفتان من حيث الإمكان ومكشوفتان أمام الصراعات العرقية الداخلية (البلقنة)”، وأنه “إذا عانت أي منهما أو كلتاهما من عدم الاستقرار، فإن المشكلات الداخلية للمنطقة ستصبح غير قابلة للسيطرة عليها”. ويبدو أن عراقاً مبلقناً ومقسماً سيكون أفضل وسيلة لتحقيق ذلك. وبالنظر إلى ما نعرفه عن طموحات البيت الأبيض نفسه؛ فإن هناك اعتقاداً بأن “الدمار والفوضى الخلاقة” في الشرق الأوسط يشكلان أرصدة مفيدة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط؛ خلق “الشرق الأوسط الجديد”، وتوسيع خريطة الطريق الأنجلو-أميركية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى:
“في أوروبا، تستحضر كلمة “البلقان” صوراً للصراعات العرقية ومنافسات القوى الإقليمية العظمى. ولدى أوراسيا أيضاً “بلقانها”، لكن البلقان الأوراسي أكبر مساحة بكثير، وأكثر سكاناً، بل وحتى أكثر تجانساً على المستوى الديني والعرقي. إنه يقع ضمن مستطيل جغرافي واسع يشكل المنطقة المركزية لعدم الاستقرار العالمي (…) والتي تضم أجزاء من جنوب شرق أوروبا، ووسط آسيا وأجزاء من جنوب آسيا (باكستان، وكشمير، وغرب الهند)، ومنطقة الخليج الفارسي، والشرق الأوسط.
“تشكل دول البلقان الأوراسي النواة الداخلية لذلك المستطيل الواسع (…) وهي تختلف عن الطبقة الخارجية المجاورة لها بطريقة واحدة مهمة بشكل خاص: إنها تجسد فراغاً في السلطة. ومع أن معظم الدول الواقعة في الخليج الفارسي والشرق الأوسط غير مستقرة أيضاً، فإن القوة الأميركية تظل هي الحكَم النهائي في المنطقة (يعني الشرق الأوسط). وبذلك تكون المنطقة غير المستقرة في الإطار الخارجي المجار مسرحاً لهيمنة قوة واحدة، ويتحدد مزاجها بهذه الهيمنة. وعلى النقيض من ذلك، تشكل منطقة البلقان الأوراسي تذكيراً حقيقاً بالبلقان الأقدم المألوف أكثر لجنوب شرق أوروبا: وليس الأمر أن كياناته السياسية غير مستقرة فقط، وإنما هي تغري وتستدعي توغل الجيران الأكثر قوة، والذين يبدو كل واحد منهم أكثر تصميماً على معارضة هيمنة الآخر في المنطقة. إنه هذا المزيج المألوف من فراغ السلطة وامتصاص السلطة هو الذي يبرر تسمية “البلقان الأوراسي”.
“لطالما شكل البلقان التقليدي جائزة جيو-سياسية ممكنة في الصراع على التفوق الأوروبي. إن البلقان الأوراسي، الذي يضم شبكة النقل الناشئة حتماً بهدف ربط أغنى أطراف أوراسيا مع أطرافها الغربية والشرقية الأكثرها كدحاً، هو منطقة مهمة حتماً من الناحية الجيو-سياسية. وهي، بالإضافة إلى ذلك، مهمة من منظور الأمن والطموحات التاريخية لثلاثة على الأقل من جيرانها القريبين الأكثر قوة، بالتحديد، روسيا وتركيا وإيران، مع إشارة الصين أيضاً إلى اهتمام متزايد بالمنطقة. لكن دول البلقان الأوراسي هي أهم بالتأكيد كجائزة اقتصادية محتملة: حيث تقع تركزات هائلة لاحتياطيات الغاز والنفط في المنطقة، بالإضافة إلى معادن طبيعية مهمة، بما فيها الذهب”.
“من المتوقع أن يزيد استهلاك العالم للطاقة بشكل كبير في العقدين أو الثلاثة القادمة. وتتوقع وزارة الطاقة الأميركية أن يرتفع الطلب العالمي بأكثر من 50 في المائة في الأعوام ما بين 1993 و2015؛ حيث ستكون الزيادة الأكبر في الاستهلاك في الشرق الأقصى. ويولِّد زخم النمو الاقتصادي لآسيا فعلياً ضغوطاً هائلة على استكشاف واستغلال مصادر جديدة للطاقة، وتُعرف منطقة وسط آسيا وحوض بحر قزوين بأنهما يضمان احتياطيات للغاز الطبيعي والبترول، والتي تفوق بكثير تلك التي في الكويت، وخليج المكسيك وبحر الشمال”.
“يشكل الوصول إلى هذا المورد والمشاركة في ثروته المحتملة أهدافاً تثير الطموحات الوطنية، وتحفز مصالح الشركات، وتحيي الطموحات التاريخية، وتعيد بعث التطلعات الإمبريالية، وتشعل المنافسات الدولية. ويصبح الوضع أكثر قابلية للاشتعال بحقيقة أن المنطقة لا تمثل فراغاً في السلطة فحسب، وإنما غير مستقرة داخلياً أيضاً”.
(…)
“تضم منطقة البلقان الأوراسية تسعة بلدان تناسب بشكل أو بآخر الوصف السابق، مع بلدين آخرين كمرشحين محتملين. والدول التسع هي كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان، أوزبكستان، تركمنستان. أذربيجان، أرمينيا وجورجيا -وكلها كانت سابقاً جزءاً من الاتحاد السوفياتي البائد- وكذلك أفغانستان”.
“الإضافات الممكنة إلى القائمة هي تركيا وإيران، وكلاهما أكثر قابلية للحياة سياسياً واقتصادياً بكثير، وكلاهما متنافستان نشطتان على النفوذ الإقليمي في داخل منطقة البلقان الأوراسي، وبذلك تشكلان لاعبين جيو-استراتيجيين مهمين. وفي الوقت نفسه، فإنهما تظلان معرضتين لإمكانية نشوب الصراعات العرقية الداخلية. وإذا أصاب عدم الاستقرار إحداهما أو كلتيهما، فإن المشكلات الداخلية للمنطقة سوف تصبح غير قابلة للحل، في حين أن الجهود لتقييد هيمنة روسيا على المنطقة ربما تصبح جهداً عقيماً”.
إعادة رسم الشرق الأوسط
ينطوي الشرق الأوسط، ببعض المعاني، على توازٍ لافت مع دول البلقان ووسط وشرق أوروبا في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى. وفي أعقاب تلك الحرب، جرت إعادة رسم لحدود دول البلقان ووسط وشرق أوروبا. وشهدت هذه المنطقة فترة من الاضطرابات والعنف والصراع، قبل وبعد الحرب العالمية الأولى، والتي جاءت كنتيجة مباشرة للمصالح الاقتصادية والتدخلات الخارجية.
كانت الأسباب وراء نشوب الحرب العالمية الأولى أكثر شراً من التفسير المعياري الذي تعرضه الكتب المدرسية: اغتيال وريث عرش الإمبراطورية النمساوية-الهنغارية (هابسبورغ)، الأرشيدوق فرانز فرديناند، في سراييفو. كانت العوامل الاقتصادية هي الدافع الحقيقي للحرب واسعة النطاق في العام 1914.
في مقابلة أجريت معه في العام 1982، أكد نورمان دود، المصرفي السابق في وول ستريت ومحقق الكونغرس الأميركي، والذي فحص أسس إعفاءات الضرائب في الولايات المتحدة، أكد أن أولئك الأشخاص الأفراد الذين سيطروا من وراء الكواليس على تمويل وسياسات وحكومة الولايات المتحدة، كانوا قد خططوا في الحقيقة لتوريط الولايات المتحدة في الحرب، وهو ما سيسهم في تقوية قبضتهم على السلطة.
الشهادة التالية مقتطفة من نص مقابلة نورمان دود مع إدوارد جي. غوفِن:
“نحن الآن في العام 1908، السنة التي بدأت فيها مؤسسة كارنيغي عملياتها. وفي تلك السنة، أثار اجتماع مجلس الأمناء، للمرة الأولى، سؤالاً محدداً، والذي ناقش الحاضرون من خلاله رصيد العام، بطريقة مستنيرة للغاية. وكان السؤال كما يلي: هل هناك أي وسائل معروفة أكثر فعالية من الحرب، بافتراض أنك تريد تحويل حياة الشعب كامل؟ وخلصوا إلى أنه، ليست هناك أي وسائل معروفة للإنسانية أكثر فعالية لتحقيق هذه الغاية، غير الحرب. وهكذا في ذلك الحين، في العام 1909، أثاروا السؤال الثاني، وناقشوه، وبالتحديد: كيف يمكن أن نورط الولايات المتحدة في حرب؟
“حسناً، إنني أشك فيما إذا كان هناك، في ذلك الوقت، أي موضوع أكثر نأياً عن تفكير معظم مواطني هذا البلد (الولايات المتحدة)، من توريطها في حرب. كانت هناك عروض متقطعة (حروب) في البلقان، لكنني أشك كثيراً فيما إذا كان الكثير من الناس يعرفون حتى أين تقع منطقة البلقان نفسها. وأخيراً، أجابوا عن السؤال كما لي: يجب علينا أن نسيطر على وزارة الخارجية”.
“عندئذ، أثار ذلك بطبيعة الحال سؤالاً عن كيف يمكننا أن نفعل ذلك؟ وأجابوا عنه بالقول: يجب أن نستولي ونسيطر على الآلة الدبلوماسية لهذا البلد، وأخيراً، استقروا على اعتبار ذلك هدفاً. ثم، يمر الوقت، ونصبح أخيراً في حرب، والتي ستكون الحرب العالمية الأولى. وفي ذلك الوقت، يسجلون في محضرهم تقريراً صادماً يرسلون فيه برقية للرئيس ويلسون، ويحذرونه فيها ليتأكد من أن لا تنتهي الحرب بسرعة كبيرة. وفي النهاية، بطبيعة الحال، تنتهي الحرب.
“في ذلك الوقت، ستحول اهتمامهم إلى منع حدوث ما يسمونه: ارتداد الحياة في الولايات المتحدة إلى ما كانت عليه قبل العام 1914، عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى”.
تستجيب إعادة رسم وتقسيم الشرق الأوسط، من شواطئ شرق المتوسط في لبنان وسورية والأناضول (آسيا الصغرى)، إلى الجزيرة العربية والخليج الفارسي، والهضبة الإيرانية، يستجيب لفائدة أهداف اقتصادية واستراتيجية وعسكرية عريضة، والتي تشكل جزءاً من أجندة أنجلو-أميركية-إسرائيلية طويلة الأمد في المنطقة.
لقد تم تكييف الشرق الأوسط وتهيئته على يد القوى الخارجية ليكون برميل بارود جاهز للانفجار، مع صمام تفجير مناسب، ربما إطلاق غارات جوية أنجلو-أميركية و/أو إسرائيلية ضد إيران وسورية. ويمكن أن تُسفر حرب أوسع نطاقاً عن شرق أوسط بحدود معادة الترسيم، والتي تكون مفيدة استراتيجياً للمصالح الأنجلو-أميركية ولإسرائيل.
الآن، تم تقسيم محمية الناتو في أفغانستان بنجاح، في كل شيء إلا الاسم. وتم غرس العداوات في بلاد الشام؛ حيث تجري تغذية حرب أهلية فلسطينية وتأجيج الانقسامات في لبنان. وقد تمكن حلف الناتو من عسكرة منطقة شرق البحر المتوسط. ويواصل الإعلام الغربي شيطنة سورية وإيران، مع منظور تبرير تطبيق أجندة عسكرية. وبالإضافة إلى ذلك، غذى الإعلام الغربي، على أساس يومي، أفكاراً غير صحيحة ومنحازة تقول إن سكان العراق لا يستطيعون أن يتعايشوا معاً، وأن الصراع هناك ليس حرب احتلال، وإنما “حرب أهلية”، موسومة بالصراع المحلي بين الشيعة والسنة والأكراد.
كانت محاولات خلق العداوات قصداً بين الجماعات الدينية والعرقية والثقافية للشرق الأوسط عملاً منهجياً. وهي في الحقيقة جزء من أجندة استخباراتية مصممة بعناية.
بل إن الأكثر شؤماً، هو أن العديد من حكومات الشرق الأوسط تساعد واشنطن في إثارة الانقسامات بين سكان الشرق الأوسط. والهدف النهائي هو إضعاف حركة المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي من خلال تشغيل “استراتيجية فرق تسد”، التي تخدم المصالح الأنجلو-أميركية والإسرائيلية في المنطقة الأوسع.

مهدي داريوس نازمروايا

صحيفة الغد